مفهوم القرآن الكريم بين الوحي وعلماء القرآن

الأحد2 جمادى الثانية1436//22 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بسم الله الرحمن الرحيم
سيد ولد عيسى
تقديم:
لا يَخفى على أحدٍ ما قدَّمه علماء المسلمين من عناية بالقرآن الكريم وعلومه، واهتمام بهذا الحقل المعرفي الغني، باعتباره مصدرَ المعارف، أو باعتبار أنَّ الغرض – عند علماء المسلمين – من المعارف كلها هو خدمة هذا الوحي وفَهْمه واستيعابه.

وقد قدَّم هؤلاء العلماء – بمختلف تخصُّصاتهم: عقيدة، وأصولاً، وكلامًا… إلخ – تعريفات مختلفة للقرآن الكريم، حاوَلوا من خلالها أن يَصِلوا إلى “حدٍّ” جامع مانعٍ للقرآن الكريم؛ كما في سائر العلوم الأخرى.

ورغم أنَّ القرآن الكريم – باعتباره كتابَ هداية بالدرجة الأولى – لا يهتمُّ كثيرًا بالتفاصيل الحَدِّية والتعريفات الكلاميَّة، وإنما بالأصول التي تُعتبر أساسًا لغيرها، فإنه قدَّم حديثًا طويلاً عن نفسه، وتعريفًا كثيرًا بها، فأين “حَدُّ” القرآن في هذا الحديث؟ وما مدى تجاوب “حدود” علماء القرآن معه؟ ومِمَّ تعاني تعريفات العلماء للقرآن الكريم؟ ولماذا كلُّ هذا الاختلاف في التعريفات “جمعًا ومنعًا”؟

أسئلة من بين أخرى نحاول الإجابة عنها من خلال:
• تمهيد: يوطِّئ الأرضيَّة للموضوع.

ومحورين:
• نناقش في الأوَّل تعريفات علماء القرآن للقرآن.

• ثم نناقش في الثاني: تعريف القرآن لنفسه.

• لتكون نهاية الموضوع خاتمة تُظهر أبرز النتائج والملاحظات.
تمهيد:
لا بدَّ قبل الشروع في المقصود أن نُنبِّه إلى بعض النقاط التي نراها مهمة في هذا السياق، وهي:
أولاً: ما هو مفهوم الوحي؟ وعلامَ يُطلَق؟ وما هي على علاقته بكلٍّ من القرآن والكتاب وكلام الله؟

ثانيًا: هل القرآن هو “الكتاب” المذكور في القرآن؟ أو أنَّ هناك فرقًا بين الاثنين؟ وإذا كان كذلك، فما هو الفرق؟

ثالثًا: هل القرآن هو كلام الله، أو هو غيره؟ وأيُّهما أعمُّ إذا كانا يَشتركان؟

رابعًا: ما علاقة الألفاظ الأربعة فيما بينها؟

أولاً: معنى الوحي:
ورَد ذِكر “الوحي” في القرآن باشتقاقات مختلفة في مرات كثيرة، فورَد بلفظ الماضي ثلاث عشرة مرة، كلها بمعنى المنزَّل من عند الله إلاَّ قوله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 4 – 5]، فإنها بمعنى الإذن، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ﴾ [طه: 38]، فهي بمعنى الإلهام.

ورَد بلَفْظ المضارع اثنين وعشرين مرَّة، كلها بمعنى المنزَّل من عند الله تعالى إلاَّ ثلاث، هي:

قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]، فإنه يعني أنّه يُلقي الملقي منهم القولَ الذي زيَّنه وحَسَّنه بالباطل إلى صاحبه؛ ليَغترَّ به مَن سَمِعه، فيضلَّ عن سبيل الله”[1].

وقوله: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12]، فهي بمعنى الإلهام والأمر[2].

وقوله: ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ [طه: 38]؛ أي: ألْهَمناها[3].

وورَد الاسم منه مرتين في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 51]، وفي قوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4].

أنواع الوحي ومظاهِره:
وقد أورَد الله تعالى تلك الأنواع في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 51].

وقد ورَد عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قوله: ((أحيانًا يأتيني مثل صَلصلة الجَرَس، وهو أشده عليّ، فيَفْصِم عني، وقد وَعيْتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثَّل لي الملك رجلاً فيُكَلِّمني، فأعي ما يقول))[4].

