شهر رمضان… أحداث وتاريخ

الأربعاء 3رمضان 1437/ 8 يونيو/حزيران 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

الشيخ صفوت الشوادفي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

‏فقد حلَّ بنا شهرٌ كريم، فَرَض الله علينا صيامَه، وسنَّ لنا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قيامه.

‏ويتميَّز هذا الشهر عمَّا سواه بالحِرْص من الجميع على الإقبال على الله، الطائعين ‏والعاصين على سواء.

ويختصُّ هذا الشهرُ بأحداث عظيمة وقعتْ فيه، تحتاج مِن كلِّ مسلِم إلى تذكُّر وتدبُّر ‏وتفكُّر؛ لينتفعَ بمواضعِ العبرة، ويجني بها الثمرة‏·

فمنها، بل أهمها على الإطلاق: بدايةُ نزول الوحي الكريم على رسول الله – ‏صلَّى الله عليه وسلَّم – في غار حراء، وقد جلس في خلوته يتعبَّد، فنزل عليه ‏جبريل – عليه السلام – بأوَّل كلمة قرآنية، فكانت: {اقْرَأْ}، وهي دعوة إلى ‏العِلم الذي يصل العبدَ بربه وخالقِه، ويدرك به الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ ‏مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ويرفع منزلةَ صاحبه ودرجته: {هَلْ ‏يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]؟ والجواب قطعًا لا ‏يستوون، ‏وفي بدءِ نزول القرآن في رمضان على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو في الغار ‏يتعبَّد – تنبيهٌ لطيف على أنَّ رمضان هو شهرالقرآن، وأنَّه شهر العبادة الخاصَّة‏‏، وأنَّه شهر الانقطاع إلى الله، متمثِّلاً في الاعتكاف، وقد اختاره الله لذلك من بين ‏سائر الشُّهور، مع أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان ينقطع إلى العبادة في غار ‏حِراء في غيره من الشهور، فاختيار هذا الشهر علامةٌ على فضله وارتفاعِ درجته ‏دونَ غيره.‏

ومِن الأحداث التي وقعتْ في رمضان (غزوة بدر الكبرى)، وذلك في السابع ‏عشر من رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة، وكان في هذه الغزوة المباركة أوَّل ‏انتصار حاسِم للإسلام على الكفر، وقد ظَهَر فيها بوضوح مددُ الله وتوفيقه ‏لأوليائه الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه؛ كما قال الله – عز وجل -: {فَلَمْ ‏تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ‏‏.‏

اقرأ أيضا  سفير القدس: الاعتداء الصهيوني على المسجد الأقصى يزيد المقاومة

ولَمَّا أخذ المؤمنون بأسباب النصر مِن صِدق الإيمان، وحُسنِ التوكُّل على الله، واليقين في ‏وعده: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، والإخلاص، وسلامة القلْب، ‏وإعداد العدَّة، والصبر عندَ اللِّقاء – أقول: لَمَّا أخذ المجاهدون بهذا كلِّه أنزل الله ‏ملائكتَه إلى ميدان القِتال، ومَن يقوى على مواجهةِ الملائكة؟!

وفي ذلك يقول الله – عز وجل -: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ‏ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ ‏بَنَانٍ} [الأنفال: 12].‏

ولن ينتصرَ المسلمون على أعدائهم إلاَّ إذا انتصروا على أنفسهم وكبحوا جماحَها، ‏وشهر رمضان هو خيرُ معين بعدَ الله للانتصار على النفس الذي هو طريقُ النصر ‏على الأعداء؛ ولذلك سمَّى بعضُ العلماء جهادَ النفس (الجهاد الأكبر)؛ تنبيهًا على هذا المعنى ‏الجليل، ولم يصح فيه حديث.

وفي شهر رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة فُرِضت زكاة الفطر التي هي ‏طُهرةٌ للصائم، وطُعْمة للمساكين، ومن لطائف أحكامها أنَّها تجب على مَن يملك ‏قوتَ يوم وليلة، وهذا نصابها، وهو ميسور لكل فقير، وهذا يعني أنَّها تجب على الفقراء، فلمَن يُعطيها الفقير؟ ‏يُعطيها لفقير آخَرَ.

