اللؤلؤ والجوهر المستخرج من سورة الكوثر
الجمعة25 محرم1435 الموافق29 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
د. نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فقد منَّ الله تعالى على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – بأن جعل ذمَّ المشركين له رفعةً وعلواً فكلما ذمه ذام منهم وانتقصه أكرمه الله ببشارة هي خير من الدنيا وما فيها[1] ومن ذلك أن العاص بن وائل السهمي كان إذا ذُكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخر السورة[2].
ومما قيل في سبب نزولها:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف[3] مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}[4]. وهذا هو ديدن اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان يزينون للمشركين ما هم عليه من كفر وضلال تصريحا تارة وتلميحا أخرى بل تعدى الأمر هذا عند كثير من أبناء المسلمين فقد قاموا بتعداد محاسن المشركين – زعموا- وتزيينها في نفوس الشباب والفتيات عبر وسائل الإعلام المتنوعة المقروء.
منها والمرئي والمسموع وانتقاص المسلمين والتقليل من شأن العلماء الربانيين في التحذير من ذلك بل ووصموهم بما هم منه براء ناسين أو متناسين قول الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون * اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 6- 16].
وعودا إلى سورة الكوثر؛ فهي ثلاث آيات قصار وهي أقصر سورة في القرآن[5].
قال الطاهر بن عاشور – رحمه الله تعالى -: “سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها وفي جميع التفاسير أيضاً سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه[6]، وعنونها البخاري في (صحيحه)[7] سورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يعدَّها في (الإِتقان)[8] مع السور التي لها أكثر من اسم، ونقل سعد الله الشهير بسعْدِي في (حاشيته على تفسير البيضاوي) عن البِقاعي[9] أنها تسمى (سورة النحر)[10].
وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور[11] واقتصر عليه أكثر المفسرين”.اهـ.[12]
وسورة الكوثر مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وصوَّبه السيوطي في الاتقان[13] ورجحه النووي[14] رحمهم الله تعالى جميعا.
قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} هذه الآية تدل على عطية كبيرة صادرة من معط كبير غني واسع، وصدَّر الآية (بإنَّ) الدالة على التأكيد وتحقيق الخبر وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال على التحقيق وأنه أمر ثابت واقع ولا يدفعه ما فيه من الإيذان بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قدرت مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة[15] وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين [16].
ما هو الكوثر؟
والكوثر فسره النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: (أُنزلت على آنفا سورة). فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}.
ثم قال: (أتدرون ما الكوثر)؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيُختلج[17] العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى. فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك)[18] وهذا الحديث استدل به مَن يرى السورة مدنية لرواية أنس له ولم يُسلم رضي الله عنه إلا في المدينة[19].
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه [20].
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – معلقا على قول سعيد: وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر مِن لفظ النبي – صلى الله عليه و سلم – فلا معدل عنه.اهـ.[21]
وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة منها: قول عكرمة الكوثر النبوة، وقول الحسن الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس[22]. والصحيح هو ما فسره به النبي – صلى الله عليه وسلم – والله أعلم.
وهذا النهر العظيم جاءت له صفات كثيرة منها:
ما جاء في حافتيه وطينته: روى أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر)[23].
وفي رواية للبخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء قال: (أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)[24].
وكذا حافتاه من ذهب كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج)[25].
أما آنيته: فقد قال أنس رضي الله عنه قال نبى الله – صلى الله عليه وسلم – (تُرى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)[26].
أما مجراه وتربته وماؤه: فكما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج)[27].
وقد حدث النبي – صلى الله عليه وسلم – عن طيوره في حديث أنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – (هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: (آكِلُوهَا أَنْعَمُ مِنْهَا)[28].
وراه أنس بلفظ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ تَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ نَاعِمَةٌ. فَقَالَ (أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا) قَالَهَا ثَلَاثًا (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ مِنْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ)[29].
قال ملا علي القاري – رحمه الله تعالى -: “في ذلك النهر أو في أطرافه طير أي جنس من الطيور طويل العنق وكبيره أعناقها كأعناق الجزر بضم الجيم والزاي جمع جزور والمعنى أنه أعد للنحر ليأكل منه أصحاب شرب ذلك النهر فإنه بها يتم عيش الدهر”.اهـ.[30] وقوله: (لناعمة) أي سمان مترفة[31].