فهذه كلها مظاهر للوحي عنده – صلَّى الله عليه وسلَّم – إضافة إلى ما يَنفث في رَوْعه؛ ((نَفَث في رَوعي أنه لن تموتَ نفس؛ حتى تستكملَ رزقها))[5].

ومن هنا، وانطلاقًا من مفهوم الوحي في القرآن، نَخلُص إلى كونه أعمَّ من القرآن ومن الكتاب ومن كلام الله، فمِن الوحي ما هو كلام الله، ومنه ما ليس كذلك، منه الإشارة – كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا﴾ [مريم: 11] – ومنه: “الإلهام والهداية والإرشاد”[6]؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [النحل: 68].

ويبقى السياقُ هو الذي يحدِّد المعنى، وإن كان الإحصاء الذي أشرْنا إليه يؤكِّد أنَّ الوحي – الذي هو بمعنى المنزَّل من عند الله – هو المفهوم الغالب في القرآن.

ثانيًا: القرآن والكتاب:
1- هل القرآن هو الكتاب؟
قال الزركشي: “الكتاب القرآن، وقِيل: بل متغايران”[7]، واستدلَّ كلُّ طرف بأدلَّته، وبشكل موجز يمكن أن نقول: إن القرآن والكتاب يجتمعان في نقاط ويختلفان في أخرى، فمن خلال تتبُّع الدَّلالات المختلفة للفظة الكتاب في القرآن، وجَدنا أنهما يجتمعان حينًا ويختلفان أحيانًا أخرى، ما لَم ينتبه له الطرفان؛ حيث كلٌّ يؤيِّد رأْيَه بغَضِّ النظر عن الرأي الآخر؛ يدل لذلك ما قاله الزركشي بعد كلامه السابق مؤيِّدًا لرأي نفسه؛ حيث قال: “ورَد بقوله تعالى عن الجنِّ: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، وقال في موضع آخر: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [الأحقاف: 30]، فدلَّ على ترادُفهما وهو أمُّ الدَّلائل، وفيه البيان لجميع الأحكام؛ قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89][8].

بل وصَل الأمر ببعضهم إلى أن ادَّعى الإجماع على اتحاد معنى الكتاب والقرآن، فقال في ذلك: “الكتاب: القرآن عند العلماء الأعيان، بدليل قول مَن نزَّل الفرقان: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29] إلى قوله: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [الأحقاف: 30]، والمسموع واحد، وبدليل قوله تعالى في آية أخرى: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [الجن: 1 – 2]، والإجماع مُنعقد على اتحاد اللفظين”[9].

وبناءً على هذا نجد إجابة السؤال الثاني:
1- هل الكتاب والقرآن شيء واحد، أو شيئان متغايران؟ نجدها حاضرة؛ حيث هناك عموم وخصوص بينهما، فالقرآن أخصُّ من الكتاب، فالكتاب يشمل القرآن، بينما القرآن لا يشمل بالضرورة الكتاب، أو بعبارة أخرى: فدَلالة الكتاب على القرآن دلالة “تضمُّنٍ”، في حين دلالة القرآن على الكتاب دَلالة “التزامٍ”، وليتَّضِح الفرق أكثر، لا بد من أن نطرحَ السؤال التالي:

• ما الفرق بين القرآن والكتاب؟ ولنَترك القرآن الكريم – من خلال استقرائنا للمعاني التي ورَدَت للكتاب فيه – يتولَّى الإجابة بنفسه.

• معاني الكتاب في القرآن الكريم، ورَد لفظ “الكتاب” في القرآن الكريم لأحد عشر معنًى تقريبًا، سنُجملها مع التمثيل فيما يلي:
1- الكتاب مرادف للقرآن، وقد ورَد الكتاب بهذا المعنى في آيات كثيرة، من بينها:

• قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 3].

• قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

• قوله تعالى: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 1 – 2].

• قوله تعالى: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الزخرف: 1 – 3].

وغيرها من الآيات التي تُفيد ترادُفَ الكتاب والقرآن، والتي تُدرَك من خلال السياق.

2- الكتاب بمعنى التوراة، وذلك في آيات متعددة من القرآن؛ منها:
• قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ [البقرة: 87].

• قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ [الفرقان: 35].

• قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [المؤمنون: 49].

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تؤكِّد هذا المعنى.

3 ¬- الكتاب بمعنى العُدَّة، وقد ورَد مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ [البقرة: 235].

4- الكتاب بمعنى الكتابة[10]، وذلك في آيتين، هما:

• قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48].

• قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [المائدة: 110].

5- الكتاب بمعنى صُحف إبراهيم، وذلك في قوله تعالى:
• ﴿ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 54].

6- الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ، وذلك في قوله تعالى:
• ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38].

• وقوله: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].

• وقوله: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].

• قوله: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

إلى غير ذلك من الآيات، وهناك معنًى آخر قريب من هذا، وهو:
1- الكتاب بمعنى المكتوب في اللوح المحفوظ، وذلك في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [الأعراف: 37].

2- الكتاب بمعنى جنس الكتب السماوية، أو التوراة والإنجيل وحْدهما كما توحي به بعض السياقات، وذلك في قوله تعالى:

• ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [الشورى: 17].

اقرأ أيضا  تفسير سورة الملك عدد آياتها 30 وهي مكية

• ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121].

• ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [البقرة: 146].

• ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ [القصص: 52].

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.

3- الكتاب بمعنى الإنجيل، وذلك في قوله تعالى:
• ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ﴾ [مريم: 30]، وقوله: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48].

4- الكتاب بمعنى المكاتبة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ [النور: 33].

5- الكتاب بمعنى كتاب جزاء الأعمال؛ كما في قوله تعالى:
• ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ [الكهف: 49].

• وقوله: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾ [الزمر: 69].

وبعد هذه الجولة السريعة مع الكتاب ومعانيه في القرآن، ندخل للشِّق الثاني وهو: ما العلاقة بين كلام الله والقرآن؟

المسلمون متفقون تقريبًا على أنَّ القرآن كلام الله، إلاَّ الجهميَّة من المعتزلة، لكنَّ السؤال: هل كل كلام الله القرآن؟ أو أن القرآن ليس من كلام الله؟ أو أن هناك لله كلامًا غير القرآن؟

ذلك ما نَستنطق القرآن عنه، فيجيب:
– معاني كلام الله في القرآن الكريم، وقد جاء كلام الله في القرآن الكريم بثلاثة معانٍ[11]، هي:
1- كلام الله بمعنى التوراة، وذلك في قوله تعالى:
• ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].

• قوله: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].

2- كلام الله بمعنى القرآن، وذلك في قوله تعالى:
• ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].

3- كلام الله بمعنى وَعْده وقَضائه وقَدَره؛ كما في قوله تعالى:
• ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 15].

فهذه المعاني الثلاثة هي ما لاحَظنا في القرآن الكريم، وبناءً عليه:
• فلله كلام غير القرآن.

• وكلام الله إذًا أشْمَل من القرآن.

• والقرآن من كلام الله، وليس كلَّ كلام الله.

وبعد هذا الإيضاح نَنتقل إلى السؤال الثالث، وهو:
ما العلاقة بين هذه الألفاظ الثلاثة: “الكتاب – القرآن – كلام الله”؟

وسنحاول أن نرتِّبها هرميًّا كما يتَّضِح لنا، وذلك على النحو التالي:
1- الكتاب: هو أشمل هذه المعاني كما يتَّضِح مما مرَّ، فهو يعمُّ القرآن وغيره من الكتب السماويَّة.

2- كلام الله: وهو الذي يَليه في العموم، إلاَّ أنَّ نسبة العموم بينه وبين الكتاب نسبة عموم وخصوص وجهي، فهو وإن كان أخصَّ منه من حيث لَم يدخل فيه “الإنجيل” صريحًا؛ فإنه أعمُّ منه، من حيث هو يشمل ما ليس بكتب سماوية، كالقضاء والقدر، وكلام الله الذي يتكلَّم به متى شاء، كالأحاديث القُدسية وغيرها.

3- القرآن: وهو أخصُّ هذه الألفاظ؛ إذ يشمل كلامَ الله المنزَّل على محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالعربية، دون غيره من كلام الله تعالى.

