أوقافنا: بين الشريعة والتشريع!

الكاتب: عزيز العصا

الثلاثاء08 محرم1435 الموافق12 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

لا شك في أن ما جرى مؤخراً من إشاعات حول الحوار “الحاد” بين وزير الأوقاف ورئيس الوزراء حول موضوع الأوقاف، ولمن يعود حق إدارتها، بالغ الأثر السئ على نفسية كل فلسطيني يحرص على المحافظة على كينونتنا السياسية والاقتصادية، التي تتعرض لضغوطات جمة من قبل الاحتلال الذي يكمن فيه التحدي الطبيعي لوجودنا على هذه الأرض.

قد يقول قائل: إن ما جرى هو شكل من أشكال الشفافية والمحاسبة، ووضع الأمور في نصابها. إلا أنني، كمواطن فلسطيني لم أرَ الأمر هكذا؛ بل رأيت فيه شكل من أشكال “نشر الغسيل الفلسطيني” على حبالٍ لن تسهم في تجفيفه وإعادته نظيفاً جاهزاً للاستخدام، بما يحفظ لشعبنا وحدته وتماسكه في مواجهة المخططات الرامية إلى المساس بوجوده وهويته الملتصقة بأرض الآباء والأجداد

لضرورات الموقف، ولأن الشئ بالشئ يُذكر؛ فقد قمت باستعراض مجموعة من الأدبيات ذات الصلة بالموضوع قيد النقاش؛ والمتعلق بوضع الأوقاف، ولمن تؤول إدارتها: للدولة أم للوزارة. فوجدت أن الباحثين في مجال الأوقاف الإسلامية، على مستوى الأمة قاطبة، يرون أن أوضاع الأوقاف وظروفها تتراوح بين السيئ، في بعض البلدان الاسلامية، والسيئة جداً في البعض الآخر

ففي سياق تحديد مصادر المآسي التي تعاني منها الأوقاف تقول الباحثة المغربية “مهدية أمنوح”( ) بأن تدخل الدولة في الأوقاف لم يؤد إلى تحسن حقيقي في كفاءتها الإنتاجية أو في المحافظة عليها، بدليل أنه ما” يزال قطاع الأوقاف في أغلبية البلدان العربية ينظر إليه على أنه أقل القطاعات شأناً. وإذا أمعنا النظر في جميع التحديات التي تواجه الأوقاف؛ نجد أنها عبارة عن نتائج مباشرة للعلاقة التي تربط الوقف بالدولة. إذ متى ما عرفنا نوعية الصلات التي تربط الوقف بالدولة سهل علينا أن نفهم حقيقة النظام التشريعي أو الإداري الذي تسير وفقهه الأوقاف.

وفي سياق علاقة الدولة بالأوقاف يقول أ. د. محمد عثمان شبير في المؤتمر الثالث للأوقاف بالمملكة العربية السعودية في العام (2009) (ص ص: 91-92): 
1.
الوقف مملوك لله تعالى، أما أموال الدولة فهي مملوكة لبيت المال؛ مما يعطي أموال الأوقاف قوة دفاعية. وهذا ما تم، بالفعل، للأوقاف الإسلامية في فلسطين، حيث أن اعتماد علماء الدين الإسلامي على حقيقة أن الوقف مملوك لله تعالى، وينبغي أن تدار من قبل النظار المسلمين حمى تلك الأوقاف. وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق لأموال الدولة؛ لأن الدولة المحتلة تدعي أنها صاحبة الحق في التصرف في تلك الأموال، فتنهبها وتستولي عليها.
2.
في الوقف يلتزم الناظر في إدارته بشروط الواقف في حدود الشرع الإسلامي، في حين أن أموال بيت المال (الدولة) يتم إدارتها وفق المصلحة العامة للمجتمع.
3.
أعيان الأوقاف ليست محلاً للبيع والتنازل والمبادلة، لكن يمكن استبدالها في حالات تقضي بذلك مثل تعطلها وعدم إمكانية الانتفاع بها. أما أموال بيت المال (خزينة الدولة) فيمكن بيعها والتنازل عنها بأمر ولي الأمر.
4.
ينفق ريع الوقف على الموقوف عليه كما هو محدد من قبل الواقف. أما ريع أموال الدولة يرد لخزينة الدولة, وينفق لعامة الناس, ومصالح الدولة العامة.
كما يرى د. إبراهيم غانم في كتابه: “الأوقاف والسياسة في مصر” (ص ص: 53-54)، أن فقه الأوقاف مبني على (ثلاثة) أسس كبرى؛ وفرت نوعاً من الحماية الشرعية لنظام الوقف ومؤسساته ضد احتمالات استيلاء سلطة الدولة عليه، وجعلت حدوث هذا الاستيلاء أراً غير شرعي. وهذه الأسس هي: احترام إرادة الواقف، واختصاص القضاء وحده بسلطة الإشراف العام على الأوقاف، والاعتراف للوقف بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية.