ومن صفاته أنه يجري على وجه الأرض من غير شق فيها لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: (أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا فَإِذَا حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى تُرْبَتِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكَةٌ ذَفِرَةٌ وَإِذَا حَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ)[32].
وعن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أظنكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض! لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينها المسك الأذفر. قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له[33].
وسأل سماكٌ ابنَ عباس رضي الله عنهما عن أنهار الجنة أفي أخدود؟ قال: لا ولكنها تجري على أرض الجنة مستكفة لا تفيض ها هنا ولا ها هنا قال الله لها كوني فكانت[34][35].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى -:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان |
أما موقعه:
فعن أبى عبيدة بن عبد الله قال: قلت لعائشة رضي الله عنها ما الكوثر؟ قالت: نهر أعطيه النبي صلى الله عليه و سلم في بُطنان الجنة. قال: قلت وما بطنان[37] الجنة؟ قالت: وسطها حافتاه درة مجوف [38]. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه مفسرا قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بُطنان الجنة [39].
قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: أي أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.اهـ.[40]
وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “وقال آخرون في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك”.اهـ.[41]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم.اهـ.[42]
والمتتبع لسيرته – صلى الله عليه وسلم – يجده قد قام بهاتين العبادتين خير قيام امتثالا لأمر ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 1- 8]، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فسألته لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أَفَلَا أٌحِب أنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)[43]
وكان – صلى الله عليه وسلم – يضحي بكبشين أقرنين يذبحهما بيده كما في حديث أنس رضي الله عنه[44].
وفي حجة الوداع يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه – صلى الله عليه وسلم – انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر[45].
وجاء الوعيد الشديد لمن صرف شيئا من ذلك لغير الله تعالى كما يحدث الآن في المشاهد وعند الأضرحة فعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ)[46].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163] وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لاَ عَقْرَ فِي الإِسْلاَمِ). قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة[47].
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد) ؟. قالوا: لا. قال: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ)؟. قالوا: لا. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ)[48].
قال العلامة حافظ الحكمي – رحمه الله تعالى -: “بل نحروا في سوحها أي في أفنية القبور النحائر من الإبل والبقر والغنم إذا نابهم أمر أو طلبوا حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك وأكثرهم يسمها للقبر من حيث تولد ويربيها له إلى أن تصلح للقربة في عرفهم ولا يجوز عندهم تغييرها ولا تبديلها ولا خصيها ولا وجاؤها لا يذهب شيء من دمها إذ ذلك عندهم نقص فيها وبخس فِعْل أولي التسييب والبحائر أي كفعل مشركي الجاهلية من العرب وغيرهم في تسييبهم السوائب وتبحير البحائر وجعل الحام[49]“.اهـ.[50]
وقال الصنعاني – رحمه الله تعالى -: “وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون”.اهـ.[51]
قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} قال العلامة السعدي – رحمه الله تعالى -: “{إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك وذامك ومنتقصك {هُوَ الأبْتَرُ} أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر، وأما محمد – صلى الله عليه وسلم -، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفْع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع – صلى الله عليه وسلم -“.اهـ.[52]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: “والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه و نقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه و أبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانىء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانىء أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ذلك؛ فإن ذلك سهل على من يخاف السيف.
تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه و الاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره وذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه وأثره وإذا اقتضى الشنآن قطع عينه وأثره كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا وهو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه – الصلاة والسلام – فلا يذكر إلا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى إنه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وإن كان غير فقيه أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وإن بقيت أعيانهم وقتا لم يظهروا الشنآن؛ فإذا أظهروه محقت أعيانهم وأثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا”.اهـ.[53]
وقال – رحمه الله تعالى -: “سورة الكوثر ما أجلها من سورة وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلم من آخرها فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا. ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله ورسوله منها أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته أو تمنى أن لا تكون آيات الصفات أنزلت ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك وحاد ونفر عن ذلك لما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها فأي شانئ للرسول أعظم من هذا وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والقصائد والدفوف والشبابات إذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه فأي شنآن أعظم من هذا وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب.
وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه ويشتغل بقول فلان وفلان ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرا يؤثر فهذا أعظم وأطم انبتارا وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شناءته له فهؤلاء لما شنئوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم فبترهم منه وخص نبيه – صلى الله عليه وسلم – بضد ذلك”.اهـ.[54]
ولعل من المناسب أن أذكر بعض المسائل المتعلقة بحوض النبي – صلى الله عليه وسلم -:
الإيمان بالحوض:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: “قال القرطبي في المفهم تبعا للقاضي عياض مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي إذ روى ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصحابة نيف على الثلاثين منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين وفي غيرهما بقية ذلك[55] مما صح نقله واشتهرت رواته ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرا وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته ولا حاجة تدعو إلى تأويله فخرق مَن حرَّفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف، قلت: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة”.اهـ.[56]
وأول مَن جاء عنه إنكار الحوض عبيد الله بن زياد ثم آمن به فعن أبي سبرة قال: كان عبيد الله بن زياد يسأل عن الحوض حوض محمد – صلى الله عليه وسلم – وكان يكذب به بعد ما سأل أبا برزة والبراء بن عازب وعائذ بن عمرو ورجلا آخر وكان يكذب به فقال أبو سبرة: أنا أحدثك بحديث فيه شفاء هذا إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية فلقيت عبد الله بن عمرو فحدثني مما سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأملى علي فكتبت بيدي فلم أزد حرفا ولم أنقص حرفا حدثني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إن الله لا يحب الفحش أو يبغض الفاحش والمتفحش)، قال: (ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين) وقال (ألا إن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد وهو كما بين آيلة ومكة وهو مسيرة شهر فيه مثل النجوم أباريق شرابه أشد بياضا من الفضة من شرب منه مشربا لم يظمأ بعده أبدا) فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثا أثبت من هذا فصدَّق به وأخذ الصحيفة فحبسها عنده.[57]
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخلت على عبيد الله بن زياد، وهم يتراجعون بينهم الحوض فلما رآني قال: قد جاءكم أنس، فانتهيت إلى القوم فقالوا: ما تقول في الحوض يا أنس؟ قال: فاسترجعت، وقلت: ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكرون الحوض، لقد تركت بعدي عجائز ما تصلي واحدة منهن صلاة إلا سألت الله عز وجل أن يوردها حوض محمد – صلى الله عليه وسلم –[58].
هل الحوض هو الكوثر أو غيره؟
اختلف في ذلك العلماء ولعل أظهر أقوالهم وأصحها دليلا وتعليلا هو أن الحوض غير الكوثر وهو خارج الجنة أما الكوثر فداخلها وهذا ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وقد سبق أن ذكرت جملة منها والحوض يتغذى من الكوثر إذ يصب ميزابان من الكوثر على الحوض كما في حديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: (وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عمانَ إِلَى أَيْلَةَ[59] مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ)[60].
والحوض يرده المسلمون قبل دخولهم الجنة قال ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله تعالى -: الحوض في العرصات قبل الصراط[61]، لأنه يختلج عنه، ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ)[62]. والفرط: الذي يسبق إلى الماء.اهـ.[63]
وهذا الحوض مربع الشكل زواياه سواء كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلاَ يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا)[64] كما سبق ذكر عرضه وطوله في حديث أبي برزة وأبي ذر رضي الله عنهما.
وهناك أقوام لا يردون الحوض وقد ذكرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث منها:
ما رواه أنس رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِى حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا[65]دُونِي فَلأَقُولَنَّ أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِى أُصَيْحَابِي فَلَيُقَالَنَّ لِي إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)[66].
قال عبد القاهر البغدادي – رحمه الله تعالى -: وأجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم من كندة وحنيفة وفزارة وبني أسد وبنى قشير وبني بكر ابن وائل لم يكونوا من الأنصار ولا من المهاجرين قبل فتح مكة وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر الى النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل فتح مكة وأولئك بحمد الله ومنِّه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم.اهـ.[67]
وقال الخطابي – رحمه الله تعالى -: لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لانصرة له في الدين وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين ويدل قوله أصيحابي بالتصغير على قلة عددهم. وقال غيره: قيل هو على ظاهره من الكفر والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة.اهـ.[68]
وقيل هم المنافقون أو أصحاب الكبائر أو أصحاب الفرق الضالة والمبتدعة.[69]
وممن يُردُّ عن حوضه – صلى الله عليه وسلم – ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ)[70].
