تاريخ من الانحراف في تفسير القرآن

السبت11 صفر 1435 الموافق 14 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي

الحمدُ لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وآله وأصحابه، ومَن تبعِهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.  

أما بعد:

فهذه لمحةٌ إجمالية عن وجوبِ وضرورة اتِّباع القرآن، والإيمان بمُحْكَمه ومتشابهه، وبيان بعضٍ مِن الصور التاريخية لانحرافِ كثير من الفِرَق عن الفَهْم الصحيح للقرآن وتفسيره، وكذلك انحرافهم عن منهجِ الاستدلال الصحيح لدَى أهْل النفسير والقُرآن؛ ممَّا أدَّى إلى انحِراف هؤلاء في العقيدة والعِبادة والفِكْر والعمل. 

أولاً: وجوب الإيمان بالقرآن مُحْكَمه ومتشابهه، والوقوف على التفسير الصحيح لمعانيه:

إنَّ القرآن كتابُ الله تعالى المنزَّل، وبيانه المُحْكَم، وصراطه المستقيم، عِصمة لِمَن اتَّبعه، وهداية لمَن آمن به وصدَّقه، وإنَّ من المسلَّمات الإيمانية، والمعالِم الشرعية، أنَّ القرآن مُحكمٌ ومتشابِه، ولكلِّ نوعٍ صُورُه وأمثلته، والواجب في ذلك على المسلِم الإيمانُ والتسليم به، وردُّ المتشابه منه إلى المحْكَم، كما نصَّ الله تعالى في كتابه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8 – 7].

 

 

ولا يُمكنِنا أن نتكلَّم هنا على هذه الآية الكريمة إلا بالوقوفِ على بعض أقوال المفسِّرين؛ ليتجلَّى لنا مرادُ الله تعالى من قولِه.

 

 

قال ابن كثير الدمشقي – رحمه الله – في تفسيره: “يُخبِر تعالى أنَّ في القرآن آياتٍ محكَمات هُنَّ أمُّ الكتاب؛ أي: بيِّنات واضحات الدلالة، لا الْتباسَ فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباهٌ في الدلالة على كثيرٍ من الناس أو بعضهم، فمن ردَّ ما اشتبه عليه إلى الواضِح منه، وحَكَّم محكَمه على متشابهه عندَه، فقد اهتدَى، ومَن عكس انعَكَس؛ ولهذا قال – تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ أي: أصْلُه”[1].

 

 

وقال السعديُّ – رحمه الله – في تفسيرها: “القرآنُ العظيم كلُّه مُحكَم؛ كما قال – تعالى -: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 3]، فهو مشتملٌ على غاية الإتقان والإحْكام والعدل والإحسان، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، وكلُّه متشابهٌ في الحُسْن والبلاغة، وتصديق بعضه لبعضه، ومطابقته لفظًا ومعنًى، وأمَّا الإحْكام والتشابه المذكور في هذه الآية، فإنَّ القرآن كما ذكَرَه الله ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾؛ أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شُبهة ولا إشكال ﴿ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ ﴾؛ أي: أصْله الذي يَرجع إليه كلُّ متشابه، وهي مُعظَمُه وأكثره، {وَ}منه آيات ﴿ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾؛ أي: يلتبس معناها على كثيرٍ من الأذهان؛ لكونِ دَلالتها مُجْملة، أو يتبادر إلى بعضِ الأفهام غيرُ المراد منها.

 

 

فالحاصِل: أنَّ منه آياتٍ بينةً واضِحة لكلِّ أحد، وهي الأكثرُ التي يرجع إليها، ومنه آيات تُشْكِل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يُردَّ المتشابه إلى المحْكَم، والخَفي إلى الجلِّي، فبهذه الطريق يُصدِّق بعضه بعضًا، ولا يحصل فيه مناقضَة ولا معارَضة”[2].

 

 

الحِكْمة مِنَ اشتمال القرآن على المحكَم والمتشابه:

ومِن هنا وجَبَ على المسلِم الإيمانُ بالكتاب المحكَم منه والمتشابِه، وألاَّ يضرب الآياتِ بعضَها ببعض، ولا يُؤِّلها تؤيلاً لا يستقيم معها، ولا يُعبِّر ويُدلِّل على مرادِ الله فيها، بل يردّ المتشابه مِن الآيات، وهو قليلٌ بالنسبة إلى المحكَم منها، وهو كثيرٌ في كِتاب الله تعالى، مع العِلْم بأنَّ الله تعالى لم يجعلْ هذا المتشابه في كتابه إلاَّ لحِكمة أرادها – سبحانه وتعالى.

