الصدق والكذب في القرآن
الخميس 16 صفر 1435 الموافق 19 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
د. بليل عبدالكريم
مِن الإشكاليَّة المعرفيَّة تحييدُ ماهية ما يوسم بالصِّدق وما يُراد به الكذِب، وتقعيد الفاصِل بيْن الخَطأ والكذِب، ورجوعًا للكتاب المبين، نتلمَّس دقائق البيان في تمييز صُور الكذِب ومراتبه، وإعجاز البَلاغ في تجليةِ الفارق بيْن الصحيح والصادِق، والخطأ والكذِب، وهنا نحاول وضْع خريطةٍ مفاهيميَّة للمرادفات، ثم نتتبَّع دَلالتها الاستعماليَّة القرآنية؛ كيما تتَّضح بأصدقِ البيان.
مفهوم الصِّدق: الصاد والدال والقاف، أصلٌ يدلُّ على قوَّة في الشيء قولاً وغيره.
من ذلك الصِّدْقُ: خلاف الكذِب؛ سمِّي لقوَّته في نفْسه؛ ولأنَّ الكذِب لا قوَّة له، وأصْل هذا مِن قولهم شيء صَدْقٌ؛والصَّداق: صَداق المرأة؛ سُمِّي بذلك لقوَّته وأنه حقٌّ يَلْزَم[1]. أي: صُلْب.
ويُسمَّى كذلك الصّدق: الشِّدَّة[2]، والصَّداقةوالمُصادَقَةُ: المخالَّة، والرَّجُلصَدِيق، والأنثى صَدِيقَة، والجمْع أصدقاء، والصِّدِّيق الدائم التصديق[3].
يقال: تمرُّ صَادِق الحلاوة: شديدها، وهو صادِق الحُكم: مخلصٌ فيه بلا هوى.
والصَّدْقُ: الكامل من كلِّ شيء، ورُمْحٌ صَدْقٌ: مُسْتَوٍ صُلبٌ، ورجل صَدْقاللقاء: ثبْتٌ فيه.
والصِّدْقُ: مطابقة الكلام للواقِع بحسب اعتقاد المتكلِّم[4]، ومِصْدَاقالقول: حقيقتُه[5].
ورَد الصِّدق في القرآن الكريم بمشتقَّاته في (127) موضعًا، في كتب الوجوه والنظائر دُرِس لفظ “الصادقين“، ولم نجد “صدق“، لكن بتتبُّع مواضع اللفظ، تجمَّع لنا معانٍ من مشتقات وردتْ في القرآن الكريم، وهي:
1- الصِّدْق: في قوله – تعالى -: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ﴾ [الزمر: 32]، فلمَّا ذكر الكاذب والمكذب مع جنايتِه وعقوبته، ذكَر الصادق والمصدِّق مع ثوابه[6].
فهنا الصِّدق ذُكر مقابلاً للكذب، وكان اللفظ بصيغة المصدر، وهو كتاب الله تعالى الذي جاءَ به الرسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فهنا وصف الوحي وشرع الله كله بالصِّدْق[7].
وورد بصيغ: (صِدْقًا، صِدْقُهم، صِدْق).
2- صدَّق: وهذا بصيغة الفِعل ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]، وهنا مِثل ما سبقَها خلاف الكذِب، والتصديق يكون بالاتِّباع، فلا يُسمَّى المصدِّق مصدِّقًا بمجرَّد اعترافه بصحة الادِّعاء، ولكن باتباعه للدعوة، بدليل قوله تعالى عن إبراهيم – عليه السلام -: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 103 – 105]، فجعله مصدِّقًا بمجرَّد العزم وإنْ لم يذبْحه[8]؛ فإبراهيم – عليه السلام – لما رأى الرُّؤيا لم يُكَذِّبها، بل صدَّقها لكن لم يُوصَفْ بالصِّدق، حتى عزَم على تطبيقها.
وورد بصيغة: مُصَدِّق، صَدَّقْت، المُصَدِّقين، تَصْدِيق، صَدَق.
3- صَادِق: بصيغة فاعل: ﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، فالصِّدق هنا كان في الدعوَى، لكن الله تعالى طلب إثباتَه بالفِعل، والمتَّقون قاموا بما أُمروا وانتهوا عمَّا حُرِّم عليهم فوُصِفوا بالصدق، فكان الالتزام بالشريعة علامةً على الصدق.
ورد في صِيغ: صادق، صَادِقُون، صَادِقين، الصَّادِقات.
4- أصدق، صَدَق: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ [النساء: 122]، فالصِّدق هنا وصْف للقول، وهو بمعنى الوفاء بالوعْد في الآية الأولى، وجاء اللفظ بصيغ: أَصْدَق، صَدَق.