وهو لا يخرج إلاَّ هذه الزكاة، فيعتادُ على العطاء والجود، وإن ‏كان فقيرًا، ويخرج بها الفقيرُ من بيته ليلةَ العيد قاصدًا بيتَ فقير آخر، فيلقاه ‏أخوه الفقير، وقد حَمَل كلٌّ منهما زكاتَه لصاحبه، فيتبادلان الزكاة! إنَّها ‏درسٌ عملي في العطاء والجود، والكرم والسخاء.

اقرأ أيضا  حوادث إسلاموفوبيا تواجه المسلمين أثناء سفرهم

وفي السنة الخامسة من الهجرة في رمضان كان الاستعدادُ لغزوة الخندق، أو (‏الأحزاب) التي انتصر فيها المسلمون بفَضل الله ورحمته بغير قتال ولا معركة، ‏سوى مبارزات ومناوشات محدودة؛ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا ‏خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].‏

وفي شهر رمضان كان الفتحُ الأكبر (فتح مكة)، وكان ذلك في الحادي ‏والعشرين من رمضان في السَّنة الثامنة من الهجرة، وكان هذا الفتح ثمرةَ جهادٍ ‏طويل بالسيف واللسان لسنوات طويلة، قد تحلَّى فيها المؤمنون الصادقون بالصبر ‏واليقين.‏

ولا يتَّسع المقام هنا لتفصيل هذا الحَدَث العظيم، لكن ينبغي على كلِّ صائم وصائمة ‏أن يرجع إلى كتبِ السُّنة والسِّيَر؛ ليقرأَ تاريخ فتح مكة، وما وَقَع فيه من مواقف؛ ‏لينتفع بذلك انتفاعًا عظميًا يعجز القلمُ عن وصفه، واللِّسان عن بيانه.‏

وفي شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة تحطَّمت بعدَ فتح مكة رموزُ ‏الشِّرْك، وتهاوت الأصنام التي عبدَها الناس من دون الله دهورًا طويلة، فقد ‏بعث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – خالد بن الوليد؛ ليهدمَ إلهَ المشركين الأكبر (‏العُزَّى)، فهدمها، وبعث عمرَو بن العاص فهدَم (اللاَّت)، وبعثَ سعد ‏بن زيد الأشهلي فهدَم (مناة)، وكان ذلك إعلانًا صريحًا بأنَّ القلوب يجب عليها أن تتعلَّق بالله، ولا تلتفتْ إلى ‏أحد سواه من الأحياء أو الأموات، أو الأصنام أو الأضرحة، وهذا هو التوحيد الذي ‏جاء به رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.‏

اقرأ أيضا  الجهاد الإسلامي: متمسكون بالمقاومة ولا نعترف بخيارات التسوية الهزيلة التي ضيعت فلسطين والقدس

وفي شهر رمضان أقبلتْ وفودٌ على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – تُعلِن ‏إسلامها من قبائل شتَّى، وبلاد متفرِّقة بعدَ أن أيقنت أنَّ هذا الدِّين هو الحق من ‏عند الله العزيز الحكيم، وهكذا دَخَل الناس في دِين الله أفواجًا.‏

وفي شهر رمضان المبارك حَدَثت انتصاراتٌ عظمية غير ما ذكرناه لا يتَّسع ‏المقام لبسطها، ولعلَّ من أبرزها هذه الانتصارات الرائعة التي أحرزها المجاهدُ ‏صلاح الدين الأيوبي على الصليبيِّين، وأدركه شهر رمضان منتصرًا وهو صائم في ‏سنة 584 هـ، فأشار عليه رجالُه أن يرتاحَ في شهر الصوم، فخاف على نفسِه ‏من انقضاء الأجَلِ قبلَ إكمال النصر، فواصل زحفَه حتى استولى على قلعة (‏صفد) الحصينة في منتصف رمضان من نفس العام.

ونحن – العربَ – قد حاربْنا إسرائيل في العاشر من رمضان سنة 1393 هـ، فكان ‏انتصارُنا بقَدْر إقبالنا على الله، وكانت هزيمتنا بقدر إعراضنا عن الله، ولأنَّنا ‏خلطنا أعمالنا السيِّئة بأعمالنا الصالحة، وجمعْنا في حياتنا بين الطاعة ‏والمعصية، فقد جَمَع الله لنا بين حلاوةِ النصر، ومرارة الهزيمة؛ {وَأَنَّ اللَّهَ ‏لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182].‏

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وآله وصحبه وسلَّم.‏

-الألوكة-

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.