كيف نزل القرآن؟ – الشيخ صلاح نجيب الدق
الجمعة 3 شوال 1437/ 8 يوليو/ تموز 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
الحمد لله ﴿ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 1، 2]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى الخاتم إلى أهل الأرض، والقرآن العظيم له منزلةٌ عظيمة في قلوب المسلمين؛ من أجلِ ذلك أحببت أن أذكر نفسي وأحبابي المؤمنين الكرام بكيفية نزول القرآن، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
مراحل نزول القرآن:
نزل القرآن الكريم على مرحلتين:
- المرحلة الأولى: نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا؛ وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]، وقوله تعالى:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، فدلَّت هذه الآيات على أن القرآن أنزل جملة واحدة في ليلة القدر.
روى النسائي عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: أنزل القرآن جملةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنةً، قال: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33]، وقرأ: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]؛ (السنن الكبرى للنسائي جـ 6 صـ 421 حديث 11372).
- المرحلة الثانية: نزول القرآن منجَّمًا – أي مفرَّقًا – بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، على قلب النبي صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة؛ (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ 1 صـ 116: صـ 119).
قال الله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
جبريل يعرض القرآن كاملًا على النبي صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مِشيتها مَشْيُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحبًا بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسَرَّ إليها حديثًا، فبكت، فقلت لها: لمَ تبكين؟ ثم أسَرَّ إليها حديثًا فضحكت، فقلت: ما رأيتُ كاليوم فرحًا أقرب من حزنٍ، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشيَ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فسألتها؟ فقالت: أسَرَّ إلي: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنةٍ مرةً، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنكِ أول أهل بيتي لحاقًا بي))،فبكيت، فقال: ((أما ترضَين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين؟!))، فضحكتُ لذلك؛ (البخاري حديث: 3623).
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): المراد من معارضته له بالقرآن كل سنةٍ: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى؛ ليُبقي ما بقي، ويُذهب ما نسخ توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره عليه السلام على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم عليه السلام اقتراب أجَله؛ (تفسير ابن كثير جـ 1 صـ 70).
حكمة نزول القرآن مفرَّقًا:
كانت الكتب السماوية السابقة تنزل على الرسل جملةً واحدةً، كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وقد اعتَرَض المشركون على نزول القرآن مفرَّقًا، فبيَّن الله تعالى ذلك الاعتراض في القرآن، فقال سبحانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
كان لنزول القرآن الكريم مفرَّقًا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حِكمٌ كثيرةٌ، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
الحكمة الأولى: تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الناس، فوجد منهم نفورًا وقسوة، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فُطروا على الجفوة، وجُبلوا على العناد، يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت، مع رغبته الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم، حتى قال الله فيه: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، فكان الوحيُ يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة، بما يثبت قلبه على الحق، ويشحَذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته، لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه،فإنها سحابةُ صَيف عما قريبٍ تنقشع،يبين الله له سنته في الأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وأن قومه لم يكذِّبوه إلا علوًّا واستكبارًا، فيجد صلى الله عليه وسلم في ذلك السنة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ، التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 33، 34]، ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [آل عمران: 184].
ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسلُ مِن قبله: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].
ويُطمئن نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمرَ المكذبين:﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 10، 11].
وهذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].
وكلما اشتد ألَمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكذيب قومه، وداخَله الحزن لأذاهم، نزل القرآن دعمًا وتسلية له، يهدد المكذبين بأن الله يعلم أحوالهم، وسيجازيهم على ما كان منهم: ﴿ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [يس: 76]، ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يونس: 65].
كما يبشِّره الله تعالى بآيات المنعة والغلبة والنصر: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، ﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 3]، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
وهكذا كانت آيات القرآن تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعًا؛ تسلية له بعد تسلية، وعزاءً بعد عزاءٍ، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه، ولا يستبدَّ به الأسى، ولا يجد اليأس إلى نفسه سبيلًا، فله في قصص الأنبياء أسوة، وفي مصير المكذبين سَلْوى، وفي العِدة بالنصر بُشرى، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت التسلية، فثبت قلبه على دعوته، واطمأن إلى النصر،وهذه الحكمة هي التي رد الله تعالى بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
قال أبو شامة (رحمه الله): “فإن قيل: ما السر في نزوله منجمًا؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه، فقال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]، يعنون: كما أُنزل على مَن قبلَه مِن الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي أنزلناه مفرَّقًا ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي لنقوِّيَ به قلبك؛ فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثةٍ كان أقوى للقلب، وأشد عنايةً بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة؛ ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان؛ لكثرة نزول جبريل عليه السلام؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 1 صـ 231).
