تعريف علم الأخلاق وصلاته بعلوم أخرى
الإثنين 13 صفر 1435 الموافق 16 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
تعريف علم الأخلاق وصلاته بعلوم أخرى
إن أول ما ينبغي البدء به في دراسة علم من العلوم هو التعريف به وبموضوعه، فإذا حاولنا تعريف علم الأخلاق، فإنه من المسلم به أن نقدم المعنى اللغوي لأن الخلق في اللغة هو: “السجية والطب والعادة“، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة لأن كلمة “خلق” وحدها تحتمل معنيين الخلق الحسن والخلق القبيح، ولذا فإننا ننتقل من تعريف الخلق لغويًا إلى تعريف علم الأخلاق وموضوع دراسته.
ويمكن تعريف علم الأخلاق من حيث البحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان[1].
ومن التعريفات لهذا العلم ما يتجه به نحو سلوك الإنسان بالنظر إلى مثل أعلى حتى يمكن وضع قواعد عامة للسلوك والأفعال تعين على “فعل الخير والابتعاد عن الشر“[2].
ويعتبر علم الأخلاق – أو الفلسفة الخلقية – عادة من العلوم المعيارية – أي لا تقتصر على دراسة ما هو كائن، أو الأوضاع الراهنة ولكن بما ينبغي أن تكون عليه ولذا فإن مهمته هي “وضع الشروط التي يجب توافرها في الإرادة الإنسانية وفي الأفعال الإنسانية لكي تصبح موضوعًا لأحكامنا الأخلاقية عليها“[3].
ومن هذا التعريف نرى أننا في حاجة إلى إيضاح كثير من الموضوعات في المجال الأخلاقي.
إن أول مسألة تواجهنا في دراسة الأخلاق هي معرفة الفرق بين الإرادة الخلقية والإرادة الطبيعية، فإن أفعال الإنسان وسلوكه منها ما هو صادر عن دوافع طبيعية غريزية بحتة شأنه فيها شأن الحيوان، ومنها ما يخضع للقوانين والمبادئ والقواعد “إن الحياة الإنسانية الصحيحة لا تبدأ إلا من حيث تنتهي الحياة الحيوانية الصرفة“[4].
كما يواجهنا أيضًا النظر في القيم أو المبادئ الخلقية أو المثل العليا.
أي على وجه الإجمال، نحن في دراستنا للأخلاق نقف وجهًا لوجه أمام الإنسان الذي يخوض تجربة الحياة الابتدائية بكل ما فيها من خير وشر، ونحاول أن نتعرف على مدى قدرته على اجتياز هذا الطريق أو ذاك.
وهنا نجد قدرًا كبيرًا من الاتفاق على أن المبادئ الخلقية والمثل العليا قد حازت في تاريخ الإنسانية الطويل على قدر ثابت من التأييد. فقد غرس الله تعالى فينا بصائر أخلاقية فطرية، إذ مهما بلغت درجة الانحراف والفساد اللذين قد نسقط فيهما وفيما عدا حالات استثنائية خاصة بضلال الضمير، فإننا نعترف ونحب ونقدر الفضيلة في ذاتها وفي غيرها حتى إن أعوزتنا الشجاعة للارتفاع إلى مستواها[5].
والذي ظهر من دراسة علماء النفس في بحوثهم في سيكولوجية الشعوب أن الأحكام التقديرية التي يطالب بها الدين. كما ظهرت في العرف والتقاليد الاجتماعية[6].
كذلك كشفت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن تاريخ الحضارة البشرية مليء بالشرائع الأخلاقية وأنها تتقارب تقاربًا شديدًا[7]، وحتى إذا افترضنا وجود اختلافات بينها فإنه ليس هناك ما يمنع ظهور أخلاقية مطلقة[8]، وهذا يعني أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري، وأن للقيم وجودها الذاتي حيث تفرض نفسها على الوجدان البشري بطريقة أولية حدسية “أما عجز بعض الأشخاص عن إدراك القيم أو التمييز بينها إنما هو “العمى الخلقي” الذي قد يرجع إلى انعدام النضج أو نقص التربية لديهم“[9].
وإذا عدنا إلى استعراض التعريف الذي بدأنا به كلامنا، فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بيان الآتي:
1- صفة علم الأخلاق كعلم معياري وليس علمًا وضعيًا.
2- التعريف بالقيم أو المبادئ الأخلاقية.
3- الإلزام الخلقي.
(1) علم الأخلاق علم معياري:
اتضح لنا من التعريفات الآنفة لعلم الأخلاق أن النظرة التقليدية له تعده علمًا معياريًا أي يدرس ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني فيضع بذلك قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها أو المبادئ العليا لها، وكان هذا هو الاتجاه التقليدي “المعتمد بين جمهرة الأخلاقيين فهم هذا العلم وتحديد منهجه. ولكن مدرسة من علماء الاجتماع في فرنسا قد اتجهت بالأخلاق في نهاية القرن الغابر ومطلع القرن الراهن اتجاهًا اجتماعيًا صورت فيه علم الأخلاق فرعًا من علم الاجتماع موضوعًا ومنهجًا[10].
وقد ذهب أتباع هذه المدرسة إلى اعتبار علم الأخلاق علمًا وضعيًا فهدموا بذلك التصور التقليدي له[11].
لقد فصل ليفي بريل وأستاذه دروكايم علم الاجتماع عن الفلسفة، وأطلقا عليه اسم “علم العادات” إشارة إلى أن الأخلاق هي دراسة موضوعية تجريبية لقوانين العادات الخلقية عند الإنسان.
ولكن علم الأخلاق – حتى كعلم عادات – لا يمكن أن يتجرد عن المبادئ والقيم المعنوية التي لا تخضع للتجربة.
إن الطردتى التجربيية لم تحل لنا إطلاقًا هذه المبادئ التي هي في جوهرها معنوية، فإن التجربة لم تخبرنا عن حقيقة الخير أوالشر أو السعادة أو الكرم أو الشجاعة.. إلخ.
ومن الثابت تاريخيًا أن من المحاولات التي عرضت المبادئ الخلقية للاهتزاز كانت بواسطة السوفسطائيين القدماء في بلاد اليونان حيث إنهم في نظريتهم في المعرفة قد اتخذوا من الفرد مقياسًا للأشياء فأصبحت الحقائق وليدة الإحساسات والانطباعات الذاتية الفردية فشككوا في وجود الحقيقة الموضوعية الثابتة. كما امتدت نظريتهم الابستمولوجية أي في المعرفة إلى مجال الأخلاق “فكان الفرد مقياس الخير والشر“[12].
ووقف في وجههم سقراط بشدة رافضًا قبول نظريتهم في المعرفة والنتائج الأخلاقية لمذهبهم، ورد الحقائق إلى العقل، وأقر بوجود قيم موضوعية مطلقة “لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا تتغير بتغير الظروف والأحوال“[13].
وتتفق النظرية السقراطية مع ما ذهب إليه الفلاسفة التقليديون حيث وضعوا الأخلاق ضمن علومهم المعيارية كما أوضحنا – فأصبح موضوع الأخلاق عندهم هو قيمة الخير[14]، وبهذا التوضيح يظهر الفرق الأساسي بين النظرية الفلسفية التقليدية للأخلاق وبين النظرية الوضعية أو الوصفية أو التقريرية – التي تبناها بعض علماء الاجتماع – حيث أصبحت الأخلاق عندهم هي مجرد “القواعد السلوكية التي تسلم بها فيعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ“[15]. فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام التي عرفناها عند مثل سقراط.
وربما نشأت المشكلة في ميدان البحث الأخلاقي أن الأخلاق ترفض دافع البحث عن اللذة لذاتها كسلوك أخلاقي، لأن الشعور الخلقي يظهر أن ابتغاء اللذة لابد أن يفضي إلى حالة أليمة من التشتت الروحي والضياع النفسي، أي أن مسايرة الطبيعة من حيث نشدان اللذة وتجنب الألم لا تحقق لدى الإنسان مكارم الأخلاق التي يستمدها من معرفته للقيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا.
وفي نظرة إفيلية عامة لآراء فلاسفة الأخلاق رأينا سقراط قد خلع على الأخلاق طابعًا عقليًا لأنه عد الفضيلة علم والرذيلة جهل، وكذلك اتجه كانط في العصر الحديث إلى اعتبار الأوامر المطلقة في الأخلاق بمنزلة البديهيات في الرياضة إلي الطبيعة.
ومن واقع هذه النظريات وغيرها التي تضع الأخلاق في صورة مبادئ وقوانين أخلاقية بصورة معيارية تعمل على تحديد القواعد كالحال في المنطق، فإن الأخلاق في هذه الحالة تصبح تشريعًا وتضطلع بمهمة التكليف والإلزام لا بمهمة العلم أو المعرفة[16].
(2) التعريف بالقيم:
وفي تحريفنا للمبادئ نستطع أن نقول أنا سواء كانت خاصة بالعلوم أم بالأخلاق فهي القضايا الأولية “التي تعد نقطة بدء ضرورية لكل بحث كمبادئ علم الهندسة، وكمبدأ الحتمية العام في علم الطبيعة، وكمبدأ الواجب المطلق في الأخلاق[17].
وكان من الشعارات التي تمسك بها كثير من فلاسفة الأخلاق في القرون الوسطى بأوروبا هو أنه من الضروري ألا توضع المبادئ موضع الشك أو المناقشة.
وكان القديس أوغسطين مثلًا يذهب إلى أن هذه المبادئ حقائق أبدية ترتبط بالوجود الإلهي[18].
ولكن في العصر الحديث أصاب المبادئ الأخلاقية ما أصاب باقي المبادئ للعلوم الأخرى، وأصبحت المكانة التي تتمتع بها هدفًا للهجوم، وذلك نتيجة للملاحظات “التي تقررها فلسفة العلوم بما يتعلق بالتحولات الحديثة في العلوم الرياضية والطبيعية وفي العلوم الأخلاقية والسياسية أيضًا“[19].
ومن الخطورة بمكان إنزال القيم أو المبادئ الأخلاقية من محط نصها واستهدافها لتأثير النظريات النسبية التي سادت في القرن التاسع عشر، حيث امتدت فكرة الحقائق النسبية إلى ميدان الأخلاق وغلت في القول ونسبيتها، وسوت بين العادات الأخلاقية المتغيرة في كل قطر وفي كل أمة وفي كل عصر، وبين القاعدة الأخلاقية الثابتة[20].
نخلص من كل ذلك إلى أن كلمة القيم أو المبادئ تشير إلى معاني الضرورة والكلية والثبات والإطلاق، ولهذا فإننا نحذر من النظر إلى المبادئ الأخلاقية بمفهوم العصر الحاضر في الغرب المتسم بطابع النسبية والمرونة، لأننا إذا أخضعنا القيم الأخلاقية إلى قوانين التغير والنسبية فلن نلبث أن نصيب الحقيقة في الصميم (وبالتالي فإنه لن يلبث أن يؤدي إلى بلبلة الرأي العام الأخلاقي)[21].
ولتفادي الوقوع في هذا المأزق، ينبغي تحرير الفعل الأخلاقي من التقيد بالزمان أو المكان، لأن لا يكون أخلاقًا على الحقيقة إلا إذا تخلص من الرغبة أو الهوى، وانفصل عن الرغبة في تحقيق منفعة أو رغبة[22] أي التزم بقانون يخالفه منافعه ورغباته.
(3) الإلزام الأخلاقي:
والإلزام في القانون الأخلاقي ينبع من ذاته، أو بعبارة أخرى فإن الأساس في الالتزام صادر عن الإنسان نفسه بمحض إرادته.
يقول كاريل “يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية حتى يستطيع أن يحتفظ بتوازنه العقلي والعضوي. إن أي دولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق“[23].
ولكن الإلزام الأخلاقي يختلفن عن الحتمية في القانون الوضعي، فهذا الإلزام ينطوي على المسئولية الأخلاقية لأن الأفعال تصدر عنه ككائنات أخلاقية تملك الحرية وهي وثيقة الصلة بالأخلاق[24]. وينبغي أن يدرك كل فرد ضرورة فعل الخير وتجنب فعل الشر وأن يرغم نفسه على اتباع هذا المنهاج ببذل جهد إرادي، فالإلزام هو المحور الذي تدور حوله المشكلة الأخلاقية؛ لأن زوال فكرة الإلزام تقضي على الحكمة العقلية والعملية التي ينبغي تحقيقها، فإذا انعدم الإلزام انعدمت المسئولية وضاع الأمل في إقامة العدل وعمت الفوضى وساد الاضطراب[25].
وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام علاقات واضحة محددة تتناول المبادئ الأخلاقية في إطلاقها وثباتها وعموميتها كهدف أسمى يسعى الإنسان لتحقيقه. ودعائم الإلزام التي تشكل عنصر الضرورة للفعل الأخلاقي، مع توافر حرية الإرادة لتأكيد المسئولية حتى يصبح للثواب والعقاب معنى.
ولكننا سرعان ما نصطدم بالمشكلة الأخلاقية، وهي مزدوجة تتمثل في معرفة الخير ثم في طريقة فعله[26]، وتتضح أبعاد هذه المشكلة في الإلحاح المستمر الذي يواجه الإنسان في نشاطه الدائم للاختيار بين هذا الفعل أو ذاك، واضطراره لأن يفرض على نفسه قاعدة معينة للسلوك فيختار الأحسن من بين أوجه التصرف العديدة وأن يتخلص من أنانيته وحقده[27].
وما دمنا نعتبر الإنسان هو محور دراستنا، فإنه مما لا شك فيه “أن النظر في سلوك الإنسان ينتقل بنا إلى مشاكل جديدة تدخل في نطاق دراستنا من حيث التزامه الخلقي ومسئوليته عن أفعاله التي ترتكز على ركنين أساسيين هما: العقل وحرية الاختيار[28].
[1] مقدمة كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو: بارتلي ص 8. ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب 1342هـ- 1942م.
[2] مقدمة في الفلسفة العامة: د. يحيى هويدي.
[3] مدخل لدراسة الفلسفة ص 89- 91، تأليف ليون جوتييه ترجمة محمد يوسف موسى سنة 1364هـ- 1945م دار الكتب الأهلية.
[4] المشكلة الخلقية: زكريا إبراهيم. ص 33 مكتبة مصر الفجالة سنة 1969م.
[5] مدخل إلى دراسة القرآن الكريم. د. دراز ص89 ترجمة محمد عبد العظيم علي- مراجعة د. السيد بدوي دار القرآن الكريم- دار القلم بالكويت 1391هـ- 1971م.
[6] مدخل لدراسة الفلسفة: جوتييه ص91.
[7] المشكلة الخلقية: زكريا إبراهيم. ص 62.
[8] نفسه ص 63.
[9] المشكلة الخلقية، زكريا إبراهيم، ص 76.
[10] المجمل في تاريخ علم الأخلاق: سدجويك ج1 ص 10.
[11] نفسه ص 11/12.
[12] الفلسفة الخلقية: د. توفيق الطويل ص 11.
[13] نفس المصدر ونفس الصفحة.
[14] مشكلة الفلسفة: د. زكريا إبراهيم ص 502.
[15] نفسه ص 204.
[16] مشكلة الفلسفة، د. إبراهيم زكريا، ص 209.
[17] اتجاهات الفلسفة المعاصرة: برييه ص 89.
[18] اتجاهات الفلسفة المعاصرة: برييه ص 89.
[19] اتجاهات الفلسفة المعاصرة، برييه، ص 90.
[20] اتجاهات الفلسفة المعاصرة، برييه، ص 94.
[21] المشكلة الخلقية: زكريا إبراهيم ص 60.
[22] مقدمة أسس ميتافيزيا الأخلاق: د. الشنيطي ص 3.
[23] الإنسان ذلك المجهول: ألكسيس كاريل ص 152: 453.
[24] الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع ص 67، دار المعارف.
[25] الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. سيد بدوي: ص 67 دار المعارف بالإسكندرية 1967م.
[26] الفلسفة الخلقية: توفيق الطويل ص 31.
[27] الإنسان ذلك المجهول ص 151.
[28] فلسفة الأخلاق الصوفية عند ابن عربي: زكريا إبراهيم ص 179.
المصدر:الألوكة