دعاء غير الله
الثلاثاء- 25 ذوالقعدة 1434 الموافق01تشرين الأول /أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فهذا بحثٌ حول دعاء غير الله، وقد تناولتُ فيه مباحثَ، وهي: تصوير هذه المسألة، ثم معنى الدُّعاء لغةً وشرعًا، ثم أنواع الدعاء، ثم أقوال العلماء في ذلك.
1 – تصوير المسألة:
إنَّ قولَ القائل في خطابه: يا رسول الله، أو يا حبيب الله، فهذا لا يعدو حالتين:
فإمَّا أن يكونَ نداءً، وإمَّا أن يكونَ دعاءً، أمَّا النداءُ فيكون للحي؛ إمَّا عن طريق الاستغاثة فيما يقدرُ عليه هذا الحي وهذا جائزٌ؛ لأنه من باب نفْعِ المسلم لأخيه، وإمَّا فيما لا يقدرُ عليه هذا الحي، وهذا ضربٌ من الجنون، أمَّا إنْ كان النداءُ لميِّتٍ، فهذا دعاء وسؤال مَن لا يقدرُ على دفْعِ الضُّرِّ عن نفسه، فإنْ كان هذا الدعاء للميِّت على وجْه الشدة وكشْفِ الضُّرِّ، فهو استغاثة، فبينهما عموم وخصوص.
أمَّا موضوع بحثنا، فهو قولُ: “يا رسول الله”، وهو يندرج في هذا الأخير؛ أي: الدعاء أو الاستغاثة بحسب حال السائل؛ شدة ورخاءً، وإليك أقوال أهلِ العلم تفصيلاً:
أولاً: معنى الدعاء:
الدعاء مصدر دعا يدعو، وهو لغةً: يأتي لمعانٍ؛ منها:
1- النداء: يُقال: دعوتُ فلانًا وبفلان: ناديتُه وصِحْتُ به.
2- السؤال: دعوتُ فلانًا: سألتُه.
3- الاستغاثة: دعوتُ فلانًا: استغثْتُه، والدعاء الغوث، فالدعاء: النداء والاستغاثة.
4- والطلب: دعوتُ فلانًا: استدعيْتُه، وطلبتُ جَلْب النفْعِ ودفْع الضُّرِّ.
5- الحثُّ على فِعْل الشيء والدعوة إليه، دعا إليه: طلبَه إليه.
6- السَّوْق: يُقال: دعاه: ساقَه إلى الأمير.
7- التسمية: يُقال: دعوتُ الولَدَ زيدًا، أو بزيدٍ: إذا سمَّيْتُه بهذا الاسم.
8- الجعْل: ﴿ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 91]؛ أي: جعلوا.
9- العبادة: يُطلق الدعاء ويُراد به العبادة.
10- ورفْع القدرِ، ورفْع الذِّكْر.
أمَّا في الشرع:
♦ قال أبو سليمان الخطَّابي: ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربَّه – عز وجل – العناية، واستمداده إيَّاه المعونة، وحقيقته إظهارُ الافتقار إليه، والتبرُّؤ من الحول والقوَّة.
♦ وقال أبو عبدالله الحليمي: الدعاء: قولُ القائل: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، وما أشبه ذلك.
♦ وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله -: إنَّ دعاء المسألة: هو طلبُ ما ينفعُ الداعي، وطلبُ كشْف ما يضرُّه ودفْعِه.
♦ وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -: وهو الطلب بياء النداء؛ لأنه يُنَادى به القريب والبعيد، وقد يستعملُ في الاستغاثة أو بإحدىأخواتها.
♦ وعرَّفه الشيخ حسين بن مهدي النعمي اليمني: فالمعنى الذي هو راجعٌ وضْعًا لا قصْدًا إلى القوي القادر، بحيث لا يصلح إلاَّ له، ولا يتحصَّلُ إلا به أو عنه اسم طلبه والْتِمَاسه، واللفظ الذي يكون له هو الدعاء وضْعًا وشرعًا، والدعاء في لسان أنبياء الله ورُسُله وكتابه اسمٌ لطلبِ ذلك المعنى.