5- الصِّدِّيق: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]، فالصدِّيق هو الكثيرُ التصديق والقويُّ في إيمانه، أو الكثير الصِّدق، وكلاهما يجتمعان في الخليل – عليه السلام –[9] غير أنَّ الصِّدِّيق أعلى درجةً من الصادق، يلاحظ في قوله تعالى عن إسماعيل: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54]، وصفه بالصِّدق مع كون جميعِ الأنبياء كذلك، لكن خصَّه بالذِّكْر؛ لاشتهاره به وصِدقه مع أبيه في تحمُّل الذبح[10]، فإبراهيم – عليه السلام – جمَع الله له بين الصِّدِّيقيَّة والنبوَّة.
والصِّديق: الصادِق في أقواله وأفعاله وأحواله، المُصدِّق بكلِّ ما أُمِر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلمَ العظيم الواصل إلى القلْب الموجب لليقين[11]، وجمع لإسماعيل بيْن الرِّسالة والنبوَّة، فالأولى تَقْتضي التبليغ، والثانية تقتضي إيحاءَ الله له، وإبراهيم – عليه السلام – أعْلى مقامًا من ابْنه إسماعيل؛ فهو مِن أُولي العزْم، فكانتْ صِفاته أرفعَ مِن صفات ابنه، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253].
ورد اللفظ بصيغ: الصِّدِّيق، صِدِّيقة، الصِّدِّيقون، صِدِّيقًا، الصِّدِّيقين.
6- الصَّدِيق: ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ [النور: 61]، فالصديق أُذِن له هنا في الأكْل مِن دون إذن؛ لأنَّ العادة جرَتْ معه بالمسامحة في الأكْل من بيت صَديقه، والمصادقة من المحبَّة والخلَّة التي تُذْهِب الكلفةَ، وتُضفي التسامُح بين الأصدقاء، وورد اللفظ: صديق، صديقكم، صديقًا.
7- الصَّدَقات: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، والصَّدقة ما أُعطي في ذات الله للفقراء.
ورَد اللفظ بالصِّيغ: الصَّدَقات، صدقاتكم، صدقاتهن، الصَّدقة.
8- الصَّدَاق: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]، والصَّداق: هو مهْر المرأة.
مِن ذلك نلاحظ أنَّ الصِّدق والكذِب أصلهما في القول، ماضيًا كان أو مستقبلاً، وعْدًا كان أو غيْره.
ولا يكونان بالقصْد الأوَّل إلاَّ في القول، ولا يكونان في القول إلاَّ في الخبر دون غيرِه مِن أصناف الكلام؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾ [مريم: 54].
وقدْ يكونانِ بالعَرْض في غيره مِن الكلام كالاستفهام والأمرِ والدُّعاء.
فالصدق مطابقةُ القول للضمير والمُخْبَر عنه معًا، ومتَى انخرَم شرْط مِن ذلك لم يكن صِدْقًا تامًّا، فإمَّا أن يُوصَف بالصِّدق أو بالكذِب، أو لا يُوصَف بأحكامها لعدمِ كمال المطابقة[12]؛ أي: مطابقة القول والخبر، فالإنشاء لا يُوصَف بالصِّدق ولا بالكذِب، والخبر وحْده هو الذي يُسمح فيه بالوصفَين أن يُقال: “مطابقة الحُكم للواقِع“[13].
كما عرَّف البعض الصدق بأنَّه إخبارٌ عن المخبَر به على ما هو به مع العِلم بأنَّه كذلك، وفي قوله تعالى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [المجادلة: 14]، هذا التقييد دليلٌ على أنَّ الكذب يعمُّ ما يعلم المُخْبِر عدم مطابقته وما لا يعلم، ولا واسطة بينهما، وهو كلُّ خبَر لا يكون عن بصيرة المخبر عنه، فيكون افتراءً، والافتراء أخصُّ مِن الكذب.
فالصِّدق في القرآن كان وصفًا للقول والكلام، وهو مخالِف للكذب، لكن في القرآن وصف الفعل كذلك بالصِّدق، حيث جعل دليلاً عليه، فالصِّدق في الوعْد هو مطابقة الكلام للفِعل، والتصديق ورد في القرآن بالاتِّباع العملي؛ لذا لم يوصفْ إبراهيم – عليه السلام – بتصديق الرُّؤيا أوَّل ما أقرَّ أنها حق، بل حتى عزَم على الفعل، ما وصف المنقول صدقًا في قوله – تعالى -: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33]، فهنا الفاعِل هو محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر – رضي الله عنه – وقيل: المؤمنون كافَّة.
فوصف الوحي بأنَّه “صِدق” مِن قرآن وسُنَّة؛ أي: إنَّ الأوامر والنواهي وصفتْ بالصِّدق؛ لأنَّها على استقامة وصلابَة منهج، والتصديق بأوامرِ الله يكون باتِّباعها.
ورد لفظ الصديق في القرآن الكريم على أنَّه مِن علامات المحبَّة التي تُذْهِبُ التكلُّف، بجواز دخول البَيت والأكْل معهم أو دونهم[14].