الحكمة الثانية: التحدي والإعجاز.
تمادى المشركون في غيِّهم، وبالغوا في عتوهم، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحدٍّ يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته، ويسوقون له من ذلك كل عجيب من باطلهم؛ كعلم الساعة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ [الأعراف: 187]، واستعجال العذاب: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ [الحج: 47]، فيتنزل القرآن بما يبين وجه الحق لهم، وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33]؛ أي: ولا يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إلا أتيناك نحن بالجواب الحق، وبما هو أحسن معنًى من تلك الأسئلة التي هي مِثْلٌ في البطلان،وحيث عجبوا من نزول القرآن منجمًا بيَّن الله لهم الحق في ذلك؛ فإن تحدِّيَهم به مفرَّقًا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخلُ في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقالَ لهم: جِيئوا بمثله؛ ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحِقُّ لك في حكمتنا وبما هو أبينُ معنًى في إعجازهم، وذلك بنزوله مفرقًا.
أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصحَّحه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ﴾ [الإسراء: 106] مثقَّلة، قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة، فكان المشركون إذا أحدَثوا شيئًا، أحدَث الله لهم جوابًا، ففرَّقه الله في عشرين سنة؛ (الدر المنثور للسيوطي جـ 5 صـ 345).
الحكمة الثالثة: تيسير حفظ القرآن وفهمه لأمة لا تعرف القراءة ولا الكتابة:
لقد نزل القرآن الكريم على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، سِجلُّها ذاكرة حافظة، ليس لها دراية بالكتابة والتدوين حتى تكتب وتدون، ثم تحفظ وتفهم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 157]، فما كان للأمة الأمية أن تحفظ القرآن كله بيُسر لو نزل جملة واحدة، وأن تفهم معانيَه وتتدبر آياته، فكان نزوله مفرَّقًا خيرَ عونٍ لها على حفظه في صدورها، وفهم آياته، كلما نزلت الآية أو الآيات حفِظها الصحابة، وتدبروا معانيَها، ووقفوا عند أحكامها، واستمر هذا منهجًا للتعليم في حياة التابعين.
روى البيهقيُّ عن عمر رضي الله عنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا خمسًا؛ (الدر المنثور للسيوطي جـ 5 صـ 346).
روى ابن عساكر عن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعَشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمسَ آيات خمسَ آيات؛ (الدر المنثور للسيوطي جـ 5 صـ 346).
روى أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيعٍ، عن خالد بن دينارٍ، عن أبي العاليةِ، قال: تعلَّموا القرآن خمسَ آياتٍ خمسَ آياتٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخُذُه خمسًا خمسًا؛ (مصنف ابن أبي شيبة جـ 6 صـ 117 رقم: 29930).
الحكمة الرابعة: مسايرةُ الحوادث، والتدرُّجُ في التشريع:
لقد كان القرآن الكريم في أول نزوله يتناول أصول الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين؛ حتى يستأصلَ من نفوس المشركين العقائدَ الوثنية، ويغرسَ فيها عقيدة الإسلام،وكان يأمر بمحاسن الأخلاق، التي تزكو بها النفس ويستقيم عِوَجُها، وينهى عن الفحشاء والمنكر؛ ليقتلع جذور الفساد والشر،ويبين قواعد الحلال والحرام التي يقوم عليها صرح الدين، وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب والأموال والأعراض والدماء،ثم تدرَّج التشريع بالأمة في علاج ما تأصل في النفوس من أمراض اجتماعية،بعد أن شرع لهم من فرائض الدِّين وأركان الإسلام ما يجعل قلوبهم عامرة بالإيمان، خالصة لله، تعبُدُه وحده لا شريك له،كما كان القرآن يتنزل وفق الحوادث التي تمر بالمسلمين في جهادهم الطويل لإعلاء كلمة الله؛ولهذا كلِّه أدلتُه من نصوص القرآن الكريم إذا تتبعنا مكيَّه ومدنيَّه، وقواعد تشريعه.