وقال في موضعٍ آخرَ: إنَّ الدعاء عند المشَرِّعة والإسلاميين طبْعٌ وهيئة لازمة، طلبُ العاجز للقادر وسؤالُه منه.
♦ وعرَّفه الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ بقوله: هو السؤال والطلب رغبة أو رهْبة أو مجموعها.
أنواع الدعاء:
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله – الدعاء نوعان؛ دعاء العبادة، ودعاء المسألة؛ انتهى.
ودعاء المسألة يكون بلسان المقال؛ مِن تضرُّع، وسؤال لله، وطلب، ونداءٍ، واستمداد، واستغاثة، وغيرها.
أمَّا دعاء العبادة، فهو شاملٌ لِمَا يصدرُ من المكلَّف؛ مِن أقوالٍ وتضرُّع وسؤالٍ لله، أو مِن أفعال الجوارح؛ من صلاة وصيام وحَج وغيرها، إذًا بينهما عموم وخصوص؛ فدعاء العبادة يشملُ دعاءَ المسألة؛ أي: بلسان الحال والمقال.
وسنُركِّز البحثَ حول دعاء المسألة:
قد أجمعَ العلماءُ على أنه إذا ثبتَ أنَّ الأمرَ عبادة، فصرْفُه لغير الله شِرْكٌ أكبرُ مُخْرِج من المِلَّة، والآيات متضافرة على ذلك؛ قال – تعالى -: ﴿ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ﴾ [النمل: 62]، وقال – تعالى -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 40 – 41]، وقوله – تعالى -: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 67]، وقوله – تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾ [فاطر: 13- 14].
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الدعاء هو العبادة))، يقول الراوي : ثم قرأ: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]؛ أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب الدعاء: (2/ 171)، برقم (1479)، والترمذي في التفسير، (5/ 211)، (374 – 456)، برقم (2969)، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء: (2/ 1258)، برقم (3828)، وصحَّحه الشيخ الألباني في “صحيح الجامع”، برقم (3407).
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله – في “جامع المسائل”، ( 3/ 145): “مَن استغاثَ بميِّتٍ أو غائب مِن البشر، بحيث يدعوه في الشدائد والكُرُبات، ويطلب منه قضاءَ الحوائج، فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان، أنا في حسبك وجوارك، أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيِّدي فلان يستوحيه ويستغيث به، أو يقول ذلك عند مَرَضه وفَقْره، وغير ذلك من حاجاته، فإنَّ هذا جاهلٌ مُشْرِكٌ عاصٍ لله باتفاق المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميِّتَ لا يُدْعَى ولا يُطْلَب منه شيءٌ؛ سواء كان نبيًّا أم شيخًا أم غير ذلك”.
ويقول ابن القَيِّم: “ومن أنواعه – أي الشِّرْك الأكبر – طلبُ الحوائج من الموتَى، والاستغاثة بهم، والتوجُّه إليهم، وهذا أصلُ شِرْك العالم؛ فإنَّ الميِّتَ قد انقطعَ عملُه، وهو لا يملكُ لنفسه ضرًّا ولا نفْعًا، فضلاً عمَّن استغاثَ به، وسألَه قضاءَ حاجته، أو سألَه أن يشفعَ له إلى الله فيها، وهذا مِن جَهْله بالشافع والمشفوع له عنده”؛ “الشِّرْك في القديم والحديث”، ص (1148)، وما بعدها بتَصَرُّف يسير.