اقرأ أيضا  إيسيسكو تدعو لتعزيز التعاون بين الصحفيين للحد من خطاب الكراهية

أما بخصوص التعاملات المالية؛ فالدولة تعتمد أنظمة مالية تتعارض، في جزء منها، مع الشريعة. فما تطلق عليه البنوك “الفائدة” يسمى في الشريعة “ربا” حرمه الله في كتابه العزيز بقوله تعالى: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” (البقرة: 275). 

لذلك؛ فإن هيمنة الدولة، بالكامل، على الأوقاف سوف يجعل الواقفين يحجمون عن “إيقاف” أموالهم و/أو عقاراتهم سواء الوقف الخيري أو الأهلي أو المشترك (الذي يجمع بين الخيري والأهلي)، مما يُضعف التوجه المجتمعي نحو الوقف وتطويره

ولعله من الجميل الاطلاع على تجارب الآخرين، في هذا المجال. فيقول د. إبراهيم غانم (ص ص: 47-48) عن التجربة المصرية، في مجال سيطرة الدولة على الأوقاف: منذ نهايات القرن التاسع عشر تم نقل نظام الأوقاف، برمته، من “حيزه الاجتماعي” الواسع إلى”الحيز السياسي” الضيق الذي تحتكره سلطة الدولة؛ بحلول منتصف القرن العشرين. مما أفقد مصطلح “الوقف” عناصر تميُّزه عن غيره من أنواع التصرف في الملكية. وخاصة التصرف فيها بالوصية – وذلك نتيجة لتدخل الدولة بإصدار القانون رقم 48 لسنة 1946 بأحكام الوقف؛ حيث قضت أحكام هذا القانون بجعل “الوقف” أقرب إلى “الوصية بالمنافع” منه إلى الوقف بمعناه الاصطلاحي الفقهي الذي يلخصه مفهوم الصدقة الجارية؛ وهو الذي ظل سائداً منذ فجر الإسلام إلى ما قبل صدور هذا القانون – في مصر – في سنة 1946.

اقرأ أيضا  متى يُقبل العمل؟

فيما يتعلق بوضع الأوقاف في فلسطين فإنها، ونظراً لمكانتها الدينية ومنافستها لمكة والمدينة، فقد انتشرت فيها الأوقاف العامة حتى أن 16% من مساحتها الكلية هي وقف خيري. كما أن وضع الأوقاف في فلسطين هو، بالضبط، صورة تعكس القضية الفلسطينية؛ بما فيها من تعقيدات وضبابية وعدم وضوح… الخ. إذ أن الحديث عن الأوقاف في فلسطين، يعني الحديث عن الوثائق والثبوتيات التي تسلسل الوقف وتبين أصوله، كما تشمل معلومات، وبينات، وبيانات عن الأوقاف والواقفين. وكل ذلك تعرض، عبر العصور، بخاصة خلال المائة سنة الماضية، إلى محاولات طمس الحقائق، وتزوير التاريخ، والنهب والسلب… الخ.

وعليه؛ فإن الحديث عن الأوقاف في فلسطين، وشئونها وشجونها، يتطلب منا التوقف بجدية أمامها بما يكفل للقائمين عليها خوض معركة البقاء، في مواجهة حالات الطمس والتخريب المتعمد، كما يمكنهم من تطبيق الأحكام الشرعية على الأوقاف، بما يضمن عدم المساس بالأحكام الشرعية المتعلقة بها ولا يؤدي إلى خلط الأوراق

إذ يتضح مما سبق أن “الزج” بالأوقاف في الوعاء الحكومي يجعلنا “نكتوي” بما اكتوت به مصر التي كان للقانون المذكور، في العام 1946، أثراً سلبياً واضحاً أدى انحراف الوقف عن مفهوم “الصدقة الجارية”، وهذا مؤشر خطير للغاية يدفع بالأوقاف بعيداً عن الهدف الأسمى الذي جُعلت من أجله؛ وهو التقرب إلى الله سبحانه بالصدقة الخالصة ابتغاء مرضاته جل شأنه

من جانبٍ آخر؛ لا بد من التوقف عند حال الأوقاف وأحوالها، بالمتابعة، والتدقيق؛ من أجل حمايتها وضمان حسن التصرف في ريعها في أجواء من الشفافية والوضوح والمحاسبة وفق الأسس الشرعية، على مستوى تطبيق الأحكام

فإذا ما أمعنا النظر؛ نلاحظ أن هناك خللاً في الجوانب التنفيذية في مجال الأوقاف، مثل محاولات الاستحواذ عليها، وعدم احترام القوانين واللوائح والاتفاقيات، وعدم الالتزام و/أو المماطلة بشأن تسديد المستحقات التي هي أمانة في أعناق مستخدِمي الوقفيات والمستفيدين منها. كما أن هناك ضرورة لمطابقة سجلات الأوقاف مع ما هو واقع على الأرض؛ بهدف حصر الأوقاف وتوظيفها في خدمة الفرد والمجتمع، دون منح الفرصة للاستحواذ عليها.
وهنا؛ يجب أن يكون دور الدولة، كسلطة تنفيذية، إسناد القائمين على الأوقاف من أجل فرض “هيبة” سلطات القائمين عليها لتطويرها وتنمية مواردها بما يسهم في التنمية المستدامة للمجتمع الفلسطيني، كما يمكنهم من الصمود في وجه محاولات الاحتلال إضعاف تلك الأوقاف والسيطرة عليها بكل السبل. ومن الضرورة بمكان؛ النظر إلى أن العمل في الأوقاف و/أو متابعة قضاياها المختلفة يعتبر من المهمات الصعبة. ومما يرفع وتيرة الصعوبة تلك؛ أن الأوقاف تشمل مجموعة من المرافق الهامة في حياة الفرد والمجتمع؛ كمؤسسات اجتماعية و/أو اقتصادية.

اقرأ أيضا  الرئاسة الفلسطينية: زيارة بومبيو للمستوطنات بالضفة استفزازية

وعليه؛ فإن كل من يتعلق عمله بالأوقاف، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، يجب أن يتمتع بمجموعة من الخصال والصفات التي تمكنه من الإمساك، قدر الإمكان، بخيوط الأوقاف؛ بما يجعله قادراً على توظيفها في خدمة الفرد والمجتمع، وبما يؤهلها للإسهام في التنمية المستدامة التي تحقق للفرد الغنى عن الحاجة؛ ومد يده للغير. وأن يكون متفهماً للاستثناء الذي تعاني منه فلسطين، من خلال الاحتلال الذي يسعى لتهويد و”أسرلة” كل ما هو ساكن ومتحرك على هذه الأرض. وبين هذا كله؛ تبرز أهمية الأوقاف التي يستشعر الاحتلال أهميتها في تأكيد هوية الأرض وما عليها وملكيتها لأهلها الشرعيين.

بقي القول: إن ما يتعلق بالأوقاف هو شأن شرعي، بالدرجة الأولى، وأن أي مساس به سوف يحرفه بعيداً عن مفهوم الأوقاف بالمعنى الشرعي. كما أن هذه الأوقاف، وبدلاً من المناكفات والمشاحنات حول أحقية السيطرة عليها، لا بد من الالتفات إلى كيفية تطويرها وتنميتها، والحرص على مواردها، واختيار القائمين عليها من ذوي الأمانة وأصحاب الشكيمة؛ لتفويضهم وتمكينهم وإسنادهم بما يمكنهم من النهوض بالأوقاف كمؤسسة تشكل ركيزة هامة من ركائز الدولة المنشودة وعاصمتها القدس. ولتبقى الأوقاف في سياقها “الشرعي” رافداً هاماً للمجتمع إلى جانب الدولة، وعدم “الزج” بها في أتون “التشريع” والقوانين واللوائح التي قد تلقي بها في أتون “فقدان معناها كصدقة جارية” والابتعاد بها عن جوهرها الشرعي

المصدر : معا

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.