ففي مكة شُرعت الصلاة، وشرع الأصل العام للزكاة مقارنًا بالربا؛قال الله تعالى: ﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 38، 39].
ونزلت سورة الأنعام – وهي مكية – تبين أصول الإيمان، وأدلة التوحيد، وتندِّد بالشرك والمشركين، وتوضح ما يحل وما يحرم من المطاعم، وتدعو إلى صيانة حرمات الأموال والدماء والأعراض؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 151، 152].
ثم نزَل بعد ذلك تفصيلُ هذه الأحكام؛فأصول المعاملات المدنية نزلت بمكة، ولكن تفصيل أحكامها نزل بالمدينة؛ كآية المداينة، وآيات تحريم الربا،وأسس العلاقات الأسرية نزلت بمكة، أما بيان حقوق كل من الزوجين، وواجبات الحياة الزوجية، وما يترتب على ذلك من استمرار العِشرة أو انفصامها بالطلاق، أو انتهائها بالموت، ثم الإرث، أما بيان هذا فقد جاء في التشريع المدني.
وأصل الزنا حُرِّم بمكة؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، ولكن العقوبات المترتبة عليه نزلت بالمدينة،وأصل حرمة الدماء نزل بمكة؛ قال جل شأنه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33]، ولكن تفصيل عقوباتها في الاعتداء على النفس والأطراف نزل بالمدينة،وأوضح مثال لذلك التدرُّجِ في التشريع: تحريمُ الخمر؛ فقد نزل قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 67] في مقام الامتنان بنعمه سبحانه – وإذا كان المراد بالسُّكْر ما يُسكِر من الخمر، وبالرزق ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب، وهذا ما عليه جمهور المفسرين – فإن وصف الرزق بأنه حسن دون وصف السُّكْر يُشعر بمدح الرزق والثناء عليه وحده دون السُّكْر،ثم نزل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]، فقارنت الآية بين منافع الخمر: فيما يصدُرُ عن شربها من طرَب ونشوة، أو يترتب على الاتجار بها من ربح، ومضارِّها: في إثم تعاطيها وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم، وفساد في العقل، وضياع للمال، وإثارة لبواعث الفجور والعصيان، ونفَّرت الآية منها بترجيح المضارِّ على المنافع.
ثم نزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر في الأوقات التي يستمر تأثيرها إلى وقت الصلاة؛ حيث جاء النهي عن قربان الصلاة في حال السُّكْر حتى يزول عنهم أثره، ويعلَموا ما يقولونه في صلاتهم.
ثم نزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91]، فكان هذا تحريمًا قاطعًا للخمر في الأوقات كلها.
روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “إنما نزل أولَ ما نزل منه سورةٌ من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندَع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تَزْنوا، لقالوا: لا ندَع الزنا أبدًا؛ (البخاري حديث: 4993).
وهكذا كان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث.
أُعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين، حتى قال رجلٌ: لن نُغلَب من قلة، فتلقوا درسًا قاسيًا في ذلك، ونزل قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 25 – 27].
وحين تخلَّف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لديهم عذرًا، هجَرهم وقاطعهم، حتى ضاقوا ذرعًا بالحياة، ثم نزل القرآن بقَبول توبتهم؛قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 117، 118].
الحكمة الخامسة: الدلالة القاطعة على أن القرآن تنزيل من الله تعالى.
إن هذا القرآن الذي نزل منجمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثرَ مِن عشرين عامًا تنزل الآية أو الآيات على فترات من الزمن – يقرؤه الإنسان ويتلو سُوَره فيجده محكَمَ النَّسْج، دقيق السبك، مترابط المعاني، رصين الأسلوب، متناسق الآيات والسور، كأنه عِقد فريد نُظمت حبَّاته بما لم يُعهَد له مثيل في كلام البشر؛قال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1] ولو كان هذا القرآن من كلام البشر قيل في مناسبات متعددة، ووقائعَ متتالية، وأحداث متعاقبة – لوقع فيه التفكُّك والانفصام، واستعصى أن يكون بينه التوافقُ والانسجام؛قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ذِروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن الكريم – لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه برقاب بعض في وحدة وترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم، أو ما يدانيه اتساقًا وانسجامًا،فكيف بكلام سائر البشر وأحاديثهم؟!قال جل شأنه: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 117: 107)، (مناهل العرفان جـ 1 صـ 53: صـ 62).