جاء في تفسير “فتح القدير”؛ للإمام الشوكاني عند قوله – تعالى – من سورة يونس ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس : 49]:”ثم أمرَ الله – سبحانه – رسولَه أن يُجيبَ عليهم بما يَحْسم مادَّة الشبهة ويقطعُ اللَّجَاج، فقال: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [يونس: 49]؛ أي: لا أقدرُ على جلْبِ نفْعٍ لها، ولا دفْعِ ضُرٍّ عنها، فكيف أقدرُ على أن أملكَ ذلك لغيري؟ وقدَّم الضرَّ؛ لأنَّ السياق لإظهار العجز عن حضور الوعْد الذي استعجلوه واستبعدوه، والاستثناء في قوله: ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ منقطعٌ؛ كما ذَكَرَه أئمة التفسير؛ أي: ولكن ما شاءَ الله من ذلك كان، فكيف أقدرُ على أن أملكَ لنفسي ضرًّا أو نفعًا؟ وفي هذه أعظمُ واعظٍ، وأبلغ زاجرٍ لمن صارَ ديدنُه وهِجِّيراه المناداةُ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يَقْدِرُ على دفْعِها إلا الله – سبحانه – وكذلك من صارَ يطلبُ مِن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما لا يقدر على تحصيله إلا الله – سبحانه.
فإنَّ هذا مقامُ ربِّ العالمين الذي خَلَقَ الأنبياء والصالحين، وجميع المخلوقين، ورزقَهم وأحياهم ويُمِيتهم، فكيف يطلب من نبيٍّ من الأنبياء، أو مَلك من الملائكة، أو صالح من الصالحين، ما هو عاجزٌ عنه، غير قادرٍ عليه، ويترك الطلب لربِّ الأرباب القادر على كلِّ شيءٍ، الخالق الرزَّاق المعطي المانع؟ وحسبُك بما في هذه الآية مَوْعظة، فإن هذا سيِّدُ ولدِ آدمَ، وخَاتَم الرُّسل يأمرُه الله بأن يقولَ لعباده: لا أمْلكُ لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، فكيف يملكه لغيره؟! وكيف يملكه غيره ممن رُتْبته دون رُتْبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلاً عن أن يملكَه لغيره؟! فيا عجبًا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثَّرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله – عز وجل!! كيف لا يتيقَّظون لِمَا وقعوا فيه من الشِّرْك، ولا يتنبَّهون لِمَا حلَّ بهم من المخالفة لمعنى: لا إله إلا الله، ومدلول ﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : 1 ]؟ وأعجب من هذا اطِّلاع أهلِ العلم على ما يقعُ من هؤلاء، ولا ينكرون عليهم، ولا يَحُولُون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهليَّة الأولى، بل إلى ما هو أشدُّ منها، فإنَّ أولئك يعترفون بأن الله – سبحانه – هو الخالق الرزَّاق، المحيي المميت، الضارُّ النافع، وإنما يجعلون أصنامَهم شفعاءَ لهم عند الله، ومُقَرِّبين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرةً على الضرِّ والنفْع، وينادونهم تارةً على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شرٍّ سماعه، والله ناصرُ دينه، ومُطهِّر شريعته من أوضار الشرْك، وأدناس الكفر، ولقد توسَّل الشيطان – أخزاه الله – بهذه الذريعة إلى ما تقرُّ به عينُه، وينثلج به صدرُه، من كفرٍ كثيرٍ من هذه الأُمة المبارَكة؛ ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]، ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]”؛ انتهى كلام الشوكاني – رحمه الله.
جاء في “تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد”؛ للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ، ص (180)، فما بعدها – كلامًا نفيسًا سأنقلُه بطوله: “وأمَّا عُبَّادُ القبور اليومَ، فلا إله إلا الله، كم ذا بينهم وبين المشركين الأوَّلين من التفاوت العظيم في الشِّرْك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون اللّه، وأكثرهم قد اتَّخذ ذِكْرَ إلهه وشيخه ديدنَه وهِجِّيراه، إن قام وإن قعدَ وإن عثر، هذا يقول: يا علي “الشاذلي”، وهذا يقول: يا عبدالقادر “الجيلاني”، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس.
وبالجملة، ففي كلِّ بلدٍ في الغالب أُناس يدعونهم ويسألونهم قضاءَ الحاجات، وتفريجَ الكُربات، بل بلغَ الأمرُ إلى أنْ سألوهم مَغْفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنَّة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تُطْلب إلا من الله، وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، ويُنَصِّبون أنفسَهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفْع والضُّرِّ التي هي خواص الإلهيَّة، ويُلفِّقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب؛ منها: أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ الْتَجَأَ إليهم وَلاذَ بحِماهم من النار والعذاب، فيقول أحدُهم: إنه يقفُ عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال – تعالى – لسيِّد المرسلين – صلى الله عليه وعليهم أجمعين -: ﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾ [الزمر: 19].
فإذا كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لا يقدرُ على تخليص أحدٍ من النار،فكيف بغَيْره؟! بل كيف بمن يدَّعِي نفسَه أنه هو يفعلُ ذلك؟! ومنها أن أكثرَهم يلفِّقُ حكايات في أنَّ بعضَ الناس استغاثَ بفلان فأغاثه، أو دعا الوَلي الفلاني فأجابه، أو في كُربة ففرَّج عنه، وعند عُبَّاد القبور من ذلك شيءٌ كثير من جنس ما عند عُبَّاد الأصنام الذين استولتْ عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعبَ الصبيان بالكُرة.
ويوجد شيءٌ من ذلك في أشعار المادحين لسيِّد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – الذين جاوزوا الحدَّ في مَدْحِه – صلى الله عليه وسلم – وعصوه في نَهْيه عن الغُلوِّ فيه، وإطرائه؛ كما أطرتِ النصارى ابنَ مريمَ، وصار حظُّهم منه – صلى الله عليه وسلم – هو مَدْحه بالأشعار والقصائد، والغُلو الزائد، مع عصيانهم له في أمْره ونَهْيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخَلْق له – صلوات الله عليه وسلامه.
ويقعُ من ذلك كثيرٌ في مدح غيره، فإنَّ عُبَّاد القبور لا يقتصرون على بعض مَن يعتقدون فيه الضُّر والنفْعَ، بل كلُّ مَن ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدْحِه وأنزلوه مَنْزلة الربوبيَّة، وصرفوا له خالصَ العبودية، حتى إنهم إذا جاءَهم رجلٌ وادَّعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنَّه دُفِنَ في المحل الفلاني رجلٌ صالحٌ، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قُبَّة وزَخْرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات.
وأمَّا القبور المعروفة أو المتوهَّمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكنُ حصرُها،فكثيرٌ منهم إذا رأوا القِبابَ التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانَها، وتمسَّحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين مُتَذلِّلين مُتَضرِّعين سائلين مطالبَهم، وهذا هو الحجُّ، وكثيرٌ منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوهَهم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجةٌ مِن شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحبَ القبر: يا سيِّدي فلان، جئتُك قاصدًا من مكان بعيد؛ لا تخيِّبني، وكذلك إذا قحط المطرُ، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دَهَمَهم عدوٌّ أو جَرَاد، فَزِعُوا إلى صاحب القبر، وبَكوا عنده، فإن جَرَى المقدور بحصول شيءٍ مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسَّرْ شيءٌ من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إمَّا غائب في مكان آخرَ، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادَهم في الولي ضعيفٌ، أو أنهم لم يعطوه نذرَه ونحو هذه الخرافات، ومن بعض أشعار المادحين لسيِّد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – قول البوصيري:
يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَادِثِ الْعَمَمِ وَلَنْ يَضِيقَ رَسُولَ اللهِ جَاهُكَ بِي إِذَا الْكَرِيمُ تَحلَّى بِاسْمِ مُنْتَقِمِ فَإِنَّ لِي ذِمَّةً مِنْهُ بِتَسْمِيَتِي مُحَمَّدًا وَهْوَ أَوْفَى الْخَلْقِ بِالذِّمَمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي فَضْلاً وَإِلاَّ فَقُلْ يَا زَلَّةَ الْقَدَمِ |
إلى أنْ قال: “ومن شعر البرعي قوله:
مَاذَا تُعَامِلُ يَا شَمْسَ النُّبُوَّةِ مَنْ أَضْحَى إِلَيْكَ مِنَ الأَشْوَاقِ في كَمَدِ؟ فَامْنَعْ جَنَابَ ضَرِيحٍ لاَ صَرِيخَ لَهُ نَائِي الْمَزَارِ غَرِيبِ الدَّارِ مُبْتَعِدِ حَلِيفِ وُدِّكَ وَاهِي الصَّبْرِ مُنْتَظِرٍ لِغَارَةٍ مِنْكَ يَا رُكْنِي وَيَا عَضُدِي أَسِيرُ ذَنْبِي وَزَلاَّتِي وَلاَ عَمَلٌ أَرْجُو النَّجَاةَ بِهِ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَجُدِ |
وجَرَى في شِرْكه إلى أنْ قال:
وَحُلَّ عُقْدَةَ كَرْبِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ هَمٍّ عَلَى خَطَرَاتِ الْقَلْبِ مُطَّرِدِ أَرْجُوكَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ تَشْهَدُنِي كَيْمَا يَهُونَ إِذِ الأَنْفَاسُ فِي صَعَدِ وَإِنْ نَزَلْتُ ضَرِيحًا لاَ أَنِيسَ بِهِ فَكُنْ أَنِيسَ وَحِيدٍ فِيهِ مُنْفَرِدِ وَارْحَمْ مَؤَلِّفَهَا عَبْدَالرَّحِيمِ وَمَنْ يَلِيهِ مِنْ أَجْلِهِ وَانْعشْهُ وَافْتَقِدِ وَإِنْ دَعَا فَأَجِبْهُ وَاحْمِ جَانِبَهُ مِنَ حَاسِدٍ شَامِتٍ أَوْ ظَالِمٍ نَكِدِ |
وقوله من أخرى:
يَا رَسُولَ اللهِ يَا ذَا الْفَضْلِ يَا بَهْجَةً فِي الْحَشْرِ جَاهًا وَمقَامَا عُدْ عَلَى عَبْدِالرَّحِيمِ المُلْتَجِي بَحِمَى عِزِّكَ يَا غَوْثَ اليَتَامَى وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي يَا سَيِّدِي فِي اكْتِسَابِ الذَّنْبِ فِي خَمْسِينَ عَامَا
|
وقوله:
يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ يَا أَمَلِي يَا مَوْئِلِي يَا مَلاَذِي يَوْمَ يَلْقَانِي هَبْنِي بِجَاهِكَ مَا قَدَّمْتُ مِنْ زَلَلٍ جُودًا وَرَجِّحْ بِفَضْلٍ مِنْكَ مِيزَانِي وَاسْمَعْ دُعَائِيَ وَاكْشِفْ مَا يُسَاوِرُنِي مِنَ الخُطُوبِ وَنَفِّسْ كُلَّ أَحْزَانِي فَأَنْتَ أَقْرَبُ مَنْ تُرْجَى عَوَاطِفُهُ عِنْدِي وَإِنْ بَعُدَتْ دَارِي وَأَوْطَانِي |
ثم قال الشيخ: قال بعضُ العلماء: فلا ندري أيُّ معنًى اختصَّ به الخالق – تعالى – بعد هذه المنزلة؟! وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمرِ؟! فإنَّ المشركين أهل الأوثان ما يؤهِّلون مَن عبدوه لشيءٍ من هذا؛ انتهى.
“وكثيرٌ من عُبَّاد القبور ينادون الميِّتَ من مسافة شهْر وأكثر، يسألونه حوائجَهم، ويعتقدون أنه يسمعُ دعاءَهم ويستجيب لهم، وتسمعُ عندهم حالَ ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يَخْطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائدُ؛ مِن مَرضٍ، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالوَلي في ذلك نُصْبَ أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذُهم، ولو ذهبنا نذكر ما يُشْبه هذا، لطالَ الكلام، إذا عرَفتَ هذا فقد تقدَّمَ ذِكْرُ دعاءِ المسألة”؛ انتهى.