عن العباس الجريري أن عبيد الله بن زياد قال لأبي برزة رضي الله عنه: هل سمعت النبي صلى الله عليه و سلم ذكره قط يعنى الحوض؟ قال: نعم لا مرة ولا مرتين فمن كذب به فلا سقاه الله منه[71].
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه ميزابان |
اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تجعلنا ووالدينا ممن يرد حوض وكوثر نبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – وأن تسقينا منهما شربة لا نظمأ بعدها أبدا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وزاد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ومن ذلك ما رواه جندب رضي الله عنه قال: أبطأ جبريل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} رواه مسلم (4757) ورواه البخاري (4698) بلفظ: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضُّحى: 1- 3].
[2] رواه الواحدي في أسباب النزول /307 والبيهقي في البعث والنشور (117) وانظر: تفسير البغوي 8/560 تفسير الخازن 7/305 البداية والنهاية 5/328.
[3] كان كعب بن الأشرف موادعا للنبي – صلى الله عليه وسلم – في جملة مَن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طيء وكانت أمه من بني النضير فلما قُتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51- 52] ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها النبي – صلى الله عليه وسلم – ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).أحكام أهل الذمة 3/1419 زاد المعاد 3/191 وقد قتله محمد بن مسلمة وآخرون رضي الله عنهم في قصة رواها البخاري (3811) ومسلم (4765).
[4] رواه النسائي في الكبرى (11707) وابن جرير (9786) وابن المنذر (1882) وصححه ابن حبان (6572) والبزار في مسنده (2293) واللفظ له قال ابن كثير عن إسناد البزار: صحيح. التفسير 8/504.
[5] تفسير القرطبي 1/74.
[6] باب رقم (89).
[7] باب رقم (462).
[8] الإتقان في علوم القرآن 1/148.
[9] في تفسيره نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 8/547.
[10] انظر تفسير روح المعاني 30/244.
[11] وقال أبو حيان: هذه السورة مكية في المشهور، وقول الجمهور. البحر المحيط 8/520.
[12] التحرير والتنوير 30/517.
[13] الاتقان في علوم القرآن 1/46.
[14] روح المعاني 30/244.
[15] كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة – قال – وعرشه على الماء) رواه مسلم (6919).
[16] مجموع الفتاوى 16/529.
[17] أي يقتطع وينتزع. الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/132.
[18] رواه مسلم (607).
[19] انظر: تفسير ابن كثير 8/498.
[20] رواه البخاري (6207).
[21] فتح الباري 8/732 تحفة الأحوذي 9/205.
[22] فتح الباري 8/732 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20/217 الدر المنثور 8/650المحرر الوجيز 5/497.
[23] رواه البخاري (6210).
[24] صحيح البخاري (4680).
[25] رواه أحمد (6476) وابن أبي شيبة (323119) والترمذي (3361) وابن ماجه (4334) والدارمي (2837) والبغوي في شرح السنة 7/488 وهناد في الزهد (132) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[26] رواه مسلم (6140) وأحمد (13521) وزاد (أو أكثر من عدد نجوم السماء).
[27] تقدم تخريجه قريبا.
[28] أحمد (13505) والنسائي في الكبرى (11703) والترمذي (2542) والبيهقي في البعث والنشور (254) وتمام في الفوائد (1128)وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (76) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
[29] رواه أحمد (13335) قال المنذري والمباركفوري: أحمد بإسناد جيد. الترغيب والترهيب (5690) تحفة الأحوذي 7/212 وصحح إسناده العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4546).
[30] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 16/254.
[31] النهاية في غريب الحديث 5/186 تحفة الأحوذي 7/212.
[32] رواه أحمد (13603) وأبو يعلى (2529) والبزار(6471) وصححه ابن حبان (6471).
[33] رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (66) وأبو نعيم في الحلية 6/205 وفي صفة الجنة أيضا (337) قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا موقوفا ورواه غيره مرفوعا والموقوف أشبه بالصواب. الترغيب والترهيب (5666) قال الألباني: إسناد ابن أبي الدنيا صحيح. السلسلة الصحيحة (2513).
