القرآن الكريم مصلحا

 الثلاثاء 15 محرم1435 الموافق19 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا)

د. خالد بن عبدالله المزيني 

إذا كان الشيء عظيماً كثرت أسماؤه وألقابه ونعوته وأوصافه، هذا من مطرد القواعد عند الأمم عربهم وعجمهم، ولما كان للقرآن العظيم بين الكتب مكانة لا يدانيها غيره، كثرت له الأسماء والألقاب، وقد أورد الإمام مجد الدين الفيروزآبادي (761هـ) مائة اسمٍ للقرآن الكريم، ساقها على نسقٍ واحد في كتابه “بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز” (1/88)، فذكر منها القرآن العظيم والعزيز والمجيد والنور والحكيم وغيرها، حتى إنه سمي(الكتابكأن لا كتاب غيره، قال تعالى: ﴿ حَم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 1-3]، والكتاب هو القرآن بإجماع المسلمين كما نقله الإمام ابن قدامة (620هـ) في “روضة الناظر” (1/178)، ولهذا لم يختلف أهل القبلة في مرجعيته والاحتجاج به وبنصوصه ومعانيه عند الاختلاف، وقد حكى الإمام أبو محمد ابن حزم (456هـ) في “الإحكام“(1/110) إجماع الفرق المنتمية إلى الإسلام من سنة ومعتزلة وخوارج ومرجئة وزيدية على وجوب الأخذ بما في القرآن. وعلماء الإسلام يتفاوتون في الرسوخ العلمي بحسب قرآنيتهم، كما قال الإمام الشافعي فيالرسالة” (19): “والناسُ في العلمِ طبقات؛ موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم بالقرآن“.

 

وهذه العظمة لها مسوغاتها، ففضلاً عن كون الكتاب الكريم (كلامالله تعالى وتقدس، وحسبك بهذه الفضيلة ففضله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر الناس، ذكره الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وفي سنده ضعف. فإن عظمة التأثير التي أحدثها القرآن الكريم في البشرية لا يدانيها أي شيء آخر، فما زالت الأمم تتعاطى صنوف الحكمة وضروب الفلسفة فما تزيد على أن تكون مسكنات ما تلبث أن تنتقض أمام طائف الشبهة أو نازغ الشهوة، وأحدثك عن نفسي فقد ألتزمت قبل سنوات قراءة ما كتبه خصوم القرآن من عتاة المتقدمين والمتأخرين، وجردت كماً كبيراً من مؤلفاتهم من هذا النمط، فكانت تقع لي الشبهات العاتية التي تكاد تعصف بيقين هذا العبد الضعيف، فما هو إلا أن أعاود قراءة آيات من كتاب الله حتى تطيح عني تلك الشبهات الفلسفية وتتبدد أمامي تبدد مساكن العنكبوت، وصدق ربي عز اسمه ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]، والله قدير.

اقرأ أيضا  في ظلال قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)

 

إن من أسرار هذا الكتاب المعجز أنه أعاد أول ما نزل – وما زال – العقل البشري إلى فطرته الأولى، وقام بتنظيف تجاويفه من خرافات الجاهلية الوثنية، وشبهات الفلسفة الوضعية التي كانت رحلة بشرية للبحث عن الحكمة المفقودة، فشقي الإنسان وما حصل منها شيئاً يذكر سوى قواعد رثة من منطق صوري بليد، حتى جاء القرآن ليعرضها غراء نقية من شوائب الجهل والظلم حتى شهقت أمام حججه وبراهينه عقول أذكياء الأمم، وعالج أمراض النفس البشرية وتتبع أقصى دائها فشفاها، ثم اتجه إلى رصد الظواهر المحيطة بالإنسان وربطها بأسبابها وغاياتها التي وجدت من أجلها، وألغى الأساطير الجاهلية التي تعزو تلك الظواهر إلى قوى خفية مبعثرة ومجهولة، وعمد إلى بناء المفاهيم الكبرى المتعلقة بالتوحيد والعبادة والخالق والمخلوق والحق والباطل والخير والشر والدنيا والآخرة، ونظم طرائق التفكير ودعا إلى تشغيل العقل تفكراً وتدبراً، وحث على التفكير الفردي والتفكير المؤسسي، في ترسلات لفظية بالغة الروعة، تحفز الإنسان على التحرر من معاني الفسوق والعصيان إلى العبادة الاختيارية الحرة، ومن الكسل والاستخذاء إلى العمران والبناء، وهدم أصنام الاتكال والأماني وحث على العمل والاجتهاد ووزع الواجبات ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأعراف: 169]، ودعا العقل إلى الاستبصار بالظواهر الكونية ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164].

 

لقد انتقل المسلمون بهذا الكتاب من حضيض التبعية إلى منصة القيادة الأممية، وصار القرآن قطب رحى الحضارة التي شادها الإسلام في عصوره الذهبية، أوليس هو الكتاب الذي يأخذ بمجامع العلوم ويدل على أصول المعارف ويرشد إلى منابت الحكمة ويستأنف وضع مقاييس الحقائق التي تعرضت للتحريف والتبديل، وبعض هذا هو ما يعجز عن مداناته أي كتاب من فئة (الأكثر مبيعاً في العالم).

اقرأ أيضا  المحكم والمتشابه في القرآن

 

والقرآن بوصفه كلام الله يضعك أمام نبأ مهيب يستبطن الهداية للإنسانية ويتسامى عن الغلط والزلل، والقرآن يكرر هذه النسبة إلى الله بروعة أسلوبه الأخاذ، ليؤكد مصدر هذا الكلام المحصور بين دفتي المصحف العزيز، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة: 6]، فنحن إذاً أمام (كلام الله)، وليس أحداً غير الله، كلام الله بكل سموه وجلاله وحكمته ونوره وهدايته، فمثل هذا الكلام العلوي لا تجيش به نفس إنسان أبداً، ومن يتتبع الآيات التي تدور حول هذا المعنى، ويرصد تفنن القرآن الكريم في تحقيق صدق هذه النسبة سوف تتلاشى عنه خرافات مناهج الأنسنة والنقد اللاهوتي والألسنية المادية التي تختزل البرهان في عبارات نحتها بعض المتفلسفة الغربيين، فوالله الذي لا إله غيره إن في كتابات خصوم القرآن من الوثوقية الضالة بأقوال بعض الدهريين من أساتذتهم ما يجعل المرء يحتار من ادعائهم العقلانية.

 

والقرآن أيضاً يضعك أمام كلام معجز، إعجازاً في المبنى وإعجازاً في المعنى؛ فالمبنى كالألفاظ والنظم والتراكيب، والمعنى كالإعجاز التشريعي والعلمي، وهذا الإعجاز إعجاز حقيقي بحيث يعجز الأفراد والمؤسسات عن الإتيان بما يضاهيه أو يحاكي سورة منه، وتقصر العقول الذكية عن مقاربة بلاغته، وليس إعجاز القرآن بصرف الناس عن الإتيان بمثله كما ظن بعض الغالطين من المعتزلة كإبراهيم النظام وآخرين، فإن هذا القول مما تنكره الآذان القويمة والأمزجة المعتدلة التي تفرق بين كلام وكلام ونظم ونظم، وأنت إذا راجعت آيات القرآن تجلت أمامك روعة النظم وحلاوة التركيب، والعاقل يقرأ مثل هذه التجليات فتأخذ بلبه، من مثل: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ [آل عمران: 153]، و﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]، ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام: 95]، ﴿ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام: 96]، ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18]، ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50]، ﴿ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن: 37] وغيرها كثير.

 

ذلك أن القرآن تحدى العرب وهم أهل فصاحة وبيان، وبقيت لهم فصاحتهم بعد نزول القرآن، ولو كانوا مصروفين عنه لكانت أشعارهم وخطبهم بعد النزول أضعف، ولكن هذا لم يقع كما قرر ذلك العلامة عبد القاهر الجرجاني (471هـ). هذا الكتاب الشريف له توقيعات خاصة – على حد تعبير دراز – تعلق في النفوس الصافية فلا تكاد تفارقها، وكل واحد من محبي القرآن تجده يكرر عبارة قرآنية يستحليها ويستعذبها كما لا يستعذبها غيره، وهذا أحد أوجه إعجازه، أن له وجوهاً من العظمة تنيف على الحصر، وتتأبى على النفاد، ولا تفنيها الصيرورة، على ما هو أعجب من جمال درة كريستالية تتألق كلما قلبتها ذات اليمين وذات الشمال ولا تخبو أضواؤها على كثرة الرد.

اقرأ أيضا  تفسير آية: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات

 

لهذا كله فإن خير ما نقابل به حملات الإحراق والتشويه للكتاب العزيز التي يصطنعها خصوم القرآن من الحاقدين في هذا العصر أن نعيد تقديمه للبشرية كما هو، كما أراده المتكلم به سبحانه وتعالى، الذي أراد له أن يبقى محفوظاً غضاً طرياً كما أنزل أول مرة، ليكون حجة وهداية للعالمين، وقيض أسباب حراسته وحفظه، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، فهذا وعد ناجز بحفظ الله للقرآن، وقد حكى الزركشي في كتابه “البرهان في علوم القرآن” (2/127): إجماعَ الأمةِ علىأنَّ المراد بذلك حفظه على المكلفين، للعمل بِه، وحراسته من وجوه الغلط والتخليط، فهنيئاً لمن كان من أسباب تحقيق مراد رب العالمين في كتابه، وأسهم في بناء حضارة القرآن، حفظاً لألفاظه وحفظاً لمعانيه، وتعلمه وتعليمه وطباعته ونشره، وأولى الناس بذلك هم العلماء والفقهاء وطلبة علوم الشريعة وذوي الرأي والجدة، والأهم من ذلك كله الغاية العظمى وهي فهمه وتدبره والعمل به، فطوبى لمن سخر حياته لهذه الغاية، أولئك هم الوارثون الذين ورثوا علوم النبوة وهداياتها، وحازوا من الخلود بقدر ما قدموه لهذا الكتاب الخالد.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.