الاستفادة من نزول القرآن مفرَّقًا في التربية والتعليم:
تعتمد العملية التعليمية على أمرينِ أساسيين:
(1) مراعاة المستوى الذهني للطلاب.
(2) تنمية قدرات الطلاب العقلية والنفسية والجسمية بما يوجهها وجهة سديدة إلى الخير والرشاد.
ونحن نلاحظ في حكمة نزول القرآن منجمًا ما يفيدنا في مراعاة هذين الأمرين على النحو الذي ذكرناه آنفًا؛ فإن نزول القرآن الكريم تدرَّج في تربية الأمة الإسلامية تدرُّجًا فِطريًّا لإصلاح النفس البشرية، واستقامة سلوكها، وبناء شخصيتها، وتكامل كيانها، حتى استوت على سوقها، وآتت أكلها الطيب بإذن ربها لخير الإنسانية كافة.
وكان تنجيمُ القرآن خيرَ عونٍ لها على حفظه وفهمه ومدارسته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه.
وبين نزول القرآن في مطلع الوحي بالقراءة والتعليم بأداة الكتابة: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 – 5]، ونزول آيات الرِّبا والمواريث في نظام المال، أو نزول آيات القتال في المفاصلة التامة بين الإسلام والشرك – بين ذاكوهذا مراحل تربوية كثيرة لها أساليبها التي تلائم مستوى المجتمع الإسلامي في تدرُّجه من الضعف إلى القوة، ومن القوة إلى شدة البأس.
والمنهج الدراسي الذي لا يراعى فيه المستوى الذهني للطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم وبناء جزئيات العلوم على كلياتها والانتقال من الإجمال إلى التفصيل، أو لا يراعي تنمية جوانب الشخصية العقلية والنفسية والجسمية – منهج فاشل، لا تجني منه الأمة ثمرة علمية سوى الجمود والتخلُّف.
والمدرِّس الذي لا يعطي طلابه القدر المناسب من المادة العلمية فيثقل كاهلهم ويحملهم ما لا يطيقون حفظًا أو فهمًا، أو يحدثهم بما لا يدركون، أو لا يراعي حالهم في علاج ما يعرض لهم من شذوذ خُلقي أو يفشو من عادات سيئة، فيقسو ويتعسف، ويأخذ الأمر دون أناة ورويَّة، وتدرج وحكمة -المدرس الذي يفعل ذلك يحوِّل العملية التعليمية إلى متاهات موحشة، ويجعل غُرَف الدراسة قاعات منفِّرة للدارسين.
وقِسْ على هذا الكتاب المدرسي؛ فالكتاب الذي لا تنتظم موضوعاته وفصوله، ولا تتدرج معلوماته من السهل إلى الصعب، ولا تترتب جزئياته ترتيبًا محكمًا منسقًا، ولا يكون أسلوبه واضحًا في أداء المعنى المقصود – كتاب ينفِّر الطالب من قراءته، ويحرمه من الاستفادة منه.
والهديُ الإلهي في حكمة نزول القرآن منجَّمًا هو الأسوة الحسنة في صياغة مناهج التعليم، والأخذ بأمثل الطرق في الأساليب التربوية بقاعة الدرس، وتأليف الكتاب المدرسي؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 118: 117).
الفرق بين القرآن المكي والمدني:
المكيُّ: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بالمدينة، والمدنيُّ: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 1 صـ 187).
ضوابط معرفة السور المكية:
(1) كل سورةٍ فيها “كَلَّا” فهي مكيةٌ، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن الكريم.
(2) كل سورةٍ فيها سجدة فهي مكيةٌ.
(3) كل سورةٍ فيها حروف المعجم (حروف التهجي) فهي مكيةٌ، إلا البقرة وآل عمران، وفي الرعد خلافٌ.