[34] رواه أبو الشيخ في العظمة (599) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (140) وحسن إسناد ابن أبي الدنيا المناويُّ في فيض القدير 5/85 وصح ذلك عن مسروق. رواه ابن أبي شيبة (35091) وابن أبي حاتم في التفسير (4678) (5504) وابن المبارك في الزهد (1490) وابن جرير (509) وأبو نعيم في صفة الجنة (336) والبيهقي في البعث والنشور (279).
[35] أما ما يُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في الكوثر: أنه نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ. فقد رواه الآجري في الشريعة (1077) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (141) قال الألباني: منكر جدا موقوف.اهـ. ضعيف الترغيب والترهيب (2199).
[36] النونية 1/326.
[37] قـال الحافـظ ابن حجر: بُطنان بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون ووسط بفتح المهملة والمراد به أعلاها أي أرفعها قدرا أو المراد أعـدلها.اهـ. الفتح 8/732.
[38] رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (26446) والنسائي في السنن الكبرى (11705) والبيهقي في البعث والنشور (116) وهناد في الزهد (139).
[39] رواه عبد الرزاق في التفسير (1330) وابن أبي شيبة (35167) وابن أبي حاتم في التفسير (10304) وابن جرير في تفسيره (16947) وابن المبارك في الزهد (1455).
[40] تفسير ابن كثير 3/382.
[41] الصواعق المرسلة 2/695.
[42] مجموع الفتاوى 4/463، تيسير العزيز الحميد 1/155.
[43] رواه البخاري (4557) ومسلم (7304).
[44] رواه البخاري (5244) ومسلم (5199).
[45] رواه مسلم (3009) أي أكمل علي تمام المائة – رضي الله عنه -.
[46] رواه مسلم (5240).
[47] رواه أحمد (13055) وأبو داود (3224) والبيهقي (6861) قال النووي: بأسانيد صحيحة. خلاصة الكلام (3681) كما صححه ابن حبان (3146) وقال المناوي عن إسناد أبي داود: جيد. قال ابن الأثير: كانوا يَعْقِرون الإبِلَ على قُبُور المَوتَى: أي ينْحَرُونَها ويقولون: إنَّ صاحبَ القَبْر كان يَعْقِر للأَضياف أيامَ حيَاته فنُكافئُه بمثل صَنِيعه بعد وفاتِه. وأصلُ العقر: ضَرْب قوائِم البعير أو الشاةِ بالسيفِ وهو قائمٌ. النهاية في غريب الحديث 3/529 وانظر: شرح السنة 5/461 وشرح سنن أبي داود للعيني 6/179فيض القدير 6/562.
[48] رواه أبو داود (3315) والبيهقي (20634) والطبراني في المعجم الكبير (1341) قال الحافظ ابن حجر: رواه أبو داود, والطبراني، وهو صحيح الإسناد. بلوغ المرام (1378).
[49] روى البخاري (4347) عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس , والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء… والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.اهـ. وانظر: تفسير ابن أبي حاتم 4/1220 تفسير الطبري 11/116 تحفة المودود /210 تفسير الجلالين /157 تفسير الألوسي 5/162.
[50] معارج القبول 2/539.
[51] سبل السلام 4/111 جاء في جريدة المصري اليوم العدد (928) في 28/ديسمبر/2006م ما نصه: في مثل هذا الوقت من كل عام، ومع اقتراب عيد الأضحي المبارك يستعد أكثر من مليون مواطن أغلبهم من الصعيد لزيارة محافظة البحر الأحمر تمهيداً للوقوف علي جبل «حميثرة»، حيث ضريح القطب الصوفي سيدي أبوالحسن الشاذلي، في اليوم نفسه الذي يوافق وقفة جبل عرفات.تبدأ مراسم الزيارة باستقلال سيارات نقل يفترش سطحها الرجال والنساء والأطفال ومعهم طعامهم، ويعلو كابينة القيادة مكبرات صوت تردد التواشيح والأغاني الدينية، في شكل مهرجان ديني كبير، وتدق الطبول حتي تهون مشقة الطريق إلي صحراء «عيزاب» في وادي «حميثراء» عن طريق إدفو والقصير وقنا، ليقف أولئك الذين لا تساعدهم ظروفهم المادية على حج بيت الله الحرام على جبل حميثرة، يتوجهون بقلوبهم إلي جبل عرفات ويقضون العيد في رحاب ساحة سيدي أبوالحسن الشاذلي، ويحرص مريدوه علي زيارته من مختلف البلدان العربية، خاصة المغرب وتونس والجزائر، وتنحر الذبائح وتقدم النذور يوم المولد وتصل إلي ١٢٠ ألف رأس من الخراف والماعز والإبل. أما مكان الذبح فيوجد في قرية الشيخ الشاذلي غرب مرسي علم بـ١٣٥ كيلو متراً، ويتم توزيع الأطعمة في أوقات الظهيرة، أو ليلاً في حلقات الذكر.اهـ. والله المستعان أنظر رابط الجريدة والخبر: http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx?ArticleID=42631
[52] التفسير /915، وانظر: تفسير الجلالين /824.