فصلابةُ العلاقة واستقامتها تُبيح للطرَفين ما لا تُبيح لغيرهما مِن العلاقات؛ لأنَّ الصِّدق في المحبَّة والأقوال والأفْعال يرفع الحواجِز بيْن الطرفين ويَتنازل كلٌّ منهما عن بعضِ حقوقه للآخَر.
أمَّا الصدقات، فهنا انتقل الوصف إلى المادي؛ حيث كان كلُّ مال قُدِّم لوجه الله تعالى بنيَّة صادقة ومخلِصةٍ – صدَقةً، فانتقل المعنى المعنوي للنيَّة إلى المال، وهو مِن علامات الاستقامة مع الله تعالى والقُرْب منه.
ثم نُقِل المعنى إلى العَلاقة الماليَّة للزواج بيْن الرجُل والمرأة، فسُمِّي المال المقدَّم للزوجة – وهو المهر – بالصَّداق، حيث أخذ معنَى الصلابة؛ لينتقل إلى الميثاق بيْن الزوجين والاستقامة في القصْد مِن الرجل نحو المرأة، فكان صِدق الفِعل بإعطاء الحقِّ المشروع للمرأة.
نخلُص إلى بعض النقاط الجامِعة لما سلَف:
1- الصدق هو الكامل مِن كلِّ شيء؛ لذا كان مِن أوصاف ما نزَل على الأنبياء أنَّه صدق لكماله.
2- التصديق في القرآن الكريم لا يكون بإقرارِ صحَّة القول فقط، لكن بالالتزام به.
3- الصِّدق في القرآن الكريم في القول هو الإخبار عن مُخْبَر كما هو في الواقع، مع العِلم بأنَّه كذلك، ومطابقة الضمير له، فزاد شرْط العلم.
4- الصِّدق في القول بمجانبة الكذب، وفي الفِعل بإتيانه وعدم الانصراف عنه قبلَ إتمامه، وفي النيَّة العزم والثَّبات حتى بلوغ الفِعل، والصِّدق في الذاكرة قوَّتها على الحِفظ.
5- الصديق مَن صدق النيَّة في المحبَّة والمعاملة.
6- الصَّدقة كل مال صدق التوجه به إلى الله تعالى.
مفهوم الكذب: الكاف والذال والباء، أصلٌ صحيح يدلُّ على خلاف الصدق، وتلخيصه أنَّه لا يبلغ نهاية الكلام في الصِّدق.
وكَذَّبه نسَبه إلى الكَذِب، وكَذَب عليك الأمر: وجَب عليك[15].
وله مشتقَّات عدَّة منها: كِذْبة، وكَذْبَة، كِذَاب، كِذَّاب، ويقال: كاذِب وكَذَّاب وتِكِذَّاب، ومَكْذَبانَةٌ وكُذُبْذُبان، والأُكْذُوبة والكُذْبى والمكْذُوب والمكْذَبَة، والكَذوب.
و المَكْذُوبَة: المرأة الضَّعيفة[16].
وكَذَبَ لبَن الناقة؛ أي: ذهب[17].
وكَذَبَت العين: خانها حِسُّها، وكَذَب الرأي: توهم الأمْر بخِلاف ما هو به.
وكَذَبَتْهُ نَفْسُه: مَنَّتْه بغير الحق، وكَذَّب إذا حمَل على العدوِّ: جَبُنَ في القتال.
ويأتي بمعنى الخطأ؛ لأنه يشبهه في عدم الصواب، وإن افترقَا من حيث النيةُ والقصد[18].
ورد لفظ الكذب في القرآن الكريم في (251) موضعًا، على (6) أوجه[19]، وهي:
1- النفاق: في قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].
2- القذف: ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 7].
3- الرد: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: ليس لها راد.
4- الجحود: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
5- التكذيب: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ﴾ [ق: 5].
6- الافتراء: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ﴾ [الزمر: 60].
فالكذِب هو إخبارٌ بما لا يُطابق الواقع[20]، فيكون الكذب متعلقًا بالقول على وجه أخص بالخبر دون سائرِ صِيغ الكلام[21].
نجِد في القرآن الكريم أنَّ الله تعالى وصَف النفاقَ بالكذب، فكان معنى الكذب واقعًا على الحال، حيث إنَّ حالهم من أقوالهم وأفعالهم يخبر بخلاف ما في ضمائرهم، وعكس ما يقرُّ في قلوبهم، فالنِّفاق إظهارُ الخير وإبطان الشر، ويدخُل في هذا الاعتقادي منه والعَملي.
والأول: هو ما ذُكِر في الآية، وهو مُخرِج من الملَّة، فالمنافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]، ثم وصفَهم تعالى بالخداع، وهو مِن سلوكيات النِّفاق؛ بأن يسلك الفردُ وجهةً وهو يريد أخرى؛ ليتمكَّن من مقصوده، بعدَها وصفهم بأنهم مرْضى القلوب، بالشكِّ والشبهات والشهوات المُرْدِية، ثم ختَم كل تلك الصفات بقوله تعالى: ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، فادِّعاؤهم الإيمانَ حالاً ومقالاً كان كذبًا وخلافًا لواقعهم.