وبهذا التفريق بين هذه المعاني المختلفة، يتَّضِح المعنى المراد توضيحه في هذا التمهيد؛ ليتمَّ الانتقال مباشرة إلى المحور الأول:
المحور الأول: تعريف علماء القرآن للقرآن الكريم:
تعريفات: إنَّ أغلب تعريفات علماء القرآن الكريم له متقاربة في ألفاظها، بل وينقلها اللاحق منهم عن السابق كثيرًا، بحيث لا تكاد تخرج عن إطار محدود، يظهر فيما يلي:

التعريف اللغوي:
1- يقول الإمام الشوكاني: “والقرآن في اللغة: مصدر بمعنى القراءة، غلَب في العُرف العام على المجموع المعيَّن من كلام الله – سبحانه – المقروء بألْسِنة العباد”[12].

2- وقال الإسنوي: “والكتاب في الأصل جنس، ثم غلَب على القرآن مِن بين الكتب في عُرْف أهل الشرْع”[13].

التعريف الاصطلاحي: وفي الاصطلاح هناك عدة أنواع من التعريفات “الحدود”، لعلَّ من أهمها:
أ- الحد الوظيفي:
1- حد الإمام السبكي: “الكلام المنزَّل للإعجاز بسورة منه”[14].

2- حد الإمام الشوكاني: “اللفظ العربي المنزَّل للتدبُّر والتذكُّر المتواتر”[15].

3- حد الإمام الزركشي: “هو الكلام المنزَّل للإعجاز بآية منه، المتعبَّد بتلاوته”[16].

4- حد ابن النجار الحنبلي: “كلام منزَّل على محمد، معجز بنفسه، متعبَّد بتلاوته”[17]،[18].

والملاحظ أنَّ الوظيفة حُصِرت هنا في أربعة أمور، هي:
• الإعجاز: وقد ركَّز عليه ثلاثة من المعرفين السابقين، في حين كانت العناصر الأخرى واردة دون تَكرار غير:

• التعبُّد الذي تَكرَّر في التعريفين الأخيرَيْن.

• التذكُّر، وقد انفَرد به الشوكاني في تعريفه.

• التدبُّر كذلك.

وهذه الغايات كلها واردة في القرآن الكريم إلاَّ الإعجاز، فلم يردْ أنَّ القرآن نزَل من أجْله، وإنما ورَد أنه نزلَ كذلك، كما أشار إلى ذلك الغزالي – رحمه الله تعالى – ما جعَله يحذف الحد بالإعجاز من حده للقرآن.

ب- الحد الرسمي:
1- “هو الكلام المنزَّل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواترًا”[19].

2- “هو كلام الله المنزَّل على محمد المَتلو المتواتر”[20].

3- القرآن المنزَّل علينا على لسان جبريل[21]، [22].

4- “ما نُقِل إلينا بين دَفَّتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواتًرا”[23]، [24].

5- ما نُقِل إلينا بين دَفَّتي المصاحف تواتُرًا[25].

والملاحظ أن أربعًا من هذه التعريفات ركَّزت على قَيْد التواتر في التعريف، وهو قيد مهم بالفعل؛ لأنه يخرج القراءات الشاذة والكتب السماوية الأخرى، التي لَم تُنقل تواترًا – في ألفاظها على الأقل – لكنه أمْرٌ متعلق بطريقة نَقْل القرآن أكثر من تعلُّقه بالقرآن ذاته.

وأنَّ ثلاثة منها ركَّزت على المُصحفية، وهي كذلك وسيلة نَقْل، ما يعني أنَّ هذه الفكرة تخدم الفكرة السابقة وهي التواتر، وأن دورَ هذا القيد يتجلَّى أساسًا في إقصاء ما ليس مُثبتًا في المصحف عن صفة القرآنيَّة – بغَضِّ النظر عمَّن قال به – كقراءة ابن مسعود: “فصيام ثلاثة أيام متواليات”[26].

أما التعريفان اللذان لَم يذكرا المصحفية، فأحدهما اعتاض عنها بمرادف أو مقابل هو “التلاوة”، ولكنه للأسف لا يُحَقِّق الغرض؛ لأن القراءات الشاذة تتَّصِف بنوع من التلاوة.