(4) كل سورةٍ فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكيةٌ، سوى البقرة.
(5) كل سورةٍ فيها قصة آدم وإبليس فهي مكيةٌ، سوى البقرة.
(6) كل سورةٍ فيها: يا أيها الناس، وليس فيها يا أيها الذين آمنوا فهي مكيةٌ، وفي الحج اختلافٌ.
ضوابط معرفة السور المدنية:
(1) كل سورةٍ ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنيةٌ.
(2) كل سورةٍ فيها الإذن بالجهاد، وبيان لأحكام الجهاد فهي مدنية.
(3) كل سورةٍ فيها ذكر المنافقين فمدنيةٌ، سوى العنكبوت؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 1 صـ 188)، (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ 1 صـ 48: 47).
أنواع السور المكية والمدنية:
قد تكون السورة كلها مكية، وقد تكون كلها مدنية، وقد تكون السورة مكية ما عدا آيات منها، وقد تكون مدنية ما عدا آيات منها، فتلك أربعة أنواع:
مثال للنوع الأول: سورة المدثر، فإنها كلها مكية.
مثال للنوع الثاني: سورة آل عمران، فإنها كلها مدنية.
مثال للنوع الثالث: سورة الأعراف، فإنها مكية،ما عدا آية: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ [الأعراف: 163].
مثال للنوع الرابع: سورة الحج، فإنها مدنية، ما عدا أربع آيات منها، تبتدئ بقوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ﴾ [الحج: 52] إلى قوله: ﴿ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ [الحج: 55]؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 199).
خصائص أسلوب القرآن المكي:
يمكن أن نوجز خصائص أسلوب القرآن المكي فيما يلي:
1 – الدعوة إلى التوحيد وعبادةِ الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية، والآيات الكونية.
2 – وضع الأسس العامة للتشريع والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سَفْك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، ووَأْد البنات، وما كانوا عليه من سُوء العادات.
3 – ذِكر قصص الأنبياء والأمم السابقة؛ زجرًا لهم؛ حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يصبر على أذاهم، ويطمئن إلى الانتصار عليهم.
4 – قِصَرُ الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصُخُّ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعَق القلوب، ويؤكد المعنى بكثرة القسم، كقِصار المفصَّل، إلا نادرًا؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 63).
خصائص أسلوب القرآن المدني:
يمكن أن نوجز خصائص أسلوب القرآن المدني فيما يلي:
1 – بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحُكْم، ومسائل التشريع.
2 – مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنِّيهم على الحق، واختلافهم من بعدِما جاءهم العلم؛ بَغْيًا بينهم.
3 – الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزالة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الإسلام.
4 – طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضِّح أهدافها؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 64).
السور التي نزلت بمكة:
روى ابن الضريس عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أول ما نزل من القرآن بمكة، وما أنزل منه بالمدينة الأول فالأول، فكانت إذا نزلت فاتحة سورةٍ بمكة فكتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما أنزل من القرآن: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، ثم (ن والقلم)، ثم (يا أيها المزمل)، ثم (يا أيها المدثر)، ثم (الفاتحة)، ثم (تبت يدا أبي لهبٍ)، ثم (إذا الشمس كورت)، ثم (سبح اسم ربك الأعلى)، ثم (والليل إذا يغشى)، ثم (والفجر وليالٍ عشرٍ)، ثم (والضحى)، ثم (ألم نشرح)، ثم (والعصر)، ثم (والعاديات)، ثم (إنا أعطيناك الكوثر)، ثم (ألهاكم التكاثر)، ثم (أرأيت الذي يكذب)، ثم (قل يا أيها الكافرون)، ثم (ألم تر كيف فعل ربك)، ثم (أعوذ برب الفلق)، ثم (أعوذ برب الناس)، ثم (قل هو الله أحدٌ)، ثم (والنجم إذا هوى)، ثم (عبس وتولى)، ثم (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، ثم (والشمس وضحاها)، ثم (والسماء ذات البروج)، ثم (والتين والزيتون)، ثم (لإيلاف قريشٍ)، ثم (القارعة)، ثم (لا أقسم بيوم القيامة)، ثم (ويلٌ لكل همزةٍ)، ثم (والمرسلات)، ثم (ق والقرآن)، ثم (لا أقسم بهذا البلد)، ثم (والسماء والطارق)، ثم (اقتربت الساعة)، ثم (ص والقرآن)، ثم (الأعراف)، ثم (قل أوحي)، ثم (يس والقرآن)، ثم (الفرقان)، ثم (الملائكة)، ثم (كهيعص)، ثم (طه)، ثم (الواقعة)، ثم (طسم الشعراء)، ثم (طس النمل)، ثم (القصص)، ثم (بني إسرائيل)، ثم (يونس)، ثم (هود)، ثم (يوسف)، ثم (الحِجر)، ثم (الأنعام)، ثم (الصافات)، ثم (لقمان)، ثم (سبأ)، ثم (الزمر)، ثم (حم المؤمن)، ثم (حم السجدة)، ثم (حم عسق ثم الزخرف)، ثم (الدخان)، ثم (الجاثية)، ثم (الأحقاف)، ثم (الذاريات)، ثم (هل أتاك حديث الغاشية)، ثم (الكهف)، ثم (النحل)، ثم (إنا أرسلنا نوحًا)، ثم (سورة إبراهيم)، ثم (الأنبياء)، ثم (المؤمنون)، ثم (تنزيل السجدة)، ثم (الطور)، ثم (تبارك الملك)، ثم (الحاقة)، ثم (سأل سائلٌ)، ثم (عم يتساءلون)، ثم (النازعات)، ثم (إذا السماء انفطرت)، ثم (إذا السماء انشقت)، ثم (الروم)، ثم (العنكبوت)، ثم (ويلٌ للمطففين).
فهذا ما أنزل الله عز وجل بمكة، وهي ست وثمانون سورةً.
السور التي نزلت بالمدينة:
قال ابن عباسٍ: أنزل بالمدينة: (سورة البقرة)، ثم (الأنفال)، ثم (آل عمران)، ثم (الأحزاب)، ثم (الممتحنة)، ثم (النساء)، ثم (إذا زُلزلت)، ثم (الحديد)، ثم (سورة محمدٍ)، ثم (الرعد)، ثم (سورة الرحمن)، ثم (هل أتى على الإنسان)، ثم (يا أيها النبي إذا طلقتم)، ثم (لم يكن)، ثم (الحشر)، ثم (إذا جاء نصر الله)، ثم (النور)، ثم (الحج)، ثم (المنافقون)، ثم (المجادلة)، ثم (الحجرات)، ثم (لِمَ تُحرِّمُ)، ثم (الجمعة)، ثم (التغابن)، ثم (الحواريون)، ثم (الفتح)، ثم (المائدة)، ثم (التوبة)،فذلك ثمانٌ وعشرون سورةً،فجميع القرآن مائة سورةٍ وأربع عشرة سورةً؛ (فضائل القرآن ـ لابن الضريس صـ 33 حديث: 17).
فوائد معرفة القرآن المكيِّ والمدنيِّ:
(1) تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفًا للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي؛ نظرًا إلى تأخر المدني عن المكي.
(2) معرفة تاريخ التشريع وتدرُّجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد.
(3) الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالمًا من التغيير والتحريف.
ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام، حتى لَيعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف، إلى غير ذلك، فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدًا يمسه ويعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ: 195).
تعدُّد أسماء السور:
قد يكون للسورة اسم، وهو كثيرٌ، وقد يكون لها اسمان؛ كسورة البقرة،يقال لها: فسطاط القرآن؛ لعِظَمها وبهائها، وآل عمران يقال: اسمها في التوراة طيبةٌ، حكاه النقاش، والنحل تسمى سورة النعم؛ لِما عدَّد الله فيها من النعم على عباده، وسورة: ﴿ حم * عسق ﴾ [الشورى: 1، 2] وتسمى الشورى، وسورة الجاثية وتسمى الشريعة، وسورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتسمى القتال، وقد يكون لها ثلاثة أسماءٍ؛ كسورة المائدة والعقود والمنقذة،وكسورة غافرٍ والطَّول والمؤمن؛ لقوله: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ ﴾ [غافر: 28].
وقد يكون لها أكثر من ذلك؛ كسورة براءة والتوبة والفاضحة والحافرة؛ لأنها حفَرت عن قلوب المنافقين.
وكسورة الفاتحة، ذكر بعض العلماء لها بضعةً وعشرين اسمًا: الفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، والحمد.
وسميت مثاني؛ لأنها تثنى في الصلاة، والوافية؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، والكنز، والشافية، والشفاء، والكافية، والأساس؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 1 صـ 270: 269).
اختصاص كل سورة بما سميت به:
ينبغي النظرُ في وجه اختصاص كل سورةٍ بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعي في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادرٍ أو مستغربٍ يكون في الشيء من خلقٍ أو صفةٍ تخصه، أو تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائي للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز؛ كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم؛ لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها، وعجيب الحكمة فيها، وسُميت سورة النساء بهذا الاسم؛ لِما تردَّد فيها من كثيرٍ من أحكام النساء، وتسمية سورة الأنعام؛ لِما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ [الأنعام: 142] إلى قوله: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [الأنعام: 144] لم يرِدْ في غيرها، كما ورد ذكر النساء في سورٍ إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرِدْ في غير سورة النساء، وكذا سورة المائدة لم يرِدْ ذِكر المائدة في غيرها، فسميت بما يخصها.
فإن قيل: قد ورد في سورة هودٍ ذكر نوحٍ وصالحٍ وإبراهيم ولوطٍ وشعيبٍ وموسى عليهم السلام، فلِمَ تختص باسم هودٍ وحده؟ وما وجه تسميتها به وقصة نوحٍ فيها أطول وأوعب؟ قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هودٍ والشعراء بأوعب مما وردت في غيرها، ولم يتكرر في واحدةٍ من هذه السور الثلاث اسم هودٍ عليه السلام كتكرُّره في هذه السورة؛ فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته في أربعة مواضع، والتكرار من أقوى الأسباب.
وإن قيل: فقد تكرر اسم نوحٍ في هذه السورة في ستة مواضع فيها؛ وذلك أكثر من تكرار اسم هودٍ،قيل: لما جردت لذكر نوحٍ وقصته مع قومه سورةٌ برأسها، فلم يقع فيها غير ذلك، كانت أولى بأن تسمى باسمه عليه السلام من سورةٍ تضمنت قصته وقصة غيره وإن تكرر اسمه فيها، أما هودٍ فكانت أولى السور بأن تسمَّى باسمه عليه السلام.
واعلم أن تسمية سائر سور القرآن يجري فيها مِن رَعْيِ التسمية ما ذكرنا، وانظر سورة ق، لما تكرر فيها من ذكر الكلمات بلفظ القاف، ومن ذلك السور المفتتحة بالحروف المقطعة ووجه اختصاص كل واحدةٍ بما وليته، حتى لم تكن لترد (الم) في موضع (الر)، ولا (حم) في موضع (طس)، لا سيما إذا قلنا: إنها أعلامٌ لها وأسماءٌ عليها.
وكذا وقع في كل سورةٍ منها ما كثر ترداده فيما يتركب من كلمها، ويوضحه أنك إذا ناظرت سورةً منها بما يماثلها في عدد كلماتها وحروفها وجدتَ الحروف المفتتح بها تلك السورة إفرادًا وتركيبًا أكثر عددًا في كلماتها منها في نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها، فإن لم تجد بسورةٍ منها ما يماثلها في عدد كلمها، ففي اطِّراد ذلك في المماثلات مما يوجد له النظير ما يُشعر بأن هذه لو وجد ما يماثلها لجرى على ما ذكرت لك، وقد اطرد هذا في أكثرها، فحق لكل سورةٍ منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع موضع (ق) من سورة (ن) لم يمكن؛ لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله تعالى، وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها (الر) مائتا كلمةٍ وعشرون أو نحوها؛ فلهذا افتتحت بـ (الر)، وأقرب السور إليها مما يماثلها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة النحل، وهي أطول منها مما يركب على (الر) من كلمها مائتا كلمةٍ مع زيادتها في الطول عليها؛ فلذلك وردت الحروف المقطعة في أولها (الر)؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 1 صـ 272: 270).
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذُخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم،وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
-السوسنة