وجاء في “فتح المجيد شرح كتاب التوحيد”؛ للشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، ص (277) فما بعدَها:
وقال الحافظُ محمد بن عبدالهادي – رحمه الله – في ردِّه على السبكي في قوله: “إنَّ المبالغة في تعظيمه – أي الرسول – واجبة”.
إنْ أُرِيدَ به المبالغة بحسب ما يراه كلُّ أحدٍ تعظيمًا، حتى الحج إلى قبرِه والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيبَ، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضُّر والنفْع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرِّج كُربات المكروبين، وأنه يشفعُ فيمن يشاء، ويُدْخِل الجنة مَن يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرْك، وانسلاخ من جملة الدِّين.
وفي “الفتاوى البزَّازيَّة من كتب الحنفيَّة”: قال علماؤنا: مَن قال أرواح المشايخ حاضرة تَعْلَمُ، يكفر.
وقال الشيخ صُنْع الله الحنفي – رحمه الله – في كتابه في الردِّ على مَن ادَّعى أنَّ للأولياء تصرُّفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: “هذا وإنَّه قد ظهرَ الآن فيما بين المسلمين جماعات يَدَّعون أنَّ للأولياء تصرُّفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويُسْتغاث بهم في الشدائد والبَليَّات وبِهِمَمهم تُكْشَفُ المهمات، فيأتون قبورَهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أنَّ ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا الْتباس، وجوَّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السَّرْمدي؛ لما فيه من روائح الشرْكِ المحقَّق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدَّق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعتْ عليه الأُمة”.
ثم قال بعد ذلك: “والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسيَّة في قتال، أو إدْراك عدوٍّ أو سَبُع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، وأمَّا الاستغاثةُ بالقوَّة والتأثير أو في الأمور المعنويَّة من الشدائد، كالمرض وخوف الغَرَق والضيق والفقْر وطلب الرزْق ونحوه، فمِن خصائص الله لا يطلب فيه غيره”.
قال: وأمَّا كونُهم معتقدين التأثيرَ منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهليَّة العرب والصوفيَّة الجُهَّال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، فمَن اعتقدَ أنَّ لغير الله من نبي أو وَلي أو رُوح أو غير ذلك في كشْف كُربة وغيره على وجْه الإمداد منه، أشْرَك مع الله؛ إذ لا قادرَ على الدفْع غيره، ولا خيرَ إلا خيرُه.
قال: وأما ما قالوا: إنَّ منهم أبدالاً ونقباءَ، وأوتادًا ونُجَباءَ، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفْكِهم؛ كما ذَكَرَه القاضي المحدِّث في “سراج المريدين”، وابن الجوزي، وابن تيميَّة؛ انتهى باختصار.
والمقصود أنَّ أهلَ العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشرْكِيَّة التي عمَّت بها البَلْوَى واعتقدَها أهلُ الأهواء، فلو تتبَّعْنا كلامَ العلماء المنكرين لهذه الأمور الشرْكِيَّة، لطالَ الكتاب، والبصير النبيل يدركُ الحقَّ مِن أول دليلٍ، ومَن قال قولاً بلا برهان، فقولُه ظاهرُ البُطْلان، مخالفٌ ما عليه أهلُ الحقِّ والإيمان، المتمسكون بمُحْكَم القرآن، المستجيبون لداعي الحقِّ والإيمان، والله المستعان وعليه التُّكْلان”؛ انتهى.
وفي الختام، فإنَّ دعاءَ غير الله لا يجوز بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو من الشرْك العظيم الذي لا يُغْفَرُ، والعياذ بالله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحْبه وسلم.
المصدر : الألوكة