ثم نجِد الله تعالى يتوعَّد مَن كذبوا عليه يوم القيامة، وهؤلاء ادَّعوا بأنَّ لله شركاءَ وصاحبةً وولدًا، لكن إذا أجرينا عليهم تعريفَ الكذِب الأوَّل، ففي مفهوم الآية الْتِباس؛ حيث فُقد شرْط، وهو مطابقة القول للاعتقاد، فهُم اعتقدوا ذلك اعتقادًا جازمًا؛ لذا لا يصحُّ التعريف اللُّغوي عليهم بأنْ يُوصفوا بالكذِب، بل يُوصفون بالخطأ أو الضلال، لكن في آية أخرى قال تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [المجادلة: 14]، وفي هذا القيد أنَّ الكذب هنا يشمل ما يعلم الكاذب أنَّه كذب وما لا يعلم، فيكون خلافه – وهو الصِّدق – إخبارًا عن المخبَر به على ما هو به مع العِلم بأنَّه كذلك، فالكاذب على الله قال عنه بغير عِلم، وهذا مِن أكبر الكبائر، بل هو أكبرها، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، وهذا أعْظم مِن القول على الله بغير علم، أمَّا ما بقِي على بابه فكان في قوله تعالى عنِ القاذف للمحصنة: ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 7]؛ أي: يَزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، مؤكِّدًا تلك الشهادات بأن يدعوَ على نفسه باللعنة إنْ كان كاذبًا، فإذا تَمَّ لِعَانُه سقَط عنه حدُّ القذف[22]، فالكذب هنا كان: فيما رَمَاهَا به مِن الزِّنا[23].
نجِد أنَّ التكذيب – وهو وصفٌ للقول بالكذب – كان للسانِ والقلْب والفعل.
فالأوَّل: ورَد في قوله تعالى: ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35]؛ أي كَذِبًا، وهي لُغة يمانيَّة فصيحة[24].
والثاني: وهو بالقلْب في قوله تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]؛ أي: لم يتوهَّم ولم يَرُدَّه، ففؤاد محمَّد – عليه الصلاة والسلام – صادق، فتكون عينُه أصدق، وهذا هو المعتاد عندَ البشر[25].
والثالث: في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: مكذبة، وقوعها لا شكَّ فيه؛ لأنَّها قدْ تظاهرتْ عليها الأدلَّة العقليَّة والسمعيَّة، ودلَّتْ عليها حِكمتُه تعالى[26].
وقد وردتْ صِيغ للكذِب في القرآن الكريم، منها:
1- الإكْذَاب: في قوله تعالى: ﴿ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبُوا ﴾ [يوسف: 110]، قالت عائشة – رضي الله عنها -: حتى إذا استيئس الرسل ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك، وتقرأ بالتخفيف، وهي عند عاصم وحمزة والكِسائي: كُذِبُوا، رُوي عن ابن عباس: كانوا بشرًا، قال أبو منصور: إنْ صح هذا عنِ ابن عباس فوجهه عندي – والله أعلم – أنْ الرسل خطَر في أوهامهم ما يخطُر في أوهام البشَر من غير أن يكونوا حَقَّقُوا تلك الخواطرَ ولا ركنوا إليها، ولا كان ظنُّهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكنَّه كان خاطرًا يَغْلِبُه اليقين، وهذا متجاوَزٌ عنه.
2- كَاذِبَة: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: ليس يردُّها شيء، كما تقول: حَمْلَةُ فلان لا تَكْذِب؛ أي: لا يَرُدُّ حملتَه شيء، وهي مصدر، فهي اسمٌ وُضِع موضعَ المصدر.
3- كِذَّابا: ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35]؛ أي: لا يُكذِّب بعضُهم بعضًا، وهي لغة يَمانية فصيحة، ووردتْ كذا في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 28].
4- كذب: في قوله تعالى: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18]؛ لأنَّ يعقوب – عليه السلام – لما رأى القميصَ قال:كذبتُم؛ لو أكَلَه الذئب لمزّق قميصه.
قال الفرَّاء: بدم كذب، معناه مكذوب، والعرَب تقول للكذب: مكذوب، وللضَّعف: مضعوف، وللجلد: مجلود، فيجعلون المصادرَ في كثيرٍ مِن الكلام مفعولاً[27].
فالكذِب هو الإخبار عن الشيءِ بخلاف ما هو مع العِلم به، وقصد الحقيقة، فخرَج بالأوَّل الجهْل، وبالثاني المجاز[28]، وهو يعمُّ ما يَعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يَعلم؛ بدليلِ التقييد في قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [آل عمران: 75] بقوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، ويستعمل “الكذب” كوصفٍ غالبًا في الأقوال، والحقُّ يكون في المعتقدات.
نخلص إلى نِقاط جامعة لما سلف:
1- يقال “الكذب” في المقال والفِعال والاعتقاد.