وأمَّا التعريفُ الثاني، فقد عرف القرآن بأنَّ مُنزلَه جبريل علينا، وهذه الخِصِّيصة حقيقةً ليست جامعةً ولا دقيقة، فجبريل كان يأتي بالوحي الأنبياءَ قبلنا، وكان يأتي كذلك بغير القرآن كالأوامر الموجّهة للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من قبيل قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ جبريل نفَث في رَوْعي: أنه لن تموتَ نفس؛ حتى تستكملَ رزقها))[27]، فهو من هذه الناحية ليس بمانع، وكذلك ليس بدقيق في قوله المنزَّل علينا؛ إذ الصواب أن يقول: المنزَّل على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وإن كان من باب حَذْف المضاف، فقد يَشفع له ذلك.

ج- الحد باعتبار اللغة والصفة والغاية:
1- “كلام الله العربي الثابت في اللوح المحفوظ للإنزال”[28].

حاوَل هذا التعريف أن يُقارِبَ؛ حيث ميَّز القرآن بأهمِّ مميزٍ له وهو لُغته، ولكنه كان كسابقيه حين جاءت “فصوله” غير مفهوم، فكون القرآن في اللوح المحفوظ حقيقة لا مِراء فيها، لكنَّ كونه فيه للإنزال غيرُ دقيق، إن كان مرادَ الشوكاني؛ لأنه ما زال فيه، وإن كان مراده أنَّ القرآن للإنزال، فليس بمحقَّق؛ لأن الإنزال ليس هدفًا في حدِّ ذاته، ولَم يُحدِّد القرآن التنزيل كغاية من غايات القرآن، وإنما حدَّد الهدف من التنزيل.

وعمومًا، فهذه التعريفات كلها لَم تُلامس حقيقة التعريف القرآني المطابق من جميع النواحي لِمَا جاء في القرآن الكريم.

فمن أين نعرف التعريف؟ لنترك القرآن يتحدَّث عن نفسه بنفسه في المحور التالي:
المحور الثاني: تعريف القرآن للقرآن:
التعريف الغائي للقرآن: وقد ورَد هذا التعريف في عِدَّة نصوص من القرآن، بل هو أكثر التعريفات ورودًا في القرآن الكريم، ومن أهمِّ الغايات التي عرَّف القرآن نفسه بالقصْد إليها نصًّا:

1- غاية الهدى والبِشارة والرحمة، وذلك في آيات، منها:
• قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].

• قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 1- 2].

• قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].

• قوله تعالى: ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [الأنعام: 157].

• قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان: 2 – 3].

• قوله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].

• قوله تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102].

2- غاية النذارة: وقد ورَدت في عدة آيات من القرآن الكريم، منها:
• قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].

• قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾[الفرقان: 1].

• قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: 1].

• قوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69 – 70].

• قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].

اقرأ أيضا  الدعوة القرآنية إلى مكارم الأخلاق ومعاليها

• قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [السجدة: 3].

• قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 2].

• قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193].

3- غاية التذكرة والتدبُّر:
• قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

• قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 66 – 68].

• قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 46].

• قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].

• قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ [الإسراء: 41].

4- للعمل:
كقوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 44].

5- للإشاعة والإعلان:
كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

• وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174].

6- للبيان:
كقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [النحل: 64].

• قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

• قوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].

7- للتصديق والتفصيل:
• كقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37].

• وقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].

• قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 3].

• قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ [الأنعام: 114]،وقوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115].

8- لحَسْم الخلافات:
كقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].

• وقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [النمل: 76].

• وقوله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [الأنعام: 57].

التعريف المصدري:
أي: بحسب مصدر القرآن، وذلك في آيات، مثل:
• قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزمر: 23].

• قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17].

• قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196].

• قوله تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [النحل: 102].

• قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [آل عمران: 3].

• قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

• قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

• قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 193- 194].

التعريف الوصفي:
• قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 77 – 79].

• قوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [الإسراء: 106].

• قوله تعالى: ﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الشعراء: 1- 2].

• قوله تعالى: ﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 1].

• قوله تعالى: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الزخرف: 1- 2].

• قوله تعالى: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الدخان: 1- 2].

• قوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف: 3 – 4].

• قوله تعالى: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1].

• قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [آل عمران: 3].

• قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

• قوله تعالى: ﴿ يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴾ [يس: 1 – 2].

• قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيه ﴾ [البقرة: 2].

• قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ [هود: 1].

• قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [الرعد: 1].

التعريف التأثيري:
وذلك كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 – 109].

• ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ [المائدة: 83].

• ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].

• ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].

التعريف الحدي:
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الحد الذي جاء به القرآن للقرآن، مخالفٌ للحدود الكلامية الجافة في جفافها وخشونتها، موافق لها في عِلميَّتها ودقتها – لو تحلَّت بها على الوجه الأكمل – وهو ما غفَل عنه “علماء القرآن” في حدِّهم للقرآن الكريم.

وحين نَنطلق مما كتَب العلماء في الحدود، فإنَّ الحد يحتاج إلى عنصرين رئيسين، هما:
أ- الجنس: ويعني تمييز نوع المحدود عن غيره من الأنواع.

ب- الفصل: ويعني تمييزه بخصائصه الذاتيَّة عن غيره ممَّا يشترك معه في الجنس.

وحين نحاول البحث في القرآن عن هذا، نجد الإجابة في آيات متعدِّدة، تكفينا في الأمرين معًا:
• الجنس: يوضِّح القرآن جنسه بقوله: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 163 – 166].

فهو إذًا من جنس ما أُوحِي إلى الأنبياء السابقين؛ كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 9]، فمن هنا عرَفنا جنس الموحَى به، وأنه من جنس ما أُوحِي به إلى النبيِّين السابقين، كما يوحي به ظاهر قوله تعالى: ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [فصلت: 43][29]، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، فواضح أنَّ المنزَّل على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من جنس المنزَّل على مَن قبله من الأنبياء، وهنا تظهر ضرورة معرفة الفصل، وهي في القرآن كما يأتي:

1- الإعجاز: فميزة القرآن أنه متحدٍّ بلفظه[30]؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور: 33 – 34]، ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [هود: 13]، وقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ [يونس: 38]، وقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23]، وقال: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، فهذا الإعجاز والتعجيز هو الميزة الأولى للقرآن الكريم في مجال “الفصل”[31].

2- التفاوت في التنزُّل: وهذه ميزة أخرى تُميِّزُ القرآنَ عن غيره من الكتب السماوية، وتَفصل بينه وبينها، وقد بيَّنها الله تعالى في غير ما آية؛ قال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 32 – 33]، وقال: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، فهو منزَّل بتفاوت على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بخلاف باقي الكتب السماوية الأخرى.

3- عدم الكتابة: والميزة الثالثة أنَّ هذا القرآن منزَّل شفويًّا لا كتابيًّا، كما كان في الكتب السابقة؛ قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾[الشعراء: 193- 194]، وقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 19 – 21]، وقال: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 48 – 49]، فهو إذًا منزَّل على أُمي لا يقرأ ولا يَكتب بشكلٍ شفوي، وهذه ميزة خاصة بهذا الكتاب الكريم.

اقرأ أيضا  أثر القرآن فى التقدم الحضارى للبشرية لا ينكر

4- العالَميَّة: فقد كانت الكتب تُنَزَّل فقط لأُمة النبي “المُرْسَل إلى قومه خاصة”، بينما القرآن دعوة عالمية؛ قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، فهي رسالة للعالم والمُرْسَل بها مُرْسَل لسائر الأمم والشعوب؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ [سبأ: 28].

فهذه إذًا أهم عناصر “الفصل” في “حدِّ” القرآن الكريم كما جاء فيه[32].

وخير ما نختم به هذا الورقة ما قالَه – صلَّى الله عليه وسلَّم – في شأن القرآن من أنه: ((كتاب الله فيه خبَرُ ما قبلكم، ونَبَأُ ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهَزل، هو الذي لا تَزيغ به الأهواء، ولا يَشبع منه العلماء، ولا يَخلَق عن كثرة ردٍّ، ولا تَنقضي عجائبه، هو الذي مَن ترَكه من جبَّار قصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، هو حَبل الله المَتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي مَن عَمِل به أُجِر، ومَن حَكَم به عدَل، ومَن دعا إليه، هُدِي إلى صراط مستقيم))[33].

فهذه إذًا جولة حاولت تلمس المفهوم ومعرفة دلالاته وأبعاده من خلال القرآن الكريم نفسه، ثم من خلال أهم الكتب والمؤلفات المتعلقة بعلومه وتفسيره، فما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، وما كان من صواب فمن الله سبحانه.

وفي الختام، فهذا جهد المقل، والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

________________________________________
[1] تفسير الطبري، سورة الأنعام الآية: 112.
[2] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، سورة الأنفال الآية: 12.
[3] المصدر السابق، سورة طه، الآية: 38.
[4] صحيح البخاري، رقم2.
[5] مسند البزار برقْم 2914.
[6] ابن كثير؛ تفسير القرآن العظيم، سورة النحل، الآية: 68.
[7] الزركشي؛ البحر المحيط في أصول الفقه 1/ 356؛ تحقيق د. محمد محمد تامر، ط: دار الكتب العلمية 2000.
[8] المصدر السابق، نفس الصفحة.
[9] الإسنوي، نهاية السول شرح منهاج الوصول 1/ 158، الطبعة: 1، 1999م.

[10] في أحد التفسيرات كما لابن جرير الطبري؛ حيث قال: “وهو الخط الذي يخطُّه بيده”، (ج 6/ 422)، وقد قيل فيها غير ذلك، لكنَّ هذا الوجه هو الأظهر – إن شاء الله.
[11] وهناك معنًى آخر ورَد به الكلام مسندًا إلى الله – جل جلاله – مرادًا به الخطابَ على ما يوحي به السياق، وذلك في آيتين، هما:
قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]، ويَقرب من هذا قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ [الرعد: 31].
[12] إرشاد الفحول؛ الشوكاني، (ج1 – 85)، الطبعة الأولى، 1419هـ – 1999م.
[13] الإسنوي؛ نهاية السول شرح منهاج الوصول،1/ 158، الطبعة: 1، 1999م.
[14] وهذا التعريف ذكَره علي بن عبدالكافي السبكي في: “الإبهاج في شرح المنهاج” (1/ 190، ط: 1 دار الكتب العلمية، 1404هـ)، فقال: “الكتاب هو القرآن، وهو الكلام المنزَّل للإعجاز بسورة منه، وقد خرَج بقولنا: المنزَّل، الكلام النفسي، وكلام البشر، وبالإعجاز الأخبار الربَّانيَّة، وسائر الكتب المنزَّلة؛ كالتوراة والإنجيل والزبور، إن لَم يقلْ: إنها معجزة، وقولنا: بسورة منه؛ أي: ببعضٍ، ولو ساوى أقصر سورة منه كالكوثر، وخرَج بذلك سائر الكتب المنزَّلة، إن قيل بإعجازها، فإنها حينئذٍ وإن أُنْزِلت للإعجاز، لكن لَم يكن الإعجاز بسورة منها، وهذا التعريف صادق على الآية، وعلى بعضها أيضًا؛ لأنه يصدق عليها أنْ قَدر سورة من نوعها معجزة”.
[15] الشوكاني؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 1/ 85؛ تحقيق الشيخ أحمد عزو عناية، ط: 1، دار الكتاب العربي 1999م.
[16] الزركشي؛ البحر المحيط في أصول الفقه، ط: دار الكتب العلمية، 2000م، 1/ 356، م. س.
[17] ابن النجار الحنبلي؛ شرح الكوكب المنير، 2/ 89؛ تحقيق محمد الزحيلي، ونزيه حماد، ط: 2، مكتبة العُبيكان، 1997.
[18] ثم لَمَّا تكلَّم عن تعريف الكلام، أرْدَف: “اعْلَم أنه لَمَّا ذكَر أنَّ القرآن كلام منزَّل، احتاجَ إلى تبيين موضوع لفظ الكلام، وما يتناوله لفظ الكلام: حقيقةً أو مجازًا.
وتُسمَّى هذه المسألة مسألة الكلام، وهي أعظم مسائل أصول الدين، وهي مسألة طويلة الذَّيل، حتى قيل: إنه لَم يسمَّ علم الكلام إلاَّ لأجْلها؛ ولذلك اختلَف فيها أئمة الإسلام المُعتبرين، المقتدى بهم اختلافًا كثيرًا متباينًا”؛ المصدر السابق، 2/10.
[19] الشوكاني؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 1/ 85؛ تحقيق الشيخ أحمد عزو عناية، ط: 1، دار الكتاب العربي 1999م.
[20] قال الشوكاني بعد أن ذكَر عِدة تعريفات أخرى أعرَضنا عن ذِكرها؛ ميلاً للاختصار من ناحية، ولكونها منقولة عن آخرين أوْرَدناها عنهم من ناحية أخرى: “وهذا لا يرد عليه ما ورَد على الحدود، فتدبَّر”، ما يعني تزكيته له واعتماده عليه دون غيره؛ الشوكاني: 1/ 86، م . س.
[21] الآمدي؛ الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 211؛ تحقيق: د. سيد الجميلي، ط: 1، دار الكتاب العربي، 1404هـ.
[22] وهذا القَيْد لا ندري لماذا؟ وهو قد بيَّنَ الاستغناءَ عنه بعد أَسطُر واعتمَد أنه: “كلام الله المنزَّل” فقط؛ المصدر السابق، ونفس الصفحة.
[23] الغزالي؛ المستصفى 1/ 81، ط: دار الكتب العلمية 1913، وانظر: الآمدي في كتابه: “الإحكام في أصول الأحكام”: (1/ 211م).
[24] وقال الغزالي أيضًا: “فإن قيل: هلاَّ حَدَّدتموه بالعجز، قلنا: لا؛ لأن كونه معجزًا يدلُّ على صِدق الرسول – عليه السلام – لا على كونه كتابَ الله تعالى لا محالة؛ إذ يُتَصَوَّر الإعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى، ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب”؛ المصدر السابق، والصفحة نفسها.
[25] التفتازاني: سعد الدين؛ شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، 1/ 46؛ تحقيق: زكريا عميرات، ط: 1، دار الكتب العلمية، 1996م، وانظر: إرشاد الفحول؛ للشوكاني: (1/ 85 م. س).
[26] الطبري: ابن جرير، 3/ 561.
[27] مسند البزار برقْم 2914.
[28] الشوكاني؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 1/ 85، مصدر سابق.
[29] مع ملاحظة أنَّ هذه الآية أوَّلَها الإمام الطبري – رحمه الله تعالى – بأنَّ معناها: “ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذِّبون ما جِئتهم به من عند ربِّك، إلاَّ ما قد قاله مَن قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك”؛ جامع البيان، ج/ 21، ص: 481، ويوحي كلام ابن كثير بأنه يرى غير ذلك، أو اطَّلَع على غير ذلك، وإن لَم يَذكره؛ حيث قال: “وهذا اختيار ابن جرير، ولَم يَحكِ هو، ولا ابن أبي حاتم غيرَه”؛ تفسير القرآن العظيم، 3/ 183.
[30] بغَضِّ النظر عن باقي أنواع الإعجاز الأخرى، كالإعجاز التشريعي وغيره في القرآن الكريم.
[31] وهذا الإعجاز وإن كان من الخصائص الذاتية للقرآن، إلاَّ أنه ليس هدفًا من أهداف تنزيله، فهو صفة وليس غاية، كما مرَّ بنا سابقًا مع الإمام أبي حامد الغزالي، وكما هو وارد في القرآن نفسه؛ حيث حدَّد غاياته في آيات كثيرة، ولَم يذكر الإعجاز من بينها، بينما ذكَره في أوصافه الذاتية، وبالتالي يكون الإعجاز وصفاً ذاتيًّا لا غاية.
[32] أمَّا كون القرآن منزَّلاً للتعبُد، فهذه ليستْ من ميزاته الخاصة، وإنما هي عامة يَشترك فيها هو وغيره من الكتب السماوية؛ كما بيَّن الله تعالى ذلك في غير ما آية من كتابه، خاصة في نَعْيه على اليهود تحريفَهم الكَلِمَ عن مواضعه، وتعطيلهم لحدِّ “الرَّجم في التوراة”؛ قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 84 – 85]، وقال: بعد أن ذكَر تعطيل اليهود لحُكم الرَّجم في التوراة: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 46 – 47].
فإدراج “التعبُّد” في حدِّ القرآن الكريم مُخْرِج للسُّنة التي لا يُتَعَبَّد بلَفظها، ولكنه ليس مُخرجًا لها في ناحية “وجوب العمل بها”، وغير مُخرج كذلك للكتب السماوية في هذه الناحية.
[33] مصنَّف ابن أبي شيبة، 29427.

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.