[53] الصارم المسلول 1/460.
[54] مجموع الفتاوى 16/528.
[55] وقد سرد جمع من العلماء رواة أحاديث الحوض وقد أوصلها بعضهم إلى ثمانين صحابيا. انظر: تهذيب سنن أبي داود 13/56 عمدة القاري 33/396 نظم المتناثر للكتاني /238.
[56] فتح الباري 11/467 وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/53 فيض القدير 3/528 أنكر المعتزلة والخوارج الحوض لحجج عقلية واهية أوردوها لا تُعارض بمثلها النصوص المتواترة والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُلق بالاً بكلام مَن عارض حُكمَه بحجج يظنها عقلية ومنطقية كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلى يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إنما هذا من إخوان الكهان ). من أجل سجعه الذى سجع. رواه مسلم (4485).
[57] رواه أحمد (6514) وابن المبارك في الزهد (1610) والحاكم 1/147 والبيهقي في البعث والنشور (145) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح فقد اتفق الشيخان على الاحتجاج بجميع رواته غير أبي سبرة الهذلي وهو تابعي كبير مبين ذكره في المسانيد والتواريخ غير مطعون فيه.
[58] رواه ابن المبارك في الزهد (1609) والحاكم (260) والبيهقي في البعث والنشور (148) واللفظ له وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي , وصحح إسناد البيهقي الحافظُ ابن حجر في فتح الباري 11/468.
[59] وجاء في أحاديث صحاح تحديده بمدن أخرى وهذا مما لا تعارض فيه فقد حدَّث النبي – صلى الله عليه وسلم – كل قوم بما يعرفون قال القرطبي – رحمه الله تعالى -: “ظن بعض الناس أن هذه التحديدات في أحاديث الحوض اضطراب واختلاف وليس كذلك، وإنما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطباً لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها، فيقول لأهل الشام ما بين أذرح وجرباً، ولأهل اليمن من صنعاء إلى عدن. وهكذا وتارة آخرى يقدر بالزمان فيقول: مسيرة شهر، والمعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب والزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، والله أعلم”.اهـ. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة /396 فتح الباري 11/471 فيض القدير 2/569 تحفة الأحوذي 7/117.
[60] مسلم (6129).
[61] قال السفاريني – رحمه الله تعالى -:” قال القرطبي: ذهب صاحب القوت إلى أن الحوض بعد الصراط.
قال: والصحيح أنه قبله، وكذا قال الغزالي: ذهب بعض السلف إلى أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله.
قال القرطبي: والمعنى يقتضي تقديم الحوض على الصراط فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشا فناسب تقديمه لحاجة الناس إليه، قال ابن عباس – رضي الله عنهما: « سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الوقوف بين يدي الله تعالى هل فيه ماء؟ قال: إي والذي نفسي بيده إن فيه لماء، وإن أولياء الله ليردون إلى حياض الأنبياء عليهم السلام»”. (قال جامعه: ذكره ابن كثير في تفسيره 3/243 من رواية ابن مردوية في تفسيره وقال: هذا حديث غريب)
ورجح القاضي عياض أن الحوض بعد الصراط، وأن الشرب منه يقع بعد الحساب، والنجاة من النار.
وقال ابن حمدان في عقيدته: يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة، وبعد جواز الصراط. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: ظاهر الأحاديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، فلو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر فيه، قال: وأما ما أورد عليه من أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن يروه ويذهب بهم إلى النار فجوابه أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون الجنة فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، وقال القرطبي في التذكرة: إن للنبي – صلى الله عليه وسلم – حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثرا، والكوثر في كلام العرب الخير الكثير.
قال الجلال السيوطي: وقد ورد التصريح في حديث صحيح عند الحاكم، وغيره بأن الحوض بعد الصراط، فإن قيل: إذا خلصوا من الموقف دخلوا الجنة، فلم يحتاجوا إلى الشرب منه، فالجواب: بل يحتاجون إلى ذلك لأنهم محبوسون هناك لأجل المظالم، فكان الشرب في موقف القصاص، ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم وتأخيره بعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب والأوزار حتى يهذبوا منها على الصراط، ولعل هذا أقوى. انتهى قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته: وهذا في غاية التحقيق جامع للقولين وهو دقيق”.اهـ. لوامع الأنوار البهية 2/195 وانظر: التذكرة للقرطبي 1/246 النهاية في الفتن والملاحم 1/140 ولعل الحديث الذي ذكره السيوطي المتضمن أن الحوض بعد الصراط هو ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال (أنا فاعل) قال قلت يا رسول الله فأين أطلبك؟ قال (اطلبني أول ما تطلبني على الصراط) قال قلت فإن لم ألقك على الصراط؟ قال (فاطلبني عند الميزان) قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال (فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن) رواه أحمد (12848) والترمذي (2433) والضياء في المختارة (2693) وأبوبكر الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (30) واللالكائي(1803) قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذ الوجه.وانظر كلام ابن كثير التالي.
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: الحوض المورود قبل الصراط الممدود وما أفهم عكس ذلك ضعيف أو مردود أو مؤول. إن قال قائل: فهل يكون الحوض قبل الجواز على الصراط أو بعده قلت: إن ظاهر ما تقدم من الأحاديث يقتضي كونه قبل الصراط، لأنه يذاد عنه أقوام يقال عنهم إنهم لم يزالوا يرتدون على أعقابهم منذ فارقتهم، فإن كان هؤلاء كفاراً فالكافر لا يجاوز الصراط، بل يكب على وجهه في النار قبل أن يجاوزه، وإن كانوا عصاة فهم من المسلمين فيبعد حجبهم عن الحوض لاسيما وعليهم سيما الوضوء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أعرفكم غراً محجلين من آثار الوضوء” (قال جامعه: رواه أحمد (21785) وصححه الحاكم (3784).
من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وهو حديث حسن بالمتابعات وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه). “ثم من جاوز لا يكون إلا ناجياً مسلماً فمثل هذا لا يحجب عن الحوض فالأشبه والله أعلم أن الحوض قبل الصراط، فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يشفع لي يوم القيامة قال: “أنا فاعل قال: فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط قلت: فإن لم ألقك؟ قال: فاطلبني عند المنبر، قال: فإن لم ألقك؟ قال: فأنا عند الحوض لا أخطىء هذه الثلاثة المواطن يوم القيامة”. ورواه الترمذي من حديث بدل بن المحبر وابن ماجه في تفسيره من حديث عبد الصمد كلاهما عن حرب بن ميمون بن أبي الخطاب الأنصاري البصري، من رجال مسلم، وقد وثقه علي بن المديني، وعمرو بن علي الغلاس وقوفاً بينه وبين حرب بن ميمون بن أبي عبد الرحمن العبدي البصري أيضاً صاحب الأدعية وضعفا هذا، وأما البخاري فجعلهما واحداً، وحكى عن سليمان بن حرب أنه قال: هذا أكذب الخلق وأنكر الدارقطني على البخاري ومسلم جعلهما هذين حديثاً واحداً وقال: شيخنا المزي جمعهما غير واحد، وفرَّق بينهما غير واحد، وهو الصحيح.
