حرمة المسلم بين العلم والعمل
الخميس-29شوال 1434 الموافق5أيلول /سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
ياسين نزال
يقول ربّنا تعالى في محكم تنزيله:
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17] قال السعدي رحمه الله في تفسيره: (فكلُّ من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهّله عليه. والذّكر شاملٌ لكل ما يتذكر العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر والعقائد النافعة والأخبار الصادقة).
فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أنّ الدّين يسرٌ في تعلُّمه والعمَل به، وأن من قام بذلك على جهة التعلّم أو التعليم فإن الله تعالى يهيء له الأسباب الموصلة إلى المطلوب والسبل المعينة على المقصود. فلا يجوز لأحد أن يصوّر للنّاس -عامة!-، ولطلبة العلم -خاصة!- أن مرتبة العلم مستحيلة المنال، فتُوضَع على ضوء ذلك شروط تعجيزية ومقاييس غير قياسية، بالإضافة إلى حمل الناس على تعظيم شأن أهل الفتيا والعلم -بحسب تلكم الشروط و المقاييس المحدثة!- من غير ضبط لمسألة التعظيم المفضية -بلا ريب!- إلى التقديس والتعصّب والتقليد البليد؛ والنتيجة التي لا شك فيها: اندراس الاتباع وظهور الفتن والآفات!
فالغرضُ من التعلمِ ونشرِ العلم العملُ به، و إرشادُ الناس إلى سلوك سبيل الحقّ، فمَن كانَ من ذوي الأهلية -بحقّ!- ممّن يسير على نهج السّلف الصالح- فَلا ضير أن يساهم في تعليم النّاس الخير، وتوجيههم بالتي هي أحسن للتي هي أقوم لجلبِ ما يستطيع جلبه من المصالح ودفعِ ما يمكن دفعه من المفاسد التي تحيط بالمجتمعات الإسلامية من كل جانب!
وَأمّا المسائل العامة المتعلقة بالنوازل والفتن وقتال أهل البغي والجهاد والنّصح لأئمة المسلمين كما كان يفعل أئمة السلف فهي تفتقر إلى علماء حكماء يعدلون أينما كانوا، لا يفرّقون بين حرمةِ مُسلم ومسلمٍ أينما كان؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (لزوال الدنيا جميعًا أهون على الله من دم يُسفك بغير حق) [أخرجه النسائي (3987) وغيره وصححه الألباني]؛ فلم يفرّق النبي – صلى الله عليه وسلم – بين عربي وعجمي، ولا بين مهاجرٍ وأنصاري، ولا بين حر وعبد، ولا بين خادم ومخدوم، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين طفل وبالغ، ولا بين مجنون وعاقل.
وقال -أيضًا- مخاطبًا بيتَ الله الحرام:
(مرحبا بك من بيت ما أعظمك وأعظم حرمتك، ولَلمؤمن أعظم حرمة عند الله منك إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاثا: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء) [حسنه الألباني؛ انظر تخريجه في الصحيحة (3420)]؛ فمثلُ هذه المرتبة من العلم ليس لها تعلّق كبير بكمّية العلم، ولا بعدد الدروس والمؤلفات، ولا بالمحاضرات، ولا بجمع الإجازات، ولا بمكانة الوظيفة المؤسسية بقدر تعلّقها بالخبرة العملية مع قوّة الصدق والإخلاص وتقوى الله تعالى في السرّ والعَلن، والنّاس -كما هو معلوم!- يتفاوتون في هذه الأمور كما يتفاوتون في سائر العبادات؛ والموفق من وفقه الله تعالى.
والناظر في سير أئمة السلف يجدهم علماءَ أمّة، حكماء رحماء بها، يُعَلّمون ويَعْملون، يجاهدون باللسان والسنان لا يخافون في الله لومة لائم! دينهم الإسلام ووطنهم الإسلام وانتماؤهم للإسلام! فاختلاف بلدانهم وخلافهم في مسائل هلال رمضان وشوال، ومسافة القصر، وصفة الصلاة، ومسائل البيوع والحج وغير ذلك لم يؤثر البتة عندهم في حرمة المسلم الآمن أينما كان!
فسفك دمه بغير حق حرام…
وانتهاك عرضه بغير حق حرام…
وأخذ جهده وماله بغير حق حرام…
فحُرمة المسلم في تطبيقاتهم للنصوص لم تكن تابعة لبلد أو عشيرة أو جنس أو جنسية أو رئاسة أو مصلحة دنيوية بل كانتْ متبوعة؛ يسيرون خلف الدليل أينما دارَ للحفاظ على حرمة المسلمين كما أمر -بذلك- الله ورسوله! فقد وردت في الكتاب والسنة العديد من الأدلة التي تحذّر من المساس بحرمة المسلم؛ فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12] وقوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11] وقوله: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[مسلم:2564]. وغيرها كثير.