2- قد يُنسب “الكذب” إلى نفْس الفِعل كقوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ ﴾ [العلق: 16].
3- ما جاء في القرآن غالبه في تكذيب الصادِق نحو: ﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ [النبأ: 28]، ﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ [المؤمنون: 26]، ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ [الحاقة: 4]، ﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القمر: 3]، بعدها قال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ [القمر: 4]، و﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9]، بعدها: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ ﴾ [القمر: 18]، ثم: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴾ [القمر: 23]، ثم: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ﴾ [القمر: 33]، وفي الرحمن: ﴿ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13] (31) مرَّة.
4- كَذَّب تكذيبًا؛ أي: أنْكر وجحد، أما كَذَّبَه فجعله كاذبًا في كلامه أو حاله، فالأوَّل متعدٍّ بالباء والثاني بنفسه؛ ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
مفهوم الإفك: الهمزة والفاء والكاف أصلٌ واحد، يدلُّ على قلْب الشيء، وصَرْفِهِ عن جهته، يقال: أُفِكَوأَفِكَ الرجل إذا كذَب، والإفْك الكذب، وأَفَكْتُالرجلَ عن الشيء إذا صرفتَه عنه[29]. الشيء.
المُؤتفكات: مدائن قُلِبت على قوم لوط، والرِّياح التي تقلِب الأرض. وأَفَّكفهو أَفَّاك وأَفيك وأفوك، وعنه يَأْفِكُهأفْكًا: صرَفه وقلَبه، أو قلَب رأيه[30].
والمأفُوك: المأفون، وهو الضعيف العقل والرأي[31].
ورَد لفظ الإفك باشتقاقه في (30) موضعًا من القرآن الكريم، على (7) وجوه[32]، وهي:
1- الكذب: في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 11].
2- العبادة الباطلة: ﴿ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴾ [الصافات: 86]؛ أي: أتريدون آلهةً مِن دون الله للإفْك، والإفك هنا أسوأُ مِن الكذب[33].
3- ادِّعاء الولَد لله – تعالى عمَّا يقولون -: ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 151 – 152].
4- قذْف المحصنَات: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11].
﴿ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]، ووصف ذلك الإفْك بالبُهتان: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
5- الصَّرْف: ﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [الذاريات: 9]؛ وفي الأحقاف: ﴿ لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ [الأحقاف: 22].
6- التقليب: ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ [النجم: 53].
7- السحر: ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الأعراف: 117].
بتتبُّع الألفاظ والأوْجه نرى أنَّ الإفك في غالِب ما ورَد كان بمعنى الكذِب، وهو مِن أنواعه وأسوئِها، وما وُصف به هو الكذب في عظائمِ الأمور، فوصَف الله تعالى ادعاءَ الشركاء له بأنَّه إفْك وادِّعاء الولد، والإفْك هنا قلبُ الحقائق الواضحة البيِّنة، وهو أشدُّ مِن الكذب، فالآية كانت بهذا السِّياق: ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 151 – 152]، فإنْ قلنا: إنَّ الإفك هنا بمعنى الكذِب فما فائدةُ وصفهم به، وتكذيبهم هنا؟ فمَعْنى الإفْك القلْب والصَّرْف عن الجِهة الحقيقيَّة للكلام، فوصف ذلك القلْب بأنَّه كذِب، كما سمَّى الله تعالى قذْف أمِّ المؤمنين الحَصان عائشة – رضي الله عنها – بالإفْك؛ وذلك لعِظم الأمر وخُطورته، ثم اتَّهم ﴿ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ﴾ بأنهم ﴿ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ بعدها وصف ذلك الإفْك بأنه ﴿ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾، وأنَّ النيَّة من ورائه إشاعة الفاحشة، فقال عن أصحاب الإفك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].
فالبُهتان هو أن يتهم الآخَر بما لم يَفعل في غَيبته مع علمه بأنَّه كاذب في ما قاله، فهو مِن أنواع الكذب، والإفْك أشدُّ من الكذب، والبهتان أشدُّ منه، فكلُّ إفك كذب، وليس كل كذب إفكًا، فالإفك هو الكذب للإضرار بالغير؛ لذا كان كذبًا يراد منه سوء؛ لأنَّ الكذب قد يكون لدفْع ضرر أو جلْب منفعة، لكن الإفك للإضرار بالغير؛ لذا في الآيات اتَّهم الله تعالى عُصبةَ الإفك بسوء القصْد؛ حيث إنَّهم يبغون إشاعةَ الفاحشة في المؤمنين.