قلت: وقد حررت هذا في التكميل بما فيه كفاية، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والمقصود أن ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الحوض بعد الصراط، وكذلك الميزان أيضاً، وهذا لا أعلم به قائلاً، اللهم إلا أن يكون ذلك حوضاً ثانياً لا يذاد عنه أحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.اهـ. النهاية في الفتن 1/139.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “وقوله: “فَتَطلعون على حَوْضِ نَبيِّكُم”: ظاهر هذا أنَّ الحوض من وراء الجِسرِ، فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعوا الجسر، وللسَّلَف فى ذلك قولان حكاهما القرطبى فى “تذكرته”، والغزالى، وغلَّطا مَن قال: إنه بعد الجسر، وقد روى البخارى: عن أبى هريرة، أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “بَيْنا أنَا قَائِمٌ على الحَوْضِ إذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إذا عَرَفْتُهُم خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنى وبَيْنهِم، فقال لهم: هَلُمَّ، فقلتُ: إلى أين؟ فقال: إلى النَّارِ واللهِ، قلتُ: ما شأنهم؟ قال: إنَّهُم ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِم، فَلا أرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُم إلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَم”. قال: فهذا الحديث مع صحته أدلُّ دليل على أن الحَوْض يكون فى الموقف قبل الصِّراط، لأن الصِّراط إنما هو جسر ممدود على جهنم، فمن جازه سلم من النار.
قلتُ: وليس بين أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعارض ولا تناقض ولا اختلاف، وحديثُه كُلُّه يُصدِّقُ بعضه بعضاً، وأصحابُ هذا القول إن أرادوا أن الحَوْض لا يُرَى ولا يُوصَل إليه إلا بعد قطع الصِّراط، فحديث أبى هريرة هذا وغيره يردُّ قولَهم، وإن أرادوا أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراط وقطعوه بدا لهم الحَوْضُ فشربوا منه، فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا، وهو لا يُناقض كونَه قبل الصِّراط، فإن قوله: “طولُه شهر، وعرضُه شهر”، فإذا كان بهذا الطول والسعة، فما الذى يُحيل امتدادَه إلى وراء الجسر، فيرده المؤمنون قبل الصِّراط وبعدَه، فهذا فى حيز الإمكان، ووقوعه موقوفٌ على خبر الصادق والله أعلم.اهـ. زاد المعاد 3/682.
وممن قال الحوض قبل الصراط: شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – المستدرك على مجموع الفتاوى 1/104 والعلامة ابن باز – رحمه الله تعالى – معللا ذلك بقوله: إن صحت الأخبار أنهم يردون بعد الصراط فهذا نهر يردونه في الجنة؛ لأن الصراط ممدود على متن جهنم يصعد الناس عليه إلى الجنة، فمن جاوز الصراط وصل إلى الجنة، والحوض في الأرض فلا يرجعون إلى الأرض مرة ثانية بعد صعودهم إلى الجنة.اهـ.
وللشيخ د.سفر الحوالي حفظه الله وشفاه رأي فقد قال: “الحقيقة أن هذه المسألة ليس فيها نص قاطع، وهي تحتمل هذا وذاك، وهي من أمور الغيب التي لا يجوز الخوض ولا القول فيها بالظن، ولا بمجرد الاستنباط الذي يبدو لصاحبه رجحانه، ولو دقق فيه لتبين خلافه، ولهذا لو قيل في هذه المسألة: إن الأرجح فيها هو التوقف، وأن يُرَّد علم ذلك إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيُقال في ذلك: الله أعلم، فنسبة العلم إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسلم، فهذا الذي نميل إليه ونختاره، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم”اهـ. موقع الشيخ
[62] البخاري (6217) ومسلم (6106).
[63] شرح الطحاوية 2/51.
[64] رواه مسلم (6111).
[65] معناه اقتطعوا. شرح مسلم للنووي 15/64.
[66] رواه البخاري (6211) ومسلم (6136).
[67] الفَرق بين الفِرَق/353.
[68] فتح الباري 11/385 عمدة القاري 33/330 شرح السنة 15/124.
[69] شرح مسلم للنووي 3/136-137.
[70] رواه أحمد (23308) والبزار (2832) من حديث حذيفة رضي الله عنه ومن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه رواه النسائي (7830) والبيهقي (16445) وصححه الحاكم (8302) وابن حبان (4514) وللحديث طرق أخرى.
[71] رواه أحمد (19820) وأبو داود (4751) والبيهقي في الاعتقاد (184) والبعث والنشور (144) والخطيب في موضح الأوهام 2/327 والحديث صحيح بمتابعاته وشواهده.
[72] النونية لابن القيم /144.
المصدر:الألوكة