 

 

قال ابن عثيمين – رحمه الله – في “أصول في التفسير”: “لو كان القرآنُ كلُّه محْكَمًا، لفاتتْ الحكمة من الاختبار به تصديقًا وعملاً؛ لظهور معناه، وعدمِ المجال لتحريفه، والتمسُّك بالمتشابه منه ابتغاءَ الفِتنة وابتغاء تأويله، ولو كان كلُّه متشابهًا لفاتَ كونُه بيانًا وهُدًى للناس، ولما أمْكَن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه”[3].

 

وقال أبو بكر الجزائري – حفظه الله -: “ومنه آياتٌ أُخَر متشابهات، وهي قليلةٌ، والحِكمة من إنْزالها كذلك الامتحان والاخْتِبار، كالامتحان بالحلال والحرام، وبأمورِ الغيْب؛ ليثبتَ على الهداية والإِيمان مَن شاء الله هدايتَه، ويزيغَ في إيمانه ويضلَّ عن سبيله مَن شاء الله تعالى ضلالَه وعدم هدايته؛ فقال – تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: ميل عن الحق ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ للخروج به عن طريق الحقِّ، وهدايةِ الخَلْق، كما فعل النصارى حيث ادَّعَوْا أنَّ الله ثالثُ ثلاثة؛ لأنَّه يقول: نخلق ونُحيي”[4].

 

 

كما أنَّ على المسلِم أن يعلمَ أنَّ مِن تعظيم النصوص الشرعية الإيمانَ بالمتشابه، والعملَ بالمحكَم، مما في كتاب الله تعالى ووحْيه المنزل؛ كما قال تعالى عن حالِ أهل الإيمان: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7].

 

 

أمَّا حال أهل الزَّيغ والضلال، فهُم على خلاف أهل الإيمان، فحالُهم كما قال – تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]، وجاء في الحديث: ((إنَّ القرآن لم ينزلْ يُكذِّب بعضُه بعضًا، بل يُصدِّق بعضُه بعضًا، فما عرفْتُم منه فاعملوا به، وما جَهِلتم منه فردُّوه إلى عالِمه))؛ وهو حديث عند الإمام أحمد، وصحَّحه العلاَّمة أحمد شاكر.

 

 

وقال الضحَّاك: نعمل بالمحكَم، ونُؤمن بالمتشابِه، ولا نعمل به، وكلٌّ من عند ربِّنا.

 

 

وهذا ما كان عليه الصحابةُ ومَن تبعهم، وأئمة الهدى الأربعة، وأئمَّة الحديث من أهل السُّنة جميعًا، وما خالَف في ذلك أحدٌ إلا مَن شذَّ من أهل البِدع والأهواء، والزَّيْغ والضلال، الذين قالوا بتعارُض الأدلَّة في القرآن والسُّنة، وتوهَّموا ذلك في نصوصٍ كثيرة، ولو ردُّوا المتشابه منها إلى المحكَم لَمَا صار هناك تعارضٌ ولا تأويل مخالِف، لكنَّه اتباع الأهواء، ومخالفة الطريق، والهُدَى والسُّنة، وهذه طرق أهل البِدع والضلال في كلِّ زمان ومكان، وما كتاب شيخ الإسلام في درْء ورد ما زعموا من تعارُض العقل مع النقل، إلا فِقهٌ بيِّن لحقيقة هذه الفِرق والمذاهب، وخطرها على عقيدةِ الإسلام وسائرِ شرائعه.

اقرأ أيضا  تفسيرسورة سبأ عدد آياتها 54 وهي مكية

 

 

إنَّ منهج الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين قام في حقيقةِ الأمر على تعظيمِ نصوص الوحيين القرآن والسُّنة، وكمال التسليم لهما، أمَّا المخالِفون لمنهجهم وطريقهم مِن أهل البِدع والأهواء، فقد زلَّتْ أقدامهم، وضلَّت عقولهم في ذلك، فحرَّفوا وغيَّروا، وبدَّلوا وأوَّلوا، ووقَعوا في الفتنة والزيغ والضلال، فضلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل، وإنَّ الحق والهُدى والنجاة في متابعةِ ما كان عليه أصحابُ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فإنَّهم كانوا على الهُدَى المستقيم.