والبهتان كذبٌ متعمَّد باطله محير وعجيب؛ لذا وُصف الإفك بأنَّه كذلك ولم يرد العكس، غير أنَّ الإفك قد يفقد أحد شروط الكذب، وهو اليقين، فالكاذب متيقِّن من خلاف الواقع لكلامه، أما الأفَّاك فهو يقلب الحقائق ويصرف وجهَها؛ حتى لا يُتَيَقَّن بأنَّ كلامه خلافُ الواقع؛ لذا قال عنهم الله تعالى: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [النور: 15]، فرغم عدم عِلمهم بأنه كذب وصف الله ما تناقلوه بأنَّه إفك، ثم وصفَه بأنه كذب، فتوافَر شرطان: أنَّه قلب للحقائق مع صرْف للقَصْد، والكلام بغير علم، وهذا عَدَّه الله تعالى مِن الكذب وإنْ كان لغةً يشترط العلم – كما أسلفنا في مفهوم الكذب – لكن مفهوم الكذب في القرآن يتناسق مع هذا كلِّه.
كذا نجِد أنَّ السحر وُصِف بأنَّه إفك؛ قال تعالى: ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الشعراء: 44 – 45].
أمَّا في طه: ﴿ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 68 – 69]، قبلها قال تعالى عن سِحرهم: ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، فهنا حدَث قلب للصورة الحقيقيَّة للحبال[34]، فلو أردْنا أن نفسِّر (يأفكون) بـ(يكذبون)، لما وقَع المعنى على ما يُقاربه، لكن الواضح أن الإفك كان هنا القَلْبَ بالتخييل؛ فيبقى على أصله اللغوي.
و من معاني السحر أنه يصرف القلوب إليه[35].
نخلص إلى نقاط جامعة لما سلف:
1- الإفك هو الكذب المراد به السوء، عن علم أو عن غيره.
2- الإفك أشد من الكذب، والبهتان في السوء أشد منه.
3- الإفك يدل على قلب الأمور وصرفها عن جهتها الأصلية، وهذا غالب ما ورد به في القرآن الكريم.
4- أشد من الإفك الافتراء؛ لأن الأول قد يكون له أصل، أما الثاني فهو مُختلق لا أصل له وهو عجيب.
مفهوم الافتراء: من “فري” الفاء والراء والحرف المعتل: عظْم الباب قَطْعُ الشيء.
ثم يفرَّع منه ما يقاربُه؛ من ذلك: فَرَيتُ الشيء أفرِيه فَرْيًا، وذلك قَطْعُك له لإصلاحه.
قال ابن السكّيت: فرى، إذا خَرَز، وأفريته إذا أنت قَطَعْتَه للإفساد.
ومن الباب: فلان يَفْرِي الفريَّ، إذا كان يأتي بالعجب، كأنه يَقْطع الشيء قطعًا عجيبًا[36].
فَراهُ يَفْرِيهِ: شَقَّهُ فاسِدًا أو صالِحًا، كَفَرَّاهُ وأفْراهُ، والكَذِبَ: اختلقه؛ والفِرْيَة: الكذب[37].
وأَفْرَى الأديم: قطعَه على جِهة الإفساد؛ وفَرَاه: قطعه على جِهة الإصلاح[38].
ورد لفظُ الافتراء في القرآن الكريم في (60) موضعًا، لم نجد أوجهًا لها في كتُب الأوجه والنظائر؛ لذا تتبعْنا صيغَها، فكانت كالتالي:
1- افتراء للكذب: وردتْ هذه الصيغة في آيات عدَّة، منها: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 94]، وقوله تعالى: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 50]، وفي جميع الآيات ورَد بعدَ لفظ الافتراء لفظ الكذِب، فالافتراء غالبًا لا يكون إلاَّ للكذب، بمعنى اختلاقه مع احتمالِ اللفْظ للكذب، فمجرَّد أنَّه اختلاق دلَّ على مخالفتِه للحقيقة، غير أنَّ مِن معانيه الإتيان بالعجب، كأنَّه يقطعه عن أصْله وحقيقته.
لكن شرط العِلم ناقص؛ لذا أُضيف الكذِب، فقد يكون بعضُه ليس كذبًا؛ أي: عن جهْل.
2- افتراء الإثْم: كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].
3- افتراء القرآن: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37].
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
4- الأمر العظيم العجب: ﴿ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27].
5- افتراء السحر: ﴿ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى ﴾ [القصص: 36].
6- افتراء الإفْك: ﴿ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى ﴾ [سبأ: 43].
7- افتراء البُهتان: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ [الممتحنة: 12].
بتتبُّع مواضع اللفظ نلاحظ أنَّه غالبًا ما يجرُّ معناه إلى غيره بحرْف المعنى “على“، كما أنَّ الافتراء هو خلاف الصِّدق (يوسف: 111) و(هود: 13) وغيرها، فالفري الإتيان بالعجب كالتقطيع، وقد يكون للإصلاح، والإفْراء للإفساد، والافتراء فيهما[39]؛ لذا كان غالبُ موارده في القرآن أنَّه عُلق بقرينة تدلُّ على الإفساد بأن جعل الافتراء إمَّا للكذب، أو للإثم، أو الإفْك، أو البُهتان، أو السِّحر، أو الظلم؛ فالافتراء هو العظيم مِن الكذب؛ لذا يُقال لمن عمل عملاً فبالغ فيه: إنَّه يَفري الفِرَى، ومعنى افترى: افتَعَل واختلق ما لا يصحُّ أن يكون، وما لا يصحُّ أن يكون، أعمُّ مما لا يجوز أن يُقال، وما لا يجوز أن يُفْعل[40].