فضربَ لنا سلفُنا الصالحُ -رحمهم الله تعالى- أبدعَ صور الامتثال، وأروع أمثلة الاتباع؛ فجاءتْ أعمالهم ترجمة للآيات والأحاديث في حِلّهم وترحالهم، في ليلهم ونهارهم! فَلَنا أن نقول بأنهم قد جمعوا الدّين كله؛ قال صلى الله عليه وسلم (إن الدين النصيحة: لله و لكتابه و لرسوله و لأئمة المسلمين و عامتهم)؛ ولا تزال آثارهم شاهدة على هذا النّصح لجميع طبقات المجتمع الإسلامي من غير تمييز ولا تحييد ولا عصبية جاهلية، ولا شهوة مادية منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم! فعن يزيد بن شريك أن الضحاك بن قيس بعث معه بكسوة إلى مروان بن الحكم فقال مروان للبواب: أنظر من بالباب؟ قال: أبو هريرة، فأذن له فقال: يا أبا هريرة! حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (ليوشك رجل أن يتمنى أنه خرَّ من الثريا، و لم يل من أمر الناس شيئًا) [حسنه الألباني؛ انظر تخريجه في الصحيحة (361)]. وغير ذلك مِن الآثار التي تَنقل لنا صُورا مشرقة عن السلف كيف كانوا ينصحون الأمة بالحِكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن للتي هي أقوم!
فالذِي يُعرض عن منهج السلف الصالح في مجابهة المسائل المتعلقة بحُرمة المسلم؛ ولا يقوم بالنصح الواجب القائم على الوَسَطية بما يحقق المصالح ويكملها، ويدفع المفاسد ويقللها؛ فإنه في خطر شديد، ومن نصوص الوعيد ليس ببعيد! فإنّ مسؤولية مَن له تأثير على أمر الناس عظيمة جدًّا قد تورد صاحبها موارد الهلكة والخسران؛ يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – معلمـًا ومحذّرًا: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ )! والعملُ بالعلم قائمٌ على النّصح للنّفس ولجميع أصناف المجتمع المسلم كَما مر معنا في الحديث السابق! وأمّا العاجز عن نُصح غيره بما يكفل أمنَهم فعِلاجه قولُ النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر حينما سأله:( أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟) قال – صلى الله عليه وسلم -: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك!)
وخلاصة الكلام:
أولا: أنّ عَلى المعلِّمين الحرصَ على عدَم التشبّه بالتّجّار الذين يحتكرون السّلعة لتتهافتَ عليهم الطلبات، وتلتف حولهم الأصوات؛ وقد قال النّبي – صلى الله عليه وسلم – في حقهم (لا يحتكر إلا خاطئ) [مسلم: 1605]! فالواجب عليهم أن يُعَلّموا ويأمُروا من عَلّموهم لتعلِيم غيرهم؛ فهذه سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لوَفد عبد القيس لما علّمهم أمورَ دينهم: (احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ)؛ وعلى ذلك بوّب البخاري: (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان، والعلم ويخبروا من وراءهم). فكُلّما انتشر العلم، وتكاثرتْ أعدادُ المعلّمين الموثوقين -شرعًا-، وتوجه النّاس إلى العِلم الصافي؛ رجع الجميع -حكامًا ومحكومين- علماء وطلبة علم- إلى تغليب حكم الشرع في جميع المعاملات، والمناسبات امتثالا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208]؛ قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿ فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾: (أي: في جميع الشرائع الدين، لا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير وما يعجز عنه، يلتزمه وينويه فيدركه بنيته.)
وثانيا: أنّ تحقيق العلمِ الشرعي -قولا وعملا- ولا سيما مسائل الحقوق المتعلقة بالغير!- وأعظمها المساس بحرمة المسلم!- لا يمكن إخضاعه للمصالح الخارجة عن الحدود التي رسَمها الشرع وضبَطها؛ وذلك كيلا تختلّ الموازين؛ فتتناقض الأقوال والأفعال عند اختلاف الأحوال، ويفشو الظلم، ويسود الجور، وتسفك الدماء، وتنتهك الأعراض!
فدم المسلم محرم سواء كان عن قصد أو خطأ لذلك كان السلفُ شديدي الحذر من هتك أستار الله، والتعدي على حدوده في مثل هذه المسائل.
وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر : الألوكة