مواصفات السنن القرآنية
الأربعاء 16 محرم1435 الموافق20 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا)
د. رشيد كهوس
إن مواصفات السُّنن القرآنية تُعنَى بمميِّزاتها الشكلية؛ بحيث لا يعزُب عن ذي لُبٍّ أن القرآن الكريم يتَّصف بمواصفاتٍ ربَّانية، وخصائص ثابتة كما جاء في آياته البيِّنات، وحيث إن سنن الله – عز وجل – نستخرجها ونستنبطها من القرآن الكريم، فلا غرو أن تكون مواصفاتها وخصائصها ومميزاتها كالقرآن الكريم.
ومواصفات سنة الله وخصائصها ومميزاتها التي تميَّزت بها أنَّى وُجِدَت، وُجِد الصدق والعدل، وحيثما حلَّت حلَّ الصدق والوفاء، وتبقى كلمات الله دائمًا هي العليا.
ونجمل مميزات وخصائص ومواصفات سنن الله في أربع مميزات وخصائص:
1- الصدق.
2- العدل.
3- العلو والرفعة.
4- القول الفصل.
نقف مَلِيًّا مع هذه المواصفات لنسلِّط عليها بعض الأضواء لنستضيء بنورها:
1- الصدق:
قال الحق – جل وعلا -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال – جل ذكره -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
إنَّ صدق سنن الله يعني: “وقوع مضمونها من حيث كونه خبرًا لسبق علم الله به، وكونه في الكتاب مسطورًا، ولنفي الله إخلافَ الوعد وذمه للمخالفين له، ومع كل هذا وذاك فالله فعَّالٌ لما يريد، ما فعل هذا جبرًا، ولا فرض عليه فرضًا، إنما حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرمًا بين مخلوقاته من إنس وجانٍّ، ومضت كلماته التامَّات لا تحابي أحدًا، ولا تميِّز بين رفيع ووضيع، ولا بين طويل وقصير، ولا بين أبيضَ وأسودَ، ولا بين غنيٍّ وفقير؛ إلا بالتقوى، وبمقتضى دلالات كلمات الله المتميِّزة بميزتي الصدق الذي لا يشوبه باطلٌ، والعدل الذي لا يشوبه ظلمٌ أو استبداد“[1].
ويظهر هذا الصدق جليًّا في الوعود القرآنية؛ قال الحق – جل وعلا – لنبيه الكريم – صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وتمضي الأيام ويتحقَّق الوعد القرآني بعد بضع سنين من نزول الآية، فعاد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى مكَّة فاتحًا منصورًا، بعدما خرج منها مهاجرًا إلى المدينة.
وقال الباري – سبحانه وتعالى -: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20]، فتحقَّق الوعد القرآني بفتح مكة وهي الغنيمة المعجلة، ثم تتالت باقي الوعود في عهد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – ومن بعدهم من الفتوحات الإسلامية التي جعلها الله على أيديهم، ويبقى الوعد مفتوحًا إلى آخر الزمان، ويدخل في {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} كلُّ الغنائم التي سيغنمها المسلمون إلى يوم القيامة.
2- العدل:
إنَّ البشرية ترنو دائما “إلى إيجاد قوانين تتَّصف بالعدل، وتنفي الظلم والجور، وكم يكون مصاب البشر أليمًا عندما يجدون القوانين التي يرجونها لإقرار العدل والإنصاف تقنِّن الظلم، بحيث يكون هو النظام الذي يحكم في رقاب العباد!
إنَّنا لا نريد بالعدل تطبيق القاعدة القانونية؛ فجور القاضي وظلم الحاكم في الحكم بخلاف القانون ليس هو المراد هنا، بل المراد هو اتصاف القانون بالعدل.
إن الذين يضعون القوانين البشرية لا يمكنهم أن ينسلخوا من طبائعهم البشرية؛ ولذلك نراهم يميلون بالقوانين تجاه الفئة الحاكمة، فتعطى من المصالح والمنافع ما لا يعطى غيرها، وهي في هذه الحالة تقرِّر الظلم وهي تعلم بذلك، وفي بعض الأحيان تضع القوانين الظالمة بسبب جهلها بالعدل الذي يجب أن تقنَّن، فواضِعُو القوانين البشرية بشرٌ فيهم ظُلْم وجهالة، وبسبب ذلك يقرِّرون كثيرًا من القواعد القانونية التي تتَّصف بالظُّلم“[2].
أمَّا سنن الله وناموسه الكوني وقانونه العادل، فليس من وضع البشر؛ بل هي سننٌ بيَّنها الله في كتابه الحكيم، والله يتَّصف بالعدل التامِّ: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وكذلك سننه؛ فالسنن مصطبغةٌ بالعدل اصطباغًا تامًّا، فلا تميل تلك السنن إلى جانبٍ ضدَّ جانب، بل هي عامَّةٌ وشاملة ومطَّرِدَة، ولا تحابي أحدًا، حاكمًا كان أم محكومًا، مؤمنًا أم كافرًا، رجلاً أم امرأةً، الكلُّ سواسية في ميزانها ومنظارها؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؛ فسنن الله وقوانينه عدل كلها وإنصاف للجميع، تضع كل شيء في موضعه؛ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، قال الإمام قتادة – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: “صدقًا فيما قال، وعدلاً فيما حكم“[3]، وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: “فكلُّ ما أخبر به فحقٌّ، لا مرية فيه ولا شكَّ، وكلُّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلُّ ما نهى عنه فباطلٌ، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة“[4].
هكذا كان عدل الله بالمرصاد للطغاة المكذِّبين، وكان صدق الآيات الحقيقة القاهرة بأنوارها للكاذبين، ولنا في قصة سيدنا يوسف – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم – خير دليلٍ على ذلك العدل: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
أمثلة لعدالة سنن الله
بكون الجزاء من جنس العمل
العمل |
الجزاء |
{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} |
{يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} |
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} |
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} |
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا} |
{يَرَهُ} |
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا} |
{يَرَهُ} |
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} |
{يُجْزَ بِهِ} |
{اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} |
{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} |
{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} |
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} |
3- العلو والرفعة:
قال الباري – جل وعلا -: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]؛ أي: “كلماته القدرية وكلماته الدينية هي العالية على كلمة غيره“[5]، وقد قُرِئ: {كَلِمَةَ اللَّهِ} بالنصب، و”لكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى؛ لأنها تعطي معنى التقرير، فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً“[6].
أي كلماته القدرية وكلماته الدنيوية هي العالية على غيرها.
وهكذا، فسنن الله وقانونه العادل هي الظاهرة والعالية فوق كل القوانين، وهي كلمة “نافذة بتمامها لا تعترضها كلمةُ أيٍّ كان، بذلك استحقَّت العلوَّ والرفعة، وكلمات الله نور وبرهان مبين، وكلمة الجاحدين ذليلةٌ حقيرةٌ مهما ساندتها من عُدَّة وعَدَد فمآلها إلى زوال وخسف، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون، فلا بُدَّ من ظهور دين الحق وكلمات الله“[7].
ولمَّا كانت كلمةُ الله هي العليا، فإن مَن سار على منهاجها اتَّصف بصفاتها؛ {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
كانت كلمة الله – عز وجل – هي العليا، واجتمعت في كتاب الله – تعالى – فكان هو المهيمن على كل شيءٍ، وعلى مَنْ سواه من الكتب المنزلة السابقة، وعلى كل فكر أنتجه البشر.
4- القول الفصل:
قال الحق – جل ذكره -: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13- 14]؛ أي: “حقٌّ وجدٌّ يفصل[8] بين الحقِّ والباطل“[9]، يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله -: “يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين: السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته بالشدَّة والنفاذ والجزم، يقسم بأنَّ هذا القول الذي يقرِّر الرجعة والابتلاء، أو بأنَّ هذا القرآن عامَّة هو القول الفصل الذي لا يتلبَّس به الهزل، القول الفصل الذي ينهي كلَّ قول وكلَّ جدل، وكلَّ شك وكلَّ ريب“[10].
وبما أنَّ سنن الله قرآنيةٌ فإنها تتَّسم بسماته، فهي تفصل بين الحق والباطل، وبين المتَّقين والظالمين، والكافرين والمؤمنين، وقاطعة لكلِّ مَن ناوأها وعاداها وأعرض عنها.
إنها كلمات الله التامَّات، ووعوده الحقَّة، وعهوده الثابتة، “تلك الكلمات الحاسمات بين الحقِّ والباطل، بين الجدِّ والهزل، الكلمات الصادقات الصارمات القاطعات التي لا يبقى بعدهنَّ غبش ولا لبس، ولا شكوك ولا حيرة ولا ظنون“[11].
إنها حجة الله البالغة، وبرهانه الصادق، وآياته البيِّنات الدامغة للباطل، الرافعة لراية الحق المبين، الدالَّة على وحدانية الخالق – سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــ
[1] “التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية”؛ أ. محمد معمر جابري، مؤسسة الندوي للدراسات والأبحاث العلمية وجدة، ص132.
[2] “المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي”؛ د. عمر سليمان الأشقر، ص84.
[3] “تفسير ابن كثير”: 2/168، “تفسير البغوي”: 3/181.
[4] تفسير ابن كثير: 2/ 168- 169.
[5] “تفسير السعدي”: 1/337.
[6] “في ظلال القرآن”؛ الأستاذ: سيد قطب، 3/1656.
[7] “التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية”: ص 140.
[8] وفي “تفسير السعدي”: “أي: حقٌّ وصدقٌ بيِّن واضح”، ص919.
[9] “تفسير البغوي”: 8/395.
[10] “في ظلال القرآن”: 6/3880.
[11] “التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية”: ص142.
المصدر : الألوكة