مِن خلال الآيات الواردة نَفْهم أنَّ الافتراء هو أعظمُ درَجات الكذب؛ لأنَّ درجاته كلَّها ألحقتْ به، فكان الافتراء للبُهتان والإفْك والكذب، وهذا راجع لأنَّها كلَّها ذات أصْل إلاَّ الافتراء، فهو كلامٌ لا أصلَ له.
نخلُص إلى نِقاط جامِعة لما سلف:
1- الفرى للإصلاح، والإفْراء للإفْساد، والافتراء فِيهما، وفي الإفْساد أكثر استعمالاً في القرآن.
2- استعمل الافتراء في القرآن في الكذِب والإفْك والبُهتان والشِّرْك والظُّلم.
3- الافتراء هو أعظمُ الكذِب وأعْلى درجاتِه.
مفهوم البُهتان: الباء والهاء والتَّاء أصلٌ واحِد، وهو كالدهش والحَيْرة[41]. وبَهَتَهُ: قال عليه ما لم يفعلْ، والبَهيتَةُ: الباطِل الذي يُتَحَيَّر مِن بطلانه. والبَهتُ: الأخْذ بغتة، والانقطاع والحيرة[42]، وبَهِتَ: دهش وتحير، وأفْصح منها بُهِت بالضم[43]، وهو بمعنى أُخِذَ بالحجَّة فشَحَب لونُه، يقولون: ثوب باهت، ولون باهت؛ أي: شاحِب، والبهتان: الكذب المفترى[44].
ورد لفظ البُهتان مع اشتقاقاته في (6) مواضع، على (4) أوجه[45]، هي:
1- الزِّنا: ورد في قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَه ﴾ [الممتحنة: 12]؛ أي لا يلحقْنَ بأزواجهنَّ غير أولادِهم؛ قاله ابنُ عبَّاس والجمهور[46]، فالبُهتان هنا الافتراءُ على الزوج بالولَد[47].
2- الكذب: قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، يعني: كذبًا صريحًا.
3- المال الحرام: ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20].
4- الدهْشة والخسران: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258].
فالبُهتان كان معناه في القرآن الكريم شاملاً لمعاني الباطِل والكذب والدهشة والحيرة، فآية الممتحنة ورد فيها أنَّ الأولاد المنسوبين لغير آبائهم من طرَف الزوجات هم البُهتان المفترى، فوصف البُهتان بالافتراء؛ أي: إنَّ الزوجات نسبْن لأزواجهنَّ ما لم يفْعلوا، وفي الآية البُهتان أشدُّ مِن افتراء الكذب؛ لأنَّ الافتراء متعلِّق بقائله وما يخصُّه، لكن البهتان يتعدَّى إلى الغير، فالأول كذب لا يتعدَّى، والثاني كذبٌ على الغير، فيكون كلُّ بهتان افتراءً، وليس كل افتراء بهتانًا.
وعرَّف البعض البهتان بأنَّه الكذب المفترى.
أمَّا في آية النور، فبَيَّن أنَّه اتِّهام الغير بما لم يفعلوا في حالِ غِيابهم، وبمعنى الباطِل المحير والمثير للدهْشة بدليل قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: 16]، فالتسبيح هنا كان للتعجُّب مِن أولئك الذين جاؤوا بالإفْك[48].
ووُصف الإفْك بأنَّه مبين؛ ﴿ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]؛ أي: كذِب مكشوف؛ لأنَّه قلْبٌ للحقائق الواضِحة.
بينما وصف البهتان بأنَّه عظيم؛ لأنَّه باطل ذُكر بغتةً، فحارتْ معه العقول، واندهشتِ القلوب، فكان تأثيره عجيبًا حتى إنَّه وقَع فيه قومٌ كرام.
كذا وصف البهتان بأنَّه عظيم فسبق بقوله تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، أمَّا الإفك فكان تِبْيَانه بطلب الشهادة مِن أربعة شهداء، كما وصف أخْذ المال بغير حق بالبهتان والإثم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20]، فكان معنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين، فكان بمعنى المباهتة؛ أي: إثارة الدهْشة والحيرة بفِعْل هذا الباطل، فقد فسَّر الزجَّاجُ البهتانَ هنا بالباطل[49].
قال القاضي أبو يعلَى: وإنَّما خصَّ النهي عن أخْذ شيء ممَّا أعطى بحال الاستبدال، وإنْ كان المنع عامًّا؛ لئلاَّ يظن ظانٌّ أنَّه لما عاد البُضع إلى ملكها، وجَب أن يسقط حقُّها مِن المهر، أو يظن ظانٌّ أنَّ الثانية أوْلى بالمهر منها لقيامها مقامها[50]، فكان هذا الحُكم باطلاً محيرًا، يبهت مَن يسمعه؛ لذا وصفه تعالى بأنَّه إثم وظلم بيِّن واضح[51].
كذا نجِد في القرآن الكريم وصف مَن أُخِذ بالحجَّة فتغير وجهه مِن الدهشة والحيرة في الردِّ بأنَّه مبهوت، والفاعل بَهَت وهو بُهِت: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]، وكان سياق الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، فانتِقال إبراهيم – عليه السلام – من الحُجَّة الأولى إلى الثانية وترْك نُصرة الأولى، كان لإدراكه ضعفَ فَهم المخاصم؛ لذا كانتِ الحجَّة الثانية محيرة ولم يجدْ مجادلُه جوابًا للرد.
نخلص إلى نقاط جامعة لما سلَف:
1- البهتان هو الباطِل المُحَيِّر.
2- البهت هو التَحيُّر والاندهاش.
3- البهتان هو رمْي الغَير بالباطل.
4- البهتان هو الكَذِب المفترى.
5- البهتان مِن أعْلى درجات الكذب، وهو أن يكذب الرجلُ على مَن يعلم غيبته ويعلم أنَّه كاذب.
[1] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (2/ 36).
[2] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 900).
[3] مختار الصحاح، أبو بكر الرازي (ص: 181).
[4] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية (1/511).
[5] لسان العرب، ابن منظور (10/ 149).
[6] – تيسير الكريم الرحمن: السعدي. ص 690.
[7] – زبدة التفسير: سليمان الأشقر. ص 610.
[8] – المرجع نفسه: ص 593.
[9] – زبدة التفسير: سليمان الأشقر. ص (400، 401).
[10] – المرجع نفسه: ص (400، 401).
[11] – تيسير الكريم الرحمن: السعدي. ص 467.
[12] – المفردات: الأصفهاني. ص 280.
[13] – التعريفات: الجرجاني. ص 151.
– أي: إن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معًا، فإن انعدم واحد منهما لم يكن صدقا تامًّا، بل إما ألاَّ يوصف بصدق و لا كذب؛ أي: الذي لا قصد له؛ وإما أن يقال له: صدق وكذب، باعتبارين؛ وذلك إن كان مطابقًا للخارج غير مطابق للاعتقاد أو بالعكس كقول المنافقين: ﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ [المنافقون: 1]، فيصح أن يقال لهذا: صدق؛ اعتبارًا بالمطابقة لما في الخارج، وكذب لمخالفة ضمير القائل، ولهذا أكذبهم الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]. – الكليات: الكفوي. ص 556.
[14] ورَد عن الأدباء أنَّ مِن علامة الصَّديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا، وقسَّمها البعضُ إلى ثلاث درجات، هي:
1- الصَّداقة القائمة على اللذة.
2- الصَّداقة القائمة على المنفعة.
3 – الصَّداقة القائمة على الخير.
المعجم الفلسفي، جميل صليبا (1/721).
[15] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (2/428).
[16] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 129).
[17] مختار الصحاح، أبي بكر الرازي (ص: 275).
[18] – لسان العرب: ابن منظور. ج5، ص 3841.
[19] – إصلاح الوجوه والنظائر: الدامغاني. ص (401، 402).
[20] – التعريفات: الجرجاني. ص 210.
[21] فالكذب إخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه مع العلم بحقيقته وواقعه.
– الرائد : جبران مسعود. ج2، ص 1232.
[22] تيسير الكريم الرحمن، السعدي (ص: 534).
[23] زبدة التفسير، سليمان الأشقر (ص: 457).
[24] لسان العرب، ابن منظور (5/3841).
[25] زبدة التفسير، سليمان الأشقر (ص: 701).
[26] تيسير الكريم الرحمن، السعدي (ص: 796).
[27] زاد المسير، ابن الجوزي (ص: 685).
[28] الكليات، الكفوي (ص: 768).
[29] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (1/65).
[30] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 931).
[31] مختار الصحاح، أبي بكر الرازي (ص: 21).
[32] إصلاح الوجوه والنظائر، الدامغاني (ص: 33).
[33] مثله في الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ [الفرقان: 4] فالإفْك هنا بمعنى الكذِب، والافتراء مِن أنواع الكذب، لكن يقال: إفك مفترى، ولا يُقال: افتراء مأفوك؛ لأنَّ الإفك إنْ رجعنا لأصله اللُّغوي فهو القلب؛ أي: إن للقضية أصلاً وصُرفت عنه وغُيرت الحقائق، غير أنَّ الافتراء معناه من القطع العجيب والاختلاق، فكأنَّ القضية لا أصلَ لها وإنَّما اختلقت من عدم، فكان الجمع بين الإفك والافتراء قمَّةَ التكذيب، فيصبح المعنى الكذب المحرَّف المختلَق.
[34] والسِّحر يقَع على هيئتