بين السمع والبصر في القرآن الكريم
الثلاثاء 15 محرم1435 الموافق19 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا)
علي النجدي ناصف
يلحظ الذين يتلون كتاب الله، ويتدبرون آياته، أن السمع والبصر يلتقيان فيه مرادًا بِهما الحاسَّتان ثلاثَ عشرة مرَّة، جاء السمع فيها كلها مفردًا في اللفظ، وسابقًا في الذكر، وجاء البصر مجموعًا في اللفظ، ولاحقًا في الذكر، فمن ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26].
وما كان القرآن ليجمع بينهما على هذا النحو من الفرقة والتمييز مع توافق الكلمتين في الدلالة على المصدر، وتقابلهما في الذكر إلا لناشئة من حكمة، أو داعية من سر، ولم يفت المفسرين – على العهد بهم – أن يلحظوا هذا الخلاف، وأن يتلبثوا به، يعملون النظر فيه، ويبتغون الوسيلة إلى سره ومأتاه.
فأما التفريق بينهما في الإفراد والجمع، فقد رجعوا فيه إلى اللغة يستفتونَها، ويلتمسون الرأي عندها، فإذا لهم منها في تخريجهما وجهان:
أحدهما: أن السمع في أصله مصدر، والمصدر من أسماء الأجناس، فيدل مثلها على القليل والكثير، فالسمع في الآيات بمعنى الأسماع، وقد يلمح إلى ذلك جمع الأذن في مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5].
والوجه الآخر: أن يقدر مضاف قبل السمع، فيكون المعنى في الآية الأولى: وجعل لكم حواس السمع[1].
وهذا الذي نقلوه عن اللغة حقٌّ لا مرية فيه، ولا خلاف عليه، ولكنه لا جدوى منه، ولا مقنع به فيما نحن بسبيله؛ لأنَّه لم يبين لنا: لماذا جمع البصر وحده، ولم يجمع السمع معه، وكلاهما مصدر؟ ولم يبين: لماذا اختص السمع بالإفراد لفظًا، والدلالة على الجمع معنى، واختص البصر بالجمع لفظًا ومعنى؟ هلا كانا سواء في الإفراد والجمع.
وما أظن إلا أنَّ المفسِّرين قد سكتوا عن ذلك وفي نفوسِهم منه شيء، ولكن ماذا عسى أن يصنعوا أكثر مِمَّا صنعوا، وقد ألفوا في دهرهم الطويل أن يكلوا إلى اللغة وحدها أكثر ما يحزُبُهم من مشكلات التفسير؟ وقد أفضت إليهم اللغة بما عندها في هذه القضية، وأوفت معهم على الغاية جهد ما تطيق، وكأنما كتب على الدرس في تسلسله، وتتابع حلقاته أن يند بعض منه عن وعي العاكفين عليه، ليرِثَه الخالفون عنهم، فيتداركوا ما كان فيه من فوت، ويُتِمُّوا ما أصابه من نقص، ولأمر ما قالوا: كم ترك الأول للآخر!
ولقد كان خيرًا للمفسرين وأجدى عليهم أن يرجعوا إلى القرآن نفسِه، عسى أن تلوح لهم منه ومضة من نور، أو تلقى إليهم أثارة من علم، ولعلهم لو تعلَّقوا بِها، وقلَّبوا النظر فيها، أن يكون لهم منها هدى وبلاغ.
لنأخذ إذًا بما لم يأخذوا به، عسى الله أن يفتح بالرأي، ويهدي إلى الحق، وهذه آية موصولة الأسباب بآيات السمع والبصر، وهي منها على شبه قريب، تذكر مثلها، والمقام في ظاهر الأمر لسواه، وهي قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].
فالآيةُ تبدأ بإشارة إلى فريقين يختصمان في الله: فريق مؤمن، وآخر كافر، ثم تنصرف إلى الإخبار عنهما، لا كما تُخْبِر عن مُثنَّى؛ بل كما تخبر عن جمع، فلا يتطابق الخبر والمخبر عنهما، لكن هذا التخالف يصف حالاً طارئة، ويشير إلى سر مكنون؛ فالخصمان هنا يظلان في واقع الحياة خصمين اثنين، يقوم كل بموقعه، ويمارس أموره على طريقته، ما تركا الشقاق والشغب، وأقاما على المتاركة والسلم، وهما إذًا مثنى، يجري عليهما كل ما يجري على المثنى من أحكام التعبير، أما العدد الذي يتألف كلاهما منه، فلا وزن له هنا ولا حساب، فقد جمعت بينه العقيدة، ولزته العصبية بعضه إلى بعض، فإذا هو جمع عددًا، ولكنه مفرد حكمًا وتقديرًا، والخصومة إذًا قائمة بين صفين متراصين، لا بين أشتات من هؤلاء وهؤلاء.
أمَّا إذا بدتْ بينهما العداوة، وهاجتهما الحمية، وراح كل يستنفر أصحابه، ويحرضهم على النصرة والمشاركة، فقد انتشر الجمعان، وانفرط العقدان، وانقلبت الخصومة من جمع لجمع، إلى فرد لفرد، حتى ليعجل كلُّ إلى صاحبه فيوقع به ما أمكنت الفرصة منه، فحق على المثنى إذًا أن يخلي مكانه للجمع، فقد أصبح المقام له، هو وحْدَهُ القادِرُ على أن يَحكي هذه الصورة، وأن يخيلها للذهن بالإشارة الدالة، والإيماءة الموحية.
وآية أخرى تصف مثنى مؤنثًا بجمع مذكر سالم، وهي قوله تبارك اسمه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، فالأمر هنا لخلقين اثنين: السماء والأرض، فقد كانتا إذ ذاك ولا شيء معهما، وكان جوابُهما جواب جمع مذكر، تريدان أنَّ طاعته تعالى لن تكون منهما وحدَهُما كما كان الأمر لهما وحدهما، ولكن منهما ومِن كل مَن فيهما مِن خلقه، سبحانه وتعالى.
يتبيَّن من ذلك أنَّ القرآن حين يحل المخالفة محلَّ المطابقة لا يصنع ذلك جزافًا أو على ما خيلت، ولكن لأمر يراد، وأن من الخير إذا لم تسعف اللغة بالرأي فيه عن سماحة ويسر، ألا نحملها على تكلف الرخص وانتحال الأسباب؛ بل نرجع فيه إلى القرآن ما وجدنا إليه سبيلاً، ففيه حينئذٍ غناء خير منها، وعنده لا عندها الخبر اليقين.
وإذا نحن رجعنا من هنا إلى آيات السمع والبصر، تصحبنا تلك الخواطر التي فصلنا آنفًا، فماذا عسى أن نجد هناك؟ نجد أن السمع لا شأن له بغير الصوت، ولا معاملة له إلا معه، فهو يحمله إلى صاحبه، ويبلغه إياه على ما هو عليه، ولا مزيد، والصوت في واقعه شيء واحد، وإن تعددت ينابيعه، وتباينت أوصافه، وليس كذلك البصر، فإنه يدرك المرئيات كافَّة، وهي مع كثرتِها تختلف في مادَّتِها وتكوينها، وفي هيئاتِها وأشكالها، وفي أوصافها وألوانِها.
والقرآن إذ يذكر السمع بلفظ المفرد، ويقرن إليه البصر بلفظ الجمع، إنما يشير إلى أنَّ الحاسَّتين ليستا سواءً في مبلغ كلٍّ من عدد المدركات، وفي حظِّ كلٍّ من التَّلَقِّي عنِ الحياة والعمل لصاحبه، فالسمع يُدْرِك شيئًا واحدًا، هو الصوت، والبصر يدرك أشتاتًا من المرئيات، كأنه جمع من الحواس، لا حاسَّة واحدة.
فذكر السمع مُفْردًا يعني المطابقة بين لفظه ومسماه، وبين لفظه وعمله في وقت واحد، وذكر البصر بلفظ الجمع يعنِي التفرقة بينه وبين السمع في عدد المدركات من جانب، ثم المطابقة بين لفظه وتعدد مدركاته، بِما يَجعله شبيهًا بالجمع، وأهلاً لأن يعامل معاملته في التعبير عنه من جانبٍ آخَر.
أمَّا حين يذكر البصر ولا يذكر معه السمع، فإنه يذكر أخذًا على المعتاد من المطابقة بين الألفاظ ومعانيها مفردة وغير مفردة؛ إذ لا مجال إذ ذاك لمفاضلة ولا ترجيح، وما هو إلا البصر كما يراه الله تعالى في حقيقته، حاسة من الحواس ليس غير، ومن ذلك قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
وقد ذكر الفؤاد مع السمع والبصر في خمس آيات، وجاء فيها كلها مجموعًا كالبصر، مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]، وحكمة ذلك – والله أعلم – أن الفؤاد تتعدد أحواله، كما أنَّ البصر تتعدَّد مدركاته، فهو يجيش بألوان من العواطف، وتنبعث فيه ضروب من المشاعر والانفعالات.
كذلك يجمع القرآن السمع والبصر والفؤاد في آية واحدة، ويذكرها جميعًا بلفظ المفرد، وهي قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، ولعل ذلك – والله أعلم – لأن المقام ليس للإشارة إلى مدركاتها، والمفاضلة بينها، ولكنه للنهي عن اتباع المرء ما لا يعلم من قول وفعل، والإنذار بأنه مسؤول عما يسمع، وما يبصر، وما ينوي من شيء، فيقال له يوم القيامة كما في “الكشاف”: “لِمَ سمعت ما لم يحلَّ لك سماعه؟ ولِمَ نظرت إلى ما لم يحَّل لك النظر إليه؟ ولِمَ عزمتَ على ما لم يحلَّ لك العزم عليه؟”[2]، فالسمع هنا يعني المسموع، والبصر يعني المرئي، والفؤاد يعني المنوي.
هذا قولنا في ذكر السمع مفردًا، والبصر جَمعًا حين يلتَقِيان، ثُمَّ في ذكر البصر حين يفرد وحْده بالذِّكر، وبقي أن نقول في ذكر السَّمع سابقًا، والبَصَر لاحِقًا، وألاحظ قبل القول في ذلك أن السمع لا يسبق البصر حين يكون كلاهما حاسَّة عاملة ليس غير، كما في الآيات التي مضت آنفًا، ولكنه يسبقه أيضًا حين يكون كلاهما وصفًا مميزًا لصاحبه، وقد ذكرا كذلك في إحدى عشرة آية، منها قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
أما القول في سبق السمع، وتأخر البصر، فهو القول بما يدل عليه حال الترتيب نفسه، فما من أحد يأخذ في كلامه بترتيب معين، يلتزم فيه تقديم شيء على قرينه، لا يعدل عنه، أو يراوح فيه إلا وهو يريد الإشارة بذلك إلى إيثار المقدم لفضل مزية فيه دون قرينه، فكيف هو بين السمع والبصر على ترتيبهما في كلام العليم الخبير؟
وقديمًا رأى الخليفة الأول أن ذكر المهاجرين قبل الأنصار في القرآن الكريم آية مزية، وشارة تفضيل، ولذلك أقبل – رضي الله عنه – يحاجُّ الأنصار في الخلافة يوم السقيفة، ليصرفهم عن طلبها، ومنازعة المهاجرين فيها، فيقول فيما يقول: “أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم”[3].
أمَّا القدماء فقد تفرقت بهم السبل في القضية: فقال قوم بتفضيل السمع؛ لأنه “يدرك به الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك البصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع”، وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع؛ لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات، والبصر تدرك به الأجسام، والألوان، والهيئات[4].
إذًا ليس في تقديم السمع على البصر في القرآن أمارة فضل له عليه عند أكثر المتكلمين، إذا صح أنهم قالوا عنه ما قالوا في حضرة القرآن، وعلى ذكر منهم لآياته، لا أنهم قالوه ذهابًا مع البحث المُجَرَّد، وإيغالاً في طلب الحقيقة خالصة من الحدود والقيود.
وأيًّا ما يَكُنِ الأَمْرُ فلا حَرَجَ على بَاحِثٍ أن يرى في القضيَّة رأيًا، ويدلي فيها بدلو إن كان من أصحاب الدلاء، إذًا يمكن أن يقال: إن مدار الحكم للبصر على السمع عند الذين يصفهم القرطبي بالأكثرين هو أن البصر أكثر مدركات من السمع، كأنَّ الأمر تكاثر بالعدد، وليس مفاضلة في القيمة والقدر، والعدد إن يهن شأنه وتقل قيمته لا تغن الكثرة عنه شيئًا، ولا يستوجب بها فضلاً على عدد من نوعه أقل جملة وأكبر نفعًا.
وحسب السمع فضلاً أنَّ من يفقده ناشئًا يفقد أكرم ما يعتز الناس به، ويتفاضلون فيه: المعرفة الفاضلة، والتعبير باللفظ المبين، ولا تعدو الحياة عنده أن تكون معرضًا لأشتات من المشاهد والصور والألوان، لا يعرف لها معنى ولا يكتَنِهُ لها سرًّا، ولا كذلك الذي يفقد البصر ناشئًا مثله، فإن تحجب الحياة عن ناظريه رؤية وعيانًا – لا تحجب عن أذُنَيْهِ علمًا وذوقًا، ولا تمتنع على خياله ألوانًا وصورًا، بما ترفده به اللغة من مادة، وما تعرض عليه من تصنيع المبصرين، والله مؤتيه من بعد نصيبًا من الألمعية التي ينعم بها على جَمهرة المُبْصِرين، منة فاضلة، وعوضًا صالحًا، وبديلاً مقاربًا، ثم هو فوق ذلك كله أحضر ذهنًا، وأجمع وعيًا، وأوسع استيعابًا، لا يصرفه شاغل من شواغل البصر عما يكون فيه من شأن، ولا ما يكون منه بسبيل.
ويحدث التاريخ في عصوره المتعاقبة عن مكفوفين كبار، استطاعوا بالجد الدائب والعزم الصادق، أن يبلغوا مبلغ النابهين المقدمين من أعيان العلماء والأدباء، وأن يأتوا بمثل ما أتوا به من ثمرات العلم والأدب؛ بل ربما كان منهم من بز أقرانه من المبصرين، وجاء من بينهم بأعجب الأعاجيب، لا يقعد به أو يرده عن مقام الصدارة أن كف بصره في عهد الصبا، أو مطلع الشباب.
نذكر من هؤلاء ابْنَ سِيدَه صاحب “المحكم” و”المخصص” و”المحيط الأعظم” في اللغة، إلى كتب أخرى في النحو، والقوافي، والحكمة، والعكبري صاحب أكثر من ثمانين كتابًا في علوم القرآن، والأدب، وفروع اللغة، والسهيلي مؤلف “الروض الأنف” في شرح السيرة النبوية، إلى كتب غيرها في القرآن، والنحو، وعلم الكلام[5].
ويروي الجاحظ بيت ذي الرمة في صاحبته:
حَوْرَاءُ فِي دَعَجٍ صَفْرَاءُ فِي نَعَجٍ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ |
ثم يقول: “إن المرأة الرقيقة اللون، يكون بياضها بالغداة يضرب إلى الحمرة، وبالعشي يضرب إلى الصفرة”، ويؤيد ذلك بقول الأعشى في صاحبته أيضًا:
بَيْضَاءُ ضَحْوَتَهَا وَصَفْ رَاءُ العَشِيَّةَ كَالعَرَارَةْ |
ثم يروي قول بشار لصاحبته:
وَخُذِي مَلاَبِسَ زِينَةٍ وَمُصَبَّغَاتٍ فَهْيَ أَفْخَرْ |
ويعقب على المشهدين، فيقول: “وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الأمر ما لا يبلغه تمييز البصير، ولبشار خاصة في هذا الباب ما ليس لأحد”[6].
ولا ندري ماذا كان الجاحظ قائلاً لو تأخر به الزمن، فقرأ قول المعري، في بعض مشاهد الطبيعة:
رُبَّ لَيْلٍ كَأَنَّهُ الصُّبْحُ فِي الحُسْ نِ وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ الطَّيْلَسَانِ |
إلى أن يقول:
لَيْلَتِي هَذِهِ عَرُوسٌ مِنَ الزَّنْ جِ عَلَيْهَا قَلاَئِدٌ مِنْ جُمَانِ |
ثم يقول:
وَسُهَيْلٌ كَوَجْنَةِ الحِبِّ فِي اللَّوْ نِ وَقَلْبِ المُحِبِّ فِي الخَفَقَانِ |
أظن أننا بعد هذا لا نظلم البصر، أو نغض من قدره حين نقول: إن السمع خير منه عاقبة، وأكبر نفعًا، وأحمد صنعًا، فالتفاضل من سنن الطبيعة، والله تعالى يقدر الأشياء بقدرها، وينزل كلاًّ منها بمنزلته، ففاضل ومفضول، ومقدم ومؤخر، كل على حسب ما خلق له، ووكل إليه.
وليست مطالب المرء سواء في غايتها، أو الوسيلة إليها، وما هو ببالغ مأمله منها على ما يشتهي ببعض أسبابه دون بعض، وإلا لم يأمن القصور عنه، ولا خيبة الرجاء فيه، فلكل نصيب من الظفر به والإمكان منه، وإذا كان البصر لا يسامي السمع في فضله، فإنه مع ذلك النور المبين، وفيه زينة ومتاع للمبصرين.
[1] “تفسير القرطبي”: 1/ 165 – ط. دار الكتب المصرية، و”الكشاف” للزمخشري: 1/ 22 – ط. المطبعة البهية المصرية.
[2] “الكشاف” للزمخشري: 1/ 547.
[3] “البيان والتبيين”: 3/ 379 – ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر.
[4] “تفسير القرطبي”: 1/ 165، 166.
[5] “نكت الهميان”: 204، 178، 187.
[6] “البيان والتبيين”: 1/ 225، و”نكت الهميان”: 83، 84.
[7] “شرح التنوير على سقط الزند”: 194، 195.
المصدر: من كتاب: “مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة”