وما ربك بظلام للعبيد

الإثنين 19 ذو القعدة 1437/  22 أغسطس/ آب 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

محيي الدين محمد عطية

وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد

قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ .[1]

يقول الإمام القرطبي رحمه الله:” إذا انقضى الحساب، كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها[2]وليظهر عدل الله للبشرية كلها في ساحة الحساب فتوزن أعمال المؤمن لإظهار فضله، وتوزن أعمال الكافر لإظهار خزيه، وذله، على رؤوس الأشهاد، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:” توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة، دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة، دخل النار قيل: فمن استوت حسناته وسيئاته قال: أولئك أصحاب الأعراف[3]الذين قصرت بهم سيئاتهم فلم يدخلوا الجنة، ومنعتهم حسناتهم من أن يدخلوا النار، يحبسون على قنطره بين الجنة والنار، إذا التفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة سلموا عليهم ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ [4] أي لم يدخلوا أهل الأعراف الجنة وهم يرجون رحمه الله، ويطمعون أن يدخلوا الجنة، وإذا التفتوا إلى الناحية الأخرى، ورأوا أهل الجحيم، تضرعوا إلى الملك العليم ألا يجعلهم مع القوم الظالمين.

حقيقة الميزان:

الميزان على صورته وكيفيته، التي يوجد عليها يوم القيامة، من الغيب الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤمن به، من غير زيادة ولا نقصان، لأنه حق، ولا يعلم حقيقته وطبيعته وكيفيته ولا يقدّر قدره إلا الله سبحانه وتعالى، لكن النصوص قد دلت على أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان حسيتان[5] وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوضعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله لمن شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك[6] وقد جاء أيضا، أن كفة الحسنات من نور، والأخرى من ظلام، وأن الذرة والخردلة والحبة من أعمال العباد، من الخير والشر، لتوضع في الكفة، فتميل بها بقدرة الله قال تعالى: ﴿ إِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ .[7]

وقد روى، أن داود عليه السلام، سأل ربه، يا رب كم كفة الميزان؟ قال: يا داود إن كفة الميزان تسع أطباق السماوات والأرض، قال: يا رب ومن أين أتى بحسنات لكي أملأها قال: يا داود إذا رضيت على عبد، ملأت له كفة حسناته، ولو بشق تمرة، يتصدق بها مخلصا من أجلى[8]قال الله تعالى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ .[9]

ما الذي يوزن في الميزان؟[10]

لقد اختلف أهل العلم في الجواب على هذا السؤال على ثلاثة أقوال.

القول الأول:

إن الذي يوزن في الميزان هو الأعمال ذاتها، أي أعمال العبد من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وبر وصدقة وغير ذلك من الطيبات الصالحات.

ولكن رفض البعض وقالوا: هذه الأعمال أعراض لا أجسام، والأعراض لا توزن ولا توضع في الميزان، فكيف توزن الصلاة وهي ليست حجماً؟! وكيف توزن الزكاة وهي كذلك؟! فكيف تقولون بأن الأعمال هي التي توزن يوم القيامة؟

والجواب: أن الله جل وعلا يوم القيامة يحول الأعراض إلى أجسام توضع في الميزان يخف الميزان ويثقل بحسب الحسنات والسيئات.

والأدلة على ذلك من السنة الصحيحة كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”.[11]

وكذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق”.[12]

فحسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، بل وأخبرنا الصادق المصدوق، أن القرآن الكريم يأتي يوم القيامة ليقف أمام العبد بين يدي الله جل وعلا على هيئه غمامة، أي على هيئه ظلة على رأس العبد يوم القيامة، ليشفع له أمام اللـه، بل ويحاج القرآن عن العبد بين يدي الحق تبارك وتعالى، يقول المصطفي صلى الله عليه وسلم: “يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان[13] وبينهما شرف أو كأنهما غمامتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما ظلة من طير صواف[14] تحاجان عن صاحبهما”[15]، أي بين يدي الله جل وعلا.

كل هذه أدلة من السنة الصحيحة على أن الأعراض تتحول يوم القيامة إلى أجسام.

القول الثاني:

قالوا: بل إن الذي يوزن في الميزان هو العامل وليس الأعمال.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة صحيحة كذلك منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه، وقال: اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا”.[16]

وكذلك ما روى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه: ” صعد ابن مسعود رضي الله عنه يوماً على شجرة أراك يجني سواكاً فجعلت الريح تكفأه فضحك القوم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: مما تضحكون؟ قالوا: نضحك من دقة ساقيه يا رسول الله فقال المصطفي: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد.[17]

فالموازين إذا وضع فيها العباد لا تخف ولا تثقل بحسب ضخامة الأبدان وكثرة الشحم والدهن إنما تخف وتثقل بحسب الحسنات والسيئات.

القول الثالث:

قالوا بل إن الذي يوزن في ميزان العبد يوم القيامة هو الصحف.

واستدلوا على ذلك أيضا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعه وتسعون سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يا رب فيقول الله جل وعلا: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول اللـه، فيقول: احضروه، فيقول: يا رب ما تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات؟، فيقول: إنك لا تظلم، فوضعت السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء”.[18]

وهذا ما استدل به أصحاب الرأي الثالث. لكن ما هو القول الراجح من هذه الأقوال؟

يقول العلماء: أن الأعمال والعامل والصحف كل ذلك يوضع في الميزان يوزن العامل بأعماله وبصحفه.

ويبدأ وزن الأعمال:

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتى الميزان ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق….. سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق….. شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، [19] وهناك أناس من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم يأتون بحسنات أمثال الجبال لكنها لا تثقل الميزان ولا تؤثر فيه أتدرى لماذا؟ لأنهم كانوا إذا عرض عليهم درهم حرام وَثبُوا عليه كالذئاب فأحبط الله أعمالهم بذلك ولم يتقبل منهم حسنة واحدة وعنهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأعلمنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.[20]

اقرأ أيضا  الأوقاف اليمنية: لا صحة لإيقاف حجاج المناطق الجنوبية عن الحج

أهل البلاء لا ينصب لهم ميزان:

يؤتى بأهل البلاء، الذين صبروا على بلائهم، ورضوا بقضاء ربهم، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينصب لهم ديوان، فيصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية، ليتمنون في الموقف، أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” ليودَّن أهل العافية يوم القيامة، أن جلودهم قرضت بالمقاريض بما يرون من ثواب أهل البلاء [21]. أي يتمنى أصحاب الصحة والنّعيم حينما يرون ما أعده الله يوم القيامة للمرضى وأصحاب البلاء، لو قطعت جلودهم بآلات القطع والحدادة، حتى ينالوا الأجر مثلهم يقول الله تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ ﴾.[22]

الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة:

إن كل أعمال البر والطاعة، تثقل في الميزان، وتجعل كفة الحسنات راجحة على كفة السيئات، ولكن هناك أشياء تجعل كفة الحسنات ثقيلة جدا هي:

كلمة الإخلاص:

لا إله إلا الله، هي كلمة الإخلاص، وكلمة اليقين، التي تثقل في الميزان، وتكون سببا لنجاة صاحبها، ومما روى في هذا الشأن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى للعبد عند الميزان: إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفه، فطاشت وارتفعت وخفت السجلات وثقلت البطاقة[23]، فلا يثقل مع اسم الله شيء.

الصلاة على النبي:

إذا خفت حسنات المؤمن، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة، فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته، فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمّي ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علىّ، التي كنت تصلى علىّ، قد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها.[24]

حسن الخلق:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن الله يبغض الفاحش البذيء [25] فيا أمة الإسلام، يا أمة سيد ولد عدنان، أين الصدق؟ أين الإخلاص؟ أين الرفق؟ أين الحلم؟ أين العفو؟ أين البر؟ أين الحياء؟! أين الرجولة؟ أين الشهامة؟ أين الكرامة؟ بل أين أين…؟ أين أخلاق محمد بن عبد الله، إن رسول الله يأمركم بالصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد، وحسن الجوار، وغض البصر، يأمرك بألا تكون كذابا، أو مرتشيا، أو فاسدا مفسدا، أو ظالما، أو مطلقا لبصرك في الحرام.. فأنتم الأمة الخاتمة، أنتم أصحاب الرسالة الأخيرة، أنتم خير أمة أخرجت للناس، استمسكوا بأخلاق الرسول، تنجوا، وتعلوا، وتنصروا، في الدنيا والآخرة.

الإخلاص في العمل:

ذكر أن العبد إذا قدم إلى ميزانه، وأخرجت سجلات سيئاته، أعظم من جبال الدنيا، فإذا وجدت له صدقة طيبة تصدق بها لم يرد بها إلا وجه الله تعالى ولم يطلب بها جزاء من مخلوق، ولا رياء ولا سمعة ولا محمدة ولا شكراً فإن تلك الصدقة توضع في الميزان بأمر الملك الخلاق، فترجح على جميع سيئاته ولو كانت سيئاته مثل وزن الجبال.

تعليم العلم وتعلمه:

يجاء بعمل الرجل، فيوضع في كفة ميزانه، ويجاء بشيء مثل الغمامة أو مثل السحاب كثرة، فيوضع في كفة ميزانه، فترجح فيقال للعبد: أتدرى ما هذا؟ هذا العلم الذي تعلمته وعلمته الناس فعلموه وعملوا به بعدك.

قضاء الحاجات:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه فإن رجح وإلا شفعت له.[26]

اتباع الحق:

روي عن ابن أبى الدنيا، أنه لما حضر أبا بكر الموت، أرسل إلى عمر فقال: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، بإتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان إذا وضع فيه الحق، أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه، بإتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان إذا وضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.

التسبيح والتحميد والتهليل:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم خمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله وأكبر، والولد الصالح يتوفي للمرء المسلم فيحتسبه [27] وقال صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.[28]

المحافظة على خصلتين:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خصلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح في دبر كل صلاة عشراً، ويحمد عشراً، ويكبر عشراً، فذلك خمسون ومائه باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويسبح ثلاثا وثلاثين، فتلك مائه باللسان وألف في الميزان.[29]

وينبغي على كل مسلم ألا يحقرن حسنه يعملها وإن صغرت في عينه فربما ثقلت الميزان وجعل الله نجاته فيها، ولا يحقرن سيئة يعملها وإن صغرت فربما خففت الميزان لأن الذنب الصغير في عين محتقره يأتي يوم القيامة وهو في الميزان أعظم من الجبال الرواسي.

وأخيرا يقول الإمام الغزالي رحمه الله: واعلم أنه لا ينجو من خطر الميزان إلا من حاسب في الدنيا نفسه ووزن فبها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته.[30]

الحوض:

الحوض مأوى أهل الإيمان، قبل دخول الجنة، يروى عنده الظمأى، ويأمن عنده الخائفون، ويسعد عنده المحزونون.

هو حوض كبير متسع الجوانب والزوايا، طوله نحو مسيرة شهر بمركب مسرعة، وكذا عرضه، لون شرابه أبيض من اللبن، له رائحة ذكية، أكوابه وأواني شربه عديدة لا تحصى، مذاقه أحلى من عسل النحل، وأطعم من الشهد، شربة منه تزيل الظمأ، وتجلب الري، لأنها في غاية الإشباع، من حرم الشرب منه فقد حرم الخير الكثير ولم يرو بعده أبداً.

أحاديث صحيحة في وصف الحوض:

الحديث الأول:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا.[31]

الحديث الثاني:

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عرض حوضه فقال: من مقامي إلى عمان، شرابه أشد بياضا من اللّبن، وأحلى من العسل، يصب فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق. [32][33]

الحديث الثالث:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح، فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا”.[34]

اقرأ أيضا  تفاقية ماليزية أسترالية على تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب

الحديث الرابع:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوضي كما بين صنعاء إلى بصري ثم يمدني الله فيه بكراع[35] لا يدري بشر ممن خلق أيُّ طرفيه.[36]

الحديث الخامس:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي حوضا كما بين عدن وعمان فيه أكاويب[37]عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً.[38]

الحديث السادس:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم.[39]

الحديث السابع:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة، أو كما بين المدينة وعمان، ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء، أو أكثر.[40]

الحديث الثامن:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.[41]

تنبيه:

يقول الإمام القرطبي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم ألفاظ مختلفة في تحديد مسافات الحوض ليخاطب كل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها وكل قوم بالجهة التي يعرفونها لإفهامهم أنه حوض كبير متسع الجوانب والزوايا بعيد المدى.[42]

سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم يستقبل أمته:

يقف الرسول صلى الله عليه وسلم على الحوض ينادى على أمّته فيأتوه غراً[43] محجلين[44] وهى علامة ليست لأحد من الأمم غيرهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: تردون علىّ الحوض غرا محجلين من آثار الوضوء، ليست لأحد غيركم[45] وإني لأصد النّاس عنه كما يصد الرجل إبل النّاس الغريبة عن حوضه[46]ويأتي أناس من أمّتي فيحال بينهم وبين الحوض فلا يقربوه فأقول: إنهم منّى: فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فيقول: سحقا سحقا لمن غير بعدى.[47]

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم “إنك لا تدري ما احدثوا بعدك ” على أقوال:[48]

أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.

والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد بعده، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.

والثالث: إن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ويحتمل أن يكون أنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما.

الشاربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم:

ذكر صلى الله عليه وسلم صنفين من الناس سيكونون أول الشاربين من حوضه.

الصنف الأول:

فقراء المهاجرين، ويدل على ذلك ما رواه ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين فقال الصحابة: يا رسول الله صفهم لنا قال: شعث الرؤوس[49] دنس الثياب، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم السدد[50]يُعطوٌن ما عليهم ولا يُعطَون ما لهم.[51]

فكما أنهم كانوا أفقر الناس في الدنيا، وأقلهم منصبا، وأدناهم شأنا، مع ما كانوا عليه من قوة اليقين، وصدق الإيمان، وعظيم البذل والتضحية في سبيل الله تعالى، فقد نالوا كرامتهم في أرض المحشر، بورودهم أول الناس على حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

والصنف الثاني:

أهل اليمن، لما روى عن ثوبان – رضي الله عنه – أن نبي الله – صلى الله عليه وسلمقال: إني لبعقر[52] حوضي، أذود الناس لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم – يسيل عليهم.[53]

قال الإمام النووي في شرحه: “معناه: أطرد الناس عنه غير أهل اليمن،.. وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه، مجازاة لهم بحسن صنيعهم وتقدمهم في الإسلام،.. فيدفع غيرهم حتى يشربوا، كما دفعوا في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه والمكروهات”.

ولا يعني كون الأنصار والمهاجرين هم أول واردي حوضه صلى الله عليه وسلم أن غيرهم لا يرده، بل يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة كل مؤمن لم يتلبس بمانع من موانع ورود الحوض التي تضمنتها الأحاديث السابقة، غير أن النبي ذكر بعض الأعمال الخاصة التي هي أسباب لنيل شرف وردود حوضه صلى الله عليه وسلم منها:

1- الصبر عند الأَثَرة: ويدل على ذلك حديث عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته للأنصار رضي الله عنهم: “إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض” [54]، ومعنى ستلقون بعدي أثرة، أي: أن الأمراء بعدي يفضلون عليكم غيركم ممن هو أقل كفاءة منكم. ويؤثرون أهواءهم على الحق ويصرفون الفيء لغير المستحق.

وهذا لا تعارض بينه وبين الأحاديث الآمرة بالنهي عن المنكر لأن ما هنا فيما إذا لزم منه سفك دم أو إثارة فتنة وفيه الأمر بالصبر على الشدائد وتحمل المكاره قال ابن بزيزة: وخص الحوض لكونه مجمع الأمم بعد الخلاص من أهوال الموقف حيث لا يذكر حبيب حبيبه.[55]

2- عدم الدخول على أئمة الجور ممالأةً ونفاقاً لهم، فعن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنه ستكون بعدي أمراء، من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس يرد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد على الحوض”.[56]

المطرودون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة[57] حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم[58] فقلت: إلى أين[59]؟ قال: إلى النّار والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى[60]، ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم[61]، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.[62][63]

ومن خلال هذا الحديث استخلص العلماء المطرودون عن الحوض فقالوا هم:[64]

1- الكفار وكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به.

2-المنافقون، الذين يظهرون الإيمان ويسترون الكفر.

3- المبتدعة، الذين يطعنون في الصحابة ويُسبُونهم.

4- الظّلمة، المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر، المستخفّون بالمعاصي، والذين يستحيون من النّاس ولا يستحيون من الله.

5- المسلمين الذين لم يعملوا بالكتاب والسنّة، وأرخوا العنان لعقلهم الفاسد وفكرهم الكاسد، فضلوا وأضلوا، وحرموا من نور الله ونعيمه، ولم يزدهم علمهم في الدنيا إلا جهلاً، كما قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [65] وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا عثمان لا ترغب عن سنتي، فإنه من رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة.[66]

اقرأ أيضا  البروفيسور عنبر من غزة يقدر جدية جماعة المسلمين حزب الله لتحرير الأقصى

6- كل من تعامل بالربا، أو جار في الأحكام، أو أعان ظالم، أو جاوز حداً من حدود الله تعالى، لما رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدى فمن غشى أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منّى ولست منه ولا يرد علىّ الحوض.[67]

7- المكذبون بالحوض لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لي الحوض فمن كذب به فلا سقاه الله منه.[68]

فهنيئا للمتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الواردين حوضه، فهم الفائزون يوم يخسر الخاسرون، وهم المقربون يوم يبعد المبدّلون والمحدّثون.

[1] الآية 47 من سورة الأنبياء.

[2] التذكرة (ج2 ص3).

[3] فتح الباري شرح صحيح البخاري (جـ3 ص 657).

[4] الآية 46 من سور الأعراف.

[5] شرح الطحاوية بتحقيق الألباني ( ص 419).

[6] رواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح على شر مسلم (الترغيب والترهيب جـ4 ص 425).

[7] الآية 47 من سورة الأنبياء.

[8] في رحاب التفسير (6335).

[9] الآية 8، 9 من سورة الأعراف.

[10] أحداث النهاية ونهاية العالم (ص641).

[11] رواه البخاري رقم (6406)، ومسلم رقم (2694).

[12] رواه الترمذي رقم(2003، 2004)، وأبو داود رقم (4799)، وهو في صحيح الجامع رقم(5721).

[13] الغياية: كل شيء أظل الإنسان وغيره من فوق، وهىكالسحابة.

[14] صواف: جمع صافة، وهى التي تصف أجنحتها عند الطيران.

[15] رواه مسلم رقم (805) والترمذي رقم (2886).

[16] رواه البخاري رقم ( 4729)، ومسلم رقم (2785).

[17] رواه أحمد في المسند رقم (920) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.

[18] رواه الترمذي رقم (2641) في الإيمان، باب ما جاء في من يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة رقم (135).

[19] رواه البزار والبيهقى عن أنس الترغيب والترهيب (جـ4 ص 425).

[20] رواه ابن ماجة عن ثوبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (5028).

[21] رواه الترمذي والضياء عن جابر وصححه الألباني في صحيح الجامع (5484).

[22] الآية 96 من سورة النحل.

[23] رواه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمرو وصححه الألباني في صحيح الجامع (8095).

[24] التذكرة (جـ2 ص 55).

[25] رواه الترمذي عن أبي سعيد وصححه الألباني في صحيح الجامع (5726).

[26] ضعيف أبو نعيم في الحلية (6/353).

[27] رواه البزار عن ثوبان والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي سلمة وأحمد عن أبي إمامة وصححه الألباني في صحيح الجامع (2817).

[28] رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة وصححه الألـباني في صحيح الجامع (4572).

[29] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد والنسائي عن ابن عمرو وصححه الألبــاني في صحيح الجامع (3230).

[30] رحلة إلى الدار الآخرة ص(5527).

[31] رواه الترمذي والحاكم عن ثوبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (3161).

[32] ورق بكسر الراء أي الفضة.

[33] رواه مسلم وأحمد عن ثوبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (2498).

[34] رواه مسلم عن ابن عمر وصححه الألباني في صحيح الجامع (1999).

[35] الكراع: أي طرف من ماء الجنة يشبه الكراع لقلته والكراع بضم الكاف جانب مستطيل من الجرة.

[36] طرفيه: أي حافتيه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه (الترغيب والترهيب جـ4 ص 421).

[37] جمع كوب وهو كوب لا عروة له وقيل لا خرطوم له فإذا كان له خرطوم فهو إبريق.

[38] رواه الطبراني وإسناده حسن عن أبي إمامة الباهلي (الترغيب والترهيب جـ 4 ص 240).

[39] رواه مسلم عن أبي هريرة وصححه الألباني في صحيح الجامع (2058).

[40] رواه مسلم وأحمد وابن ماجة عن أنس بن مالك وصححه الألباني في صحيح الجامع (5592).

[41] رواه الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه عن ثوبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (2060).

[42] التذكرة (جـ1 ص 245).

[43] الغر جمع أغر وهو من به غرة والغرة بياض في الجبهة والمراد أن المؤمنين تشرق جبهاتهم يوم القيامة بنور الإيمان فيكون هذا النور غرة لهم تميزهم وبها يعرفون.

[44] المحجلون: الذين تضئ منهم مواضع الوضوء في أقدامهم فيبدو الضوء فيها كتحجيل الفرس وهو بياض في قوائمها والمعنى أن المؤمنين يوم القيامة يمتازون بغررهم ونور وجوههم وبتحجيلهم المشرق في موضع ماء الوضوء من أقدامهم.

[45] رواه مسلم وابن ماجة عن حذيفة وصححه الألباني في صحيح الجامع (2059).

[46] رواه مسلم عن أبي هريرة وصححه الألباني في صحيح الجامع (2058).

[47] رواه البخاري ومسلم وأحمد عن سهل بن سعد وأبي سعيد وصححه الألباني في صحيح الجامع (2468).

[48] صحيح مسلم بشرح النووي (جـ3 ص 136).

[49] شعث الرؤوس: رءوسهم متلبدة غير ظاهر عليهم أثر النعيم.

[50] السدد: الأبواب وقيل السدد هي القصور الخاصة بالمترفين.

[51] صحيح الترمذي والطبراني وابن ماجه (الترغيب والترهيب جـ4 ص 136).

[52] لبعقر بضم العين وإسكان القاف وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردته.

[53] رواه مسلم، شرح النووي (ج 15 – ص 62).

[54] رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الجامع (2309).

[55] مقال عن حوض النبي عليه الصلاة والسلام للدكتور محمد بن عبد الرحمن العريفي.

[56] رواه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح.

[57] زمرة: جماعة.

[58] أقبلوا.

[59] إلى أي مكان.

[60] رجعوا ورائهم متأخرين أي غيروا عقائدهم في الله وتأخروا عن صالحات الأعمال.

[61] وسط أصحابه.

[62] همل النعم: الإبل الضالة والمعنى أن الناجي فيهم قليل.

[63] صحيح البخاري ومسلم (الترغيب والترهيب جـ4 ص422).

[64] التذكرة (ص 283).

[65] الآية 7 من سورة الروم.

[66] الترمذي عن عثمان بن مظعون (نوادر الأصول جـ1 ص 583).

[67] رواه الترمذي في سننه عن كعب بن عجرة (614).

[68] رواه أحمد في مسنده عن أبي برزة الأسلمي (18969).

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.