واسجد واقترب

بسام ناصر
(معراج) –  حينما أطلق أبو جهل تهديده متوعدا الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله «لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه» لم يأبه الرسول بتهديده ذاك، ولم ترتعد فرائصه خوفا منه، بل واجه ذلك بثبات ورباطة جأش، ثقة منه بحفظ الله له وتأييده بملائكته، فقال «لو فعله لأخذته الملائكة».

في هذه الأجواء جاء الأمر الإلهي لرسوله بأن لا يلتفت إليه، ويداوم على صلاته، مهددا ذلك المتوعد بالهلاك، وجاءت خاتمة الآيات في سورة العلق آمرة الرسول بعدم طاعة ذلك المتوعد، وحاثّة له على السجود، فبه يتحقق الاقتراب من الرب، كما قال عليه الصلاة والسلام لاحقا «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».
 والمراد بالقرب هو القرب من رحمة الله وفضله، لكن لماذا كان العبد في السجود أقرب إلى الله منه في سائر أحوال الصلاة وغيرها؟ أجاب بعض العلماء بقوله «لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه، والسجود غاية التواضع وترك التكبر، وكسر النفس لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة ولا ترضى بها، ولا بالتواضع بل بخلاف ذلك، فإذا سجد خالف نفسه وبعد عنها، فإذا بعد عنها قرب من ربه».
 ومن بركات ذلك القرب وفضائله اغتنام الدعاء في تلك الحالة الشريفة، لذا جاء حث الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله «فأكثروا الدعاء»، لأنها «حالة قرب، وحالة القرب مقبول دعاؤها، لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه ويتواضع له، ويقبل منه ما يقوله وما يسأله». وفقا لشراح الحديث.
 فالله سبحانه جعل السجود الذي هو ركن من أركان الصلاة، وجزء من أجزائها، طريقا مفضيا للقرب منه، واستشعار التلذذ بمناجاته، والاغتراف من فضله، والانغماس في ألطاف رحمته، وعبر القشيري عن الاقتراب بقوله «اقتربْ من شهود الربوبية بقلبك، وقِفْ على بساط العبودية بنفسك. ويقال: فاسجد بنفسك، واقترب بسرك».
 ولما ذاق الرسول عليه الصلاة والسلام لذة السجود، التي أفضت به إلى الاقتراب من ربه، أكثر منه، وداوم عليه حتى كان من خبره ما قالته السيدة عائشة عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه، فقالت له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا».
 وقد جاء تفصيل قيامه ذاك فيما حدث به حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه… ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه».
 وكما أن السجود طريق للاقتراب، فإنه باب مفتوح لرفع الدرجات، وحظ الخطايا والذنوب، ففي صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة قال «لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة».
 وإليه أرشد الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابي ربيعة بن كعب، الذي كان يبيت معه فيأتيه بوضوئه وحاجته، فقال له عليه الصلاة والسلام: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ فقلت هو ذاك، فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود».
 والمداومة عليه كما هي المداومة على سائر النوافل، هي الطريق الموصلة ليحظى العبد بمحبة الله له، مصداقا لما جاء في الحديث القدسي «.. وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه».
 فما كان هذا شأنه وعظيم قدره وفضله، جدير بأن يكون طريقا للقرب والاقتراب، ورفع الدرجات وحط الذنوب والخطايا، والظفر بمرافقة الحبيب عليه الصلاة والسلام، في أعلى الدرجات والمقامات بجوار الكريم المنان، وحري بأهل الصلاح والاستقامة لزوم سبيله، والإكثار منه، فإنه سبيلهم لنيل درجة القرب والاقتراب في الدنيا، والتنعم في أعلى المقامات وأرفعها في الآخرة

وكالة معراج للأنباء الإسلامية

اقرأ أيضا  لمن يصوت مسلمو أمريكا.. بايدن أم ترامب؟ (تحليل)
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.