 

 

ثانيًا: نشأة التفسير وأهميته:

ونظرًا لِمَا سلَف ذكْرُه من الإشارة إلى كوْن القرآن محكَمًا ومتشابهًا، وكذلك لحاجة الناس إلى معرفة معاني القرآن، والكشْف عن مرادِ الله تعالى فيها، فقد دعتِ الحاجة إلى قيام علم “التفسير” لكتاب الله تعالى.

 

 

و(التفسير) – كما بيَّنه أهل العلم – مِن (الفَسْر)، وهو الكشْف عن معاني القرآن الكريم، وبيان مرادِ الله فيها، وتبيين ذلك للناس.

 

 

وقد نشَأَ منذ عصْر الصحابة عِلمُ التفسير القرآني، فقد أصبح الناس يسألون بعضَ الصحابة عن معاني بعض الآيات، وبعضُ الصحابة كانوا على عِلْم كامِل بمعاني القرآن.

 

 

وكانوا يفسِّرون القرآن مع إقرائه، أو دون إقرائه، حتى رُوي أنَّ ابن عباس – رضي الله عنهما -: فسَّر مرَّةً سورة البقرة، وفي رواية سورة النور في الحج، تفسيرًا لو سمعتْه الروم والتُّرك والديلم لأسْلَموا[5].

 

وبذلك بدَأَ عِلم التفسير، ثم أخَذ ينمو نموًّا مطردًا ويتنوَّع، ولما ظهرتِ الفِرَق الإسلامية، أصبحتْ هذه الفِرق تحاول أن تفسِّر القرآن حسبَ آرائها، وأصبح التفسير في بعض الأحيان يتَّبع الرأي، ولا يتَّبع الرأي القرآني.

 

 

وهذا الذي حذَّر منه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين قال: ((مَن قال في القرآن بغيْر عِلم – وفي رواية: برأيه – فليتبوأ مقعدَه من النار))، فالتفسير بالهوى هو الضلال، وليس طبعًا التفسير الذي يقوم على فَهْم سليم للغة العربيَّة، وفهْم دقيق للسُّنة وأقوال الصحابة[6].

 

ثالثًا: صور تاريخيَّة من الانحراف في تفسير القرآن:

وإنَّ الناظِر إلى الواقع المعاصِر يرى مِن الناس مَن قد أخطؤوا الطريق إلى فَهْم معاني القرآن وألْفاظه، وانحرَفوا بعيدًا عن حقيقةِ الإيمان والتسليم بالمحكَم منه والمتشابه، ووقَعوا عمدًا أو خطأً منهم في صور مِن الانحراف أو التحريف، والتأويل الفاسِد للنصوص، الذي لا يدلُّ على حقيقةِ مراد الله تعالى من كلامه المنزل، كما أخبر تعالى بقوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، وهذا مسْلَكٌ انحرافي خطير، وله جذور تاريخيَّة طويلة ممتدة عبْرَ التاريخ الإسلامي.

 

 

1- الخوارج:

بعد بَعْثة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ظهَر الخوارج في عصْر الصحابة – رضي الله عنهم – حيث وقَعوا في صُورِ الانحراف والتأويل الفاسِد؛ لأنَّهم أساؤوا فهْمَ معاني القرآن، وحملوها على غيْر وجهها الصحيح، حتى إنَّهم خرَجوا على عليِّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – بعد وقْعة صِفِّين، وأنكروا عليه التحكيم، واحتجُّوا لذلك من القرآن بأنَّ مَن حَكَم بغير حُكْم الله تعالى فقد كَفَر، وهذا تأويلٌ فاسِد منهم للقرآن، وتحريفٌ واضح لمراد الله تعالى، فردَّ عليهم عبدُالله بن عبَّاس – رضي الله عنهما – وناظَرَهم بالحُجَّة الواضحة مِن كتاب الله تعالى.

 

 

2- الشيعة والروافض:

وكذلك فعلَتْ كثيرٌ من فِرَق الشِّيعة، وفي مقدِّمتهم الروافض الاثنا عشرية؛ حيثُ قالوا بأنَّ القرآن له ظاهرٌ وباطن: “أي: إنَّ للقرآن مراتبَ من المعاني المرادة بحسبِ مراتب أهله، ومقاماتهم، وأنَّ الظهر والبطن أمرانِ نسبيَّانِ، فكلُّ ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس”[7].

 

بل واتَّهموا القرآن نفسَه بأنَّه كتاب محرَّف، وليس هو كتابَ الله الصحيح، فقالوا: “إنَّ القرآن الذي جمعَه عليٌّ – عليه السلام – وتوارثه الأئمَّة من بعده، هو القرآن الصحيح، الذي لم يتطرَّق إليه تحريفٌ ولا تبديل، أمَّا ما عداه فمحرَّف ومبدَّل، حُذِف منه كلُّ ما ورد صريحًا في فضائل آل البيت، يروي الكافي عن الصادق: أنَّ القرآن الذي نزَل به جبريلُ على محمَّد سبعةَ عشرَ ألف آية، والتي بأيدينا منها سِتَّة آلاف ومائتان وثلاث وستُّون آية، والبواقي مخزونةٌ عند أهل البيت فيما جمعَه علي”[8].

 

ومن تأمَّل أصول “الكافي”، وجَد الكثيرَ من تحريفهم لآيات القرآن، حيث قالوا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 137]: إنَّ هذه الآية نزلَتْ في أبي بكر وعمر وعثمان، آمنوا بالنبيِّ أولاً، ثم كفَروا حيث عُرِضت عليهم ولايةُ علي، ثم آمنوا بالبَيْعة لعلي، ثم كفَروا بعدَ موت النبي، ثم ازدادوا كفرًا بأخْذ البيعة من كلِّ الأمَّة[9].

 

3- الفرق الصوفية:

وكذلك فرِق الصوفيَّة، أدخلت أذواقَها، وكشفَها الموهوم على نصوصِ القرآن وتفسيره، فوقعتْ في فوادح وقوادح مِن الأخطاء العقدية والشرعيَّة، واللُّغوية وغيرها؛ لأنَّهم لم يتأصَّلوا حقيقةً على فهْم معاني القرآن على الوجهِ الصحيح المنقول، ولا على طُرُق الاستدلال الصحيحة المعتبَرة بشروطها.

 

 

فالصوفية: وقعَت في تعظيم شيوخ طُرقِهم وأقطابهم، وقالوا: هم الأولياء فحسبُ، وهم الأقطاب والأبدال، حتى صرَفوا لهم في قبورهم العباداتِ الشرعيةَ التي لا تكون إلا لله تعالى وحْده لا شريكَ له، وكذلك وصْفهم بتدبيرِ الكون مع الله تعالى، وتصريف أمورِ الخلْق ونظرهم في المقادير، فيأخذون عن شيوخهم كلَّ ما صدَر عنهم حقًّا كان أو باطلاً، ولا يردُّون ذلك إلى الشريعة والنصوص من الكِتاب والسُّنة كما فعَل الشِّيعة تمامًا مع أئمَّتهم، بل ويأمر هؤلاء باتِّباع الطرق الصوفيَّة والاقتداء بشُيوخها وتقليدهم، فصاروا مقلِّدين لهم بلا هدايةٍ من الله ورسوله.

 

 

واعتمدوا كثيرًا على ما سمَّوْه الكشْف والإلْهام من الرُّؤى والأحلام، وأنَّ هذا الكشْف ممَّا اطَّلع عليه الأولياءُ بعِلمهم للغيْب، وأنَّها حق كأنَّها رؤيا الأنبياء والرُّسل، وجعلوها مصادمِةً للقرآن والسُّنة، مضاهية لها كالحُجَّة والبرهان، وما أجلَّ قولَ الشافعي – رحمه الله تعالى -: “كلُّ شيء خالَف أمر رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – سقَط، ولا يقوم معه رأيٌ ولا قياس، فإنَّ الله قطَع العذر بقول رسولِ الله، فليس لأحدٍ معه أمرٌ ولا نهي، غير ما أمَر به ونَهَى عنه”[10].

 

وممَّا أخطأ فيه القومُ تفسيرُهم لقول الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، فقالوا: إنَّ اليقين هنا هو “المعرفة”، فإذا حصلتِ المعرفة سقَطتِ العبادات والتكليف، وهذا من أشنعِ القول على الله وكتابه؛ لأنَّ اليقين هنا باتِّفاق أهل التفسير هو “الموت”، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وهذا خطأٌ بإجماع المسلمين – أهل التفسير وغيرهم – فإنَّ المسلمين متفِقون على وجوب العبادات كالصَّلوات الخمس ونحوها، ولو بلَغ ما بلَغ”[11].

اقرأ أيضا  تفسير سورة الفرقان عدد آياتها 77 وهي مكية عند الجمهور

 

4- المعتزلة والمدرسة العقلانية الحديثة:

وكذلك فعلتِ المعتزلةُ حيث قدَّموا كثيرًا عقولهم، وما آلتْ إليه أفهامُهم على نصوصِ القرآن، وكذلك السُّنة، وناقضوا بذلك كثيرًا من حقائقِ الوحيَيْن، وحاولوا إخضاعَ النصوص لأفهامهم، وألْقوا أصولَ الاستدلال الصحيح مِن القرآن والسُّنة والإجماع واللُّغة وغيرها خلف ظهورهم، وذَهبوا في تفسير الآيات مذهبًا بعيدًا إلى حدِّ التناقض العقلي، فضلاً عن التناقُض للشريعة ونصوصها الواضِحة البينة.

 

 

ودرَج على آثارهم أصحابُ المدرسة العقلية الحديثة؛ حيث إنَّهم توسَّعوا كثيرًا في تفسير القرآن الكريم على ضوْء العلم الحديث بكلِّ جوانبه، ولو أدَّى ذلك إلى استحداثِ أقوال مجانِبة لدَلالات الآيات اللُّغوية، ومعارَضة للمنقول عن السَّلف[12].

 

يقول أحدُ أقطاب هذه النَّزعة العقلية المعاصِرة حسن حنفي: “النصوصُ الشرعية ليستْ حُجَّة، والعقل أقوى في الاحتجاج منها، ويقول أيضًا: لا سُلطان إلاَّ للعقل، ولا سُلطةَ إلا لضرورة الواقِع الذي نعيش فيه”[13].

 

وقد أفرزتْ هذه المدرسةُ على هذا الأصْل عندهم انحرافاتٍ في فَهْم القرآن والسُّنة، حيث قالوا بأنَّ اليهود والنصارى ليسوا من أهل الكُفر، ودعَوْا إلى ما سمَّوْه بوَحْدة الأديان، وفسَّروا الآيات في ذلك بحسب مرادِهم وأهوائهم العقليَّة والذوقيَّة.

 

 

يقول روجيه غارودي: “لا يمكن أن نستبعدَ الأديان الأخرى باسم أيِّ دِين، بل على العكس يجب أن نبحثَ عن الذي يجمعنا مع الأديان الأُخرى” [14].

 

 

ولا شكَّ أنَّ هذا تحريفٌ لمعاني القرآن، أنَّ الدِّين الحق عند الله هو الإسلام، وأنَّ اليهود والنصارى وغيرهم مِن أهل الكفر والشِّرْك، والأخْطَر من ذلك في مسلكهم هذا ذوبانُ الشريعة الإسلامية وأحكامِها على مرِّ العصور، حيث إنَّنا لو تعاملْنا مع نصوص الكتاب والسُّنة – كما تقدَّم آنفًا – بهذا المنطلق المنعزِل عن فهْم الوحي وَفقَ المراد الربَّاني والنبوي الصحيح، لأدَّى ذلك إلى نُقصان الأحكام الشرعيَّة في شتَّى مجالات الحياة سياسيةً كانت أو اقتصاديةً، أو أخلاقيةً أو تعبدية، أو عقديَّة أيضًا، ولأدَّى إلى ذوبانها على مرِّ العصور والأزمان، فرأينا شريعةً وأحكامًا متناقضةً تمامًا مع الوحي المعصوم من الكتاب والسُّنة؛ لأنَّ هذه المدرسةَ وقفتْ من نصوص الوحيَيْن المعصومَيْن موقفًا متناقِضًا، حيث يقولون: إذا تعارَض العقل والنقل قُدِّم العقل على النقل، ولا ريبَ أنَّ هذا سخف من القول وضلال؛ إذ إنَّ موجب العقل يقتضي خلافَ ما ذهبوا إليه؛ لأنَّ الله تعالى ما أوْجد العقل ليتناقضَ مع وحيه المنزل، هذا مِن وجه.

 

 

أما الوجه الآخر: أنَّ نصوص الكِتاب والسُّنة لا يكون فيها اختلافٌ ولا تعارض في الأصْل؛ لأنَّ الله تعالى لا يجمع في شريعته ودِينه ما يخالف بعضُه بعضًا، وينقُض بعضُه بعضًا، إنَّما التعارُض في قصور الفَهْم الصحيح لمراد الله تعالى ومرادِ رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقد تكلَّم الفقهاءُ والأصوليُّون في هذه المسائل، وبيَّنوا طرقًا كثيرة في رَفْع توهُّم التعارض بيْن النصوص الشرعية.

 

 

وأما الوجه الثالث: أنَّهم ما حقَّقوا الإيمان والتسليم لمراد الله ومراد رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذ إنَّ العقل يقتضي أنَّ التسليم والإذْعان مِن كمال الإيمان بالوحيَيْن الصافيين القرآن والسُّنة، كما قال – تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: ﴿ فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ﴾ [النساء: 65]، وكلام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنَّ الدِّين لو كان بالعقل، لكان المسْحُ على الخفَّين من أسفل.

 

 

فهذه المدرسةُ العقلية لا تحمِل منهجًا عقديًّا صحيحًا واضحًا، تُقدِّمه لأتباعها والمخدوعين بها، ولا تُحسِن إلى اليوم إلا ضرْبًا من علوم المناطِقة والفلاسفة، الذين عارَضوا الشرائع بالآراء والفلسفات الكلاميَّة، وهم يظنُّون أنَّهم على بابٍ من العلم لا يُحسنه غيرُهم، فأنكروا الغيبيَّات كالملائكة، وعذاب القبر، ومعجزات النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – الحِسيَّة، ومنهم مَن وقَع في التأويل الباطل الذي ليس له من الشَّرْع دليلٌ ولا برهان.

 

 

وهذه المدرسةُ لها اليوم أتباعٌ كُثر هنا وهنالك، والمتأمِّل البصير، يُدرِك ذلك مِن سَقْط حديثهم، وحِبْر أقلامهم، ومنهجهم الذي رَسموه.

 

 

5- القرآنيون:

وتَبِع هؤلاء أيضًا هذه الفِرْقة التي سمَّت نفسها بالقرآنيِّين، الذين نفَوُا السُّنة النبوية، وألْقوها وراء ظُهورِهم نفيًا وإعْراضًا وسُخرية، وقالوا ما نفعل بالسُّنة وعندنا كتابُ الله فيه الحقُّ والنور، وفيه البَيان الشافي والكافي، ووَقَفوا عندَ ذلك؛ ليُوهِموا الجهَلة والرعاع أنَّهم متبعون للكتاب، ملازِمون للحق والصواب، ولكن هيهات هيهات!!

 

 

كيف يتَّبعون القرآن فحسبُ، وهم يقرؤون مِئات الآيات التي تُخبرهم وتأمرُهم بوجوبِ متابعة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وسُنَّته وحُكمه وشريعته، وحسبهم أن يقرؤوا قولَ الله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]، وقوله: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].

 

 

وهؤلاء الَّذين أطلُّوا علينا في هذا الزمان، أخْبر عنهم رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في قوله: ((لا ألفين أحدَكم متكئًا على أريكتِه، يأتيه الأمرُ ممَّا أمَرْتُ به، أو نهيتُ عنه، فيقول: لا أدْري، ما وجدْنا في كتاب الله اتبعناه))؛ أخرجه الترمذيُّ بسند صحيح.

 

 

وهذا ما وقَع فيه القوم، ولا نَدْري مِن أين سيأتي أمثالُ هؤلاء بأرْكان الوضوء كلِّها وسُننه وآدابه؟ ومِن أين سيأتون بعددِ ركعات الصلوات، وسجودها، وسُننها وآدابها، أو الزكاة والحج والصيام؟ من أين سيعلمون أنَّ الجَمْع في الزواج بيْن المرأة وعمَّتها أو خالتها مُحرَّم شرعًا، أو تحريم كلِّ ذي ناب من السِّباع، وكل ذي مِخْلَب من الطيور؟! أو.. أو.. إلى آخِره.

 

 

وما كلُّ هذه البلايا والطَّوام، وهذه الرَّزايا العِظام، إلا مِن جرَّاء نقْض أو نقْص هذه القاعِدة الجليلة، مِن كمال التعظيم والتسليم لنصوص الشرْع الحنيف مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله في قلوبهم، وكما أخْبر سبحانه في كتابه عن أمثال هؤلاء: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وهُنا يظهر لنا الفارِقُ الكبير بيْن هذه الفِرق والأهواء وبيْن الصحابة – رضي الله عنهم – في كمال تعظيمهم وتسليمهم للنصوص الشرعيَّة، وكمال الإيمان بجميع نصوصِ الكتاب والسُّنة دون ترْك شيءٍ منها، ولا حتَّى ترْك العمل بها.

اقرأ أيضا  تفسير آيات قرآنية عن قيام الليل

 

 

6- المدرسة التغريبيَّة الحديثة والتيار العلماني:

وكذلك فعلتِ المدرسة التغريبيَّة والعلمانيَّة المعاصِرة، حيث إنَّها انتشرتْ في بلاد الشَّرْق مع مطلع القرن التاسعَ عشرَ، ثم اتَّسعتْ بمذهبها ومنهجها المادي، بعيدًا عن الدِّين والأخلاق والقِيَم، حاولتْ هذه المدرسة الولوجَ في النُّصوص الشرعية، وعلى رأسِها القرآن والسُّنة، والتلاعُب بتأويلها وتحريفها؛ ليفرِّغوا الإسلامَ من محتواه وأدلَّته، فيسقط كورقةِ التُّوت بزعمهم.

 

 

وقد برَز كثيرٌ منهم بمنهجه ومذهبه في ذلك، حيثُ قال طه حسين في “الشعر الجاهلي”: “للتوراة أن تُحدِّثَنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يُحدِّثَنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذَيْن الاسمين لا يَكفي دليلاً على وجودِهما التاريخي، ونحن مضطرون إلى أنْ نرى في هذه القصَّة نوعًا من الحيلة في إثبات الصِّلة بيْن العرَب واليهود مِن جهة، وبيْن الإسلام واليهوديَّة مِن جهة، والقرآن والتوراة من جِهة أخرى”، “وإذًا ليس هناك ما يَمنع قريشًا أن تَقْبَل هذه الأسطورةَ التي تُفيد أنَّ الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم”[15].

 

فتأمَّل كيف يُكذِّب القرآن الصريح، بل ويُكذِّب تاريخ العرَب في أرْض الجزيرة، وها هو القرآن يردُّ هذا الهراء البَشَري؛ قال – تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 124- 127].

 

 

ويقول أحدُهم – في جرأة يُحسَد عليها – محمد أحمد خلف الله في “الفن القصصي في القرآن”: “القِصَّة في القرآن لا تلتزم الصِّدقَ التاريخي، وإنما تتَّجه في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا”، ويقول: “تصويرُ أخلاق الأُمم كبني إسرائيل ليس بالضرورة أن يكون واقعيًّا”، ويقول: “وقصَّة إبليس مِن نوع الخَلْق الفني الذي يتشبَّث فيه القرآن بالواقع”، إلى غير ذلك مِن أكاذيبه وكهانته، التي سوَّد بها رسالته، ممَّا أدَّى إلى إحالة الأمْر إلى الشيخ محمود شلتوت سنة 1947م، وإخراج تقرير يُفيد بتطاول صاحبِها على القرآن والذَّات الإلهيَّة والعقيدة الإسلاميَّة.

 

 

وهذه العلمانية حقيقةُ أمرِها أنها تهدف إلى غاياتٍ خبيثة ماكِرة، منها نزْع القَدَاسة والهَيْبة عن النصوص القرآنية، وهدْمها كمرجعية للمسلِمين، ثم إعمال مَكْرهم في نسْف كتُب التراث والسَّلف المتعلِّقة بالقرآن وتفسيره، وكوْنها متناقضةً فيما بينها، وأنَّها أقوالٌ بشرية لا قداسةَ لها ولا مكان.

 

 

يقول د. نصْر حامد أبو زيد: “إنَّ النص القرآني وإنْ كان نصًّا مقدَّسًا، إلا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا، فلذلك يجب أن يخضع لقواعِد النقْد الأدبي كغيرِه من النصوص الأدبيَّة”.

 

ويقول د. شحرور: “فماذا قدَّم السادة العلماءُ للناس؟ لقد تصدَّر العلماء المجالسَ والإذاعة والتليفزيون على أنَّهم علماءُ المسلمين، وجُلُّهم ناقِل، وليس بمجتهد؛ أي: إنَّهم قدَّموا لنا ماذا فهِم السلف من القرآن على أنَّه تفسيرٌ للقرآن”[16].

 

والأعجبُ في منهج هذه الفِئة المنحرِفة عنَ الإسلام والقرآن، أنَّهم يقولون بتطوُّر لُغة القرآن وألفاظه على مرِّ الزمان، حيث قالوا: إنَّ لفظ “مسلم، ومؤمن” في القرآن تطوَّر ليشملَ المسلمين واليهود والنصارى؛ نظرًا لتطوُّر المفاهيم الاجتماعيَّة، والوطنيَّة والسياسيَّة.

 

وكذلك: “مِلَّة إبراهيم” تطوَّرت إلى أن دخَل فيها وَحْدة الأديان المستحدَثة، وكذلك: “الحجاب الشرعي” يشمل كلَّ صور وألوان اللِّباس المتبرِّج العصري[17]!

 

والوقوفُ على حقيقةِ هذا المذهَب لا يُمكن بحال حصْره هنا، وإنَّما يرجع إليه في مصادرِه ومظانِّه، وكذلك كُتُب هذه المدرسة الخبيثة الجريئة على الدِّين والمبادئ والأخلاق.

 

الخلاصة والنتائج:

هذه صُور سريعة أشرتُ إليها على سبيلِ المثال والإجمال؛ تقريبًا لمنهج الفِرَق المنحرِفة في تفسير القُرآن، وما آلتْ إليه، في علاقتها العامَّة والخاصَّة مع تفسير الآيات القرآنية خاصَّة، والنصوص الشرعيَّة عامَّة، ويمكن أن نقِفَ مع خلاصة مِن هذه الصُّور المذكورة فيما يلي:

1- سُوء الفَهْم للنصِّ القرآني: سبب رئيس، وعامِل كبيرٌ في انحراف هذه الفِرَق والمذاهب قديمًا وحديثًا عن حقيقةِ التفسير، ومعاني القرآن الواضِحة المحكَمة.

2- الجهْل بأسباب النُّزول لكثيرٍ من الآيات: مما أدَّى إلى سوء الفَهْم والتطبيق معًا.

3- تقديم العقل بإطلاقٍ على النصِّ القرآني: مما أدَّى إلى تفسيراتٍ وفُهوم غير صحيحة، وغير مرادة، وكذلك تناقضات عقلية لا حَصْرَ لها.

4- التقليد الأعْمى للغرب: مما أدَّى إلى ازدِراء النص القرآني، والتنقيص منْه، واللهث وراءَ المادية الغربية، والعَبَث بتفسيراتِ النصوص وَفقَ ما يتوافق فيه الإسلامُ مع الغرْب، أو لا يتوافق.

5- عدم الْتزام الضوابطِ والأصول الصحيحة في تفسير كلامِ الله تعالى: وذلك بعدم معرِفة مناهج المفسِّرين، ومعرفة قواعِدِ وأصول التفسير وعلوم القرآن، مِن تفسير القرآن بالقرآن وبالسُّنة، وبأقوال الصحابة والتابعين، والإجْماع واللُّغة والقِياس الصحيح.

6- اتِّباع الأهواء: كما فعَل اليهودُ والنصارى والتعصُّب الأعْمى البغيض للرأي، وتعمُّد إضلال الآخَرين أو تضليلهم، مِن أخْطرِ العوامل التي تؤصِّل في النفوس تحريفَ النصوص للمصلحة، ولو عارضتِ النصوصَ معارضةً واضحة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر تفسير ابن كثير.

[2] انظر: تفسير السعدي.

[3] أصول التفسير؛ لابن عثيمين (47).

[4] أيسر التفاسير؛ للجزائري.

[5] تفسير ابن كثير (1/8).

[6] جند الله ثقافةً وأخلاقًا (75).

[7] منهج الاستنباط، فهد الوهبي.

[8] التفسير والمفسرون (2/28 ، 29).

[9] المصدر نفسه (30).

[10] الأم (193).

[11] منهج الاستنباط، فهد الوهبي (365).

[12] التجديد في الفِكر الإسلامي؛ لعدنان أسامة (366).

[13] ظاهرة اليسار الإسلامي، الميلي.

[14] مجلة البيان، عدد (267).

[15] الشعر الجاهلي (43).

[16] التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن.

[17] المصدر نفسه.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.