مكة مدرسة للتحول الوطني

الخميس21رجب 1437/ 28 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. إبراهيم المطرودي
أمامي ثلاثة نصوص من نصوص رؤيتنا الجديدة، أولها لخادم الحرمين الشريفين حين قال: “نعمل على توظيف إمكانات بلادنا وطاقاتها والاستفادة من موقعها الجغرافي”، وثانيها لولي العهد في قوله:”علينا أن نستحضر دوماً أن هذه البلاد هي مهد الرسالة ومهبط الوحي”، وثالثها لولي ولي العهد إذ يقول: “نبني دولة قوية مزدهرة تتسع للجميع وتتقبل الآخر”.
هذه نصوص ثلاثة، تضع بين أيدينا معالم التحول الوطني، وتكشف عن شيء من جوانبه، وفي إمكان المرء أن يلمح هذا التحول، والدعوة إليه، من خلال مكة، ومن يأتيها من ضيوف الرحمن، فمكة المكرمة مجمع بشري عالمي، ومثل هذه التجمعات تدعو إلى التحول المستمر والتطور الدائم في الإدارة والاقتصاد والثقافة، وفي مقالي هذا أحببت أن أكشف عن شيء من وجوه التحول التي يدعونا إليه أننا صرنا خدمة بيت الله تعالى، وموئلاً لقُصّاده، والقادمين إليه.
كلّما كتب الله لي زيارة مكة، والمكث فيها، والبقاء بين قاصديها؛ يتراءى لي أنها مدرسة نموذجية للتحول الاقتصادي والإداري والثقافي، وهي مدرسة بُنيت على الدين، وشُيّدت من نصوصه..
كلّما كتب الله لي زيارة مكة، والمكث فيها، والبقاء بين قاصديها؛ يتراءى لي أنها مدرسة نموذجية للتحول الاقتصادي والإداري والثقافي، وهي مدرسة بُنيت على الدين، وشُيّدت من نصوصه، ومرادي من هذا أن الدين هو السبب الأول والأخير في تحويل مكة إلى بُقعة تجتمع فيها أصناف البشر، وتأوي إليها قلوبهم من أقصى الشرق وأقصى الغرب، فنرى فيها الشرقي القادم من إندونيسيا والصين، ونشاهد فيها الغربي القادم من إنجلترا وأميركا، فلولا الدين ما اجتمع هؤلاء في هذه البقعة، وأقبلوا عليها، وآثروها على البقاء في البلدان وبين الأهل والولدان.
جمع الدين هؤلاء الناس، وأتى بهم، وبهذا أسس لهذه البقعة المباركة أن تكون محل اجتماع، وموطن تلاق، ومكان ازدحام، ومتى كانت بقعة بهذه الصفة، وعلى تلك الحال، فهي بيئة مثالية للتحول المستمر والصيرورة الدائمة؛ إذ يلزم أهلها أن يبذلوا جهودهم في إدارتها وتنظيمها، وأن يسعوا جهدهم في حفظ هذا التدفق البشري الذي يُنعش الاقتصاد، ويُنوّع الثقافة، ويصب في ازدهار البلد، ورخاء أهله.
من يقرأ التأريخ العربي، ويطّلع على مراحله، ويعرف حقبه؛ يجد أن مكة المكرمة، مع ما تتصف به، لم يُكتب لها في ذلكم التأريخ أن تكون عاصمة دولة دائمة، ولا مقرّ حكم مستقر؛ فالعرب أنشأوا دولهم قبل الإسلام في اليمن وعلى مشارف الجزيرة في العراق والشام، وبعد الإسلام نشأت دولتهم الأولى في المدينة، ثم انتقلت إلى العراق والشام، فالعرب بعد الإسلام أخذوا سنة أسلافهم بالاتجاه شمالاً، ولم يمكثوا طويلاً في وسط الجزيرة، وهذا يثير الأسئلة في ذهن قارئ هذا التأريخ، ويدفعه إلى توقع حال الجزيرة لو كانت محل دول، ومقر حكومات في العصور الماضية فيقول: ماذا لو كانت مكة عاصمة دولة إسلامية يمتد عمرها قرنين أو ثلاثة أو أربعة؟ وكيف هي حال العرب القاطنين في تلك الجزيرة؟
على كل حال؛ التأريخ صفحاته مفتوحة أمام من يريد قراءته، ويعلم أخباره، وكل الذي يعثر عليه المطالع أن العرب قامت لهم دول في اليمن؛ أشهرها دولة سبأ، ومملكة معين، ونشأت لهم دول على أطراف الجزيرة الشمالية؛ أشهرها مملكة الحيرة (المناذرة)، ودولة الغساسنة، ولم يُسجل التأريخ لهم دولة في مدينة مكة، ويُؤخذ من هذا أن مكة لم تكن في الزمن الغابر محل اجتماع بشري، وموطن لقيا إنسانية؛ فهي مدينة دينية فقط، ولم تكن مدينة مزدهرة دنيوياً، تدعو الناس إليها، وتجعل العرب يُفكّرون في عمرانها، والمكث فيها، ولعل هذا يجعلنا نفكر من جديد في علاقة الدين بالدنيا، فنحن نشاهد من تأريخ أعز البلدان إلينا أنها لم تزدهر ازدهاراً حقيقياً، وتستقطب رؤوس الأموال، وتُحرّض الناس على المكث فيها، وقضاء أيام طوال في جنابتها؛ إلا حين أصبحت على حالها الاقتصادية التي نراها اليوم في ظل دولتنا التي تخدم هذا البيت، وتقوم على رعاية زائريه، والوقوف في خدمتهم صفاً واحداً؛ فالازدهار الاقتصادي لبلادنا مكّن لمكة أن تزدهر دينياً، وتزدحم فيها جماعات المسلمين الشرقية والغربية، فهذه المواسم الدينية التي يتقاطر لها المسلمون من كل حدب تدعونا إلى التحول الدائم والتطور المستمر.
ومن بين التحولات التي تدعونا إليها مكة، ويحضنا عليها موقعها في قلوب المسلمين، التحول الثقافي الذي يجعل الانفتاح على المختلفين أساسه، ويتخذ من التقارب مع الجميع هدفه، فنحن أهل مكة، وأهلها منتظر منهم أن يكونوا مثلها في الحفاوة بالقادمين، والفرح بهم، وما دامت مكة تستقبل المسلمين جميعاً، وإن اختلفت مذاهبهم، وتستبشر لقدومهم، وتفرح بزيارتهم، وإن تباعدت تصوراتهم، فكذلك أهل مكة يتوقع منهم أن يكونوا مثلها، ويتخذوا طريقتها، فلا يمنعهم من غيرهم اختلاف، ولا يحول بينهم وبين حسن العلاقة معهم تباين، وليس هذا بكاف في رأيي بل يُنتظر منهم أن يكونوا دعاة الانفتاح في العالم، وصورة مشرقة من صوره، وأنموذجاً صالحاً من نماذجه، وليكن هذا الانفتاح من نماذجنا التي تحدّث عنها ولي العهد قائلا: “نتطلع أن يكون هذا الوطن أنموذجاً فريداً بين دول العالم في مختلف المجالات”؛ فالانفتاح ازدهار للثقافة، ويقظة لها؛ كما أن فيه نهوضاً للاقتصاد، ونشاطاً له، وإذا كان من ثمار الاقتصاد وازدهاره غذاء الأجساد ورفاهيتها؛ فمن جَنى الانفتاح وعوائده غذاء العقول وحياتها، وهل للإنسان، بعد الله تعالى، عون في حفظ نعمه وديمومتها سوى عقله ويقظته؟
-الرياض-

اقرأ أيضا  النفوذ الروسي الإيراني بالشرق الأوسط.. السياق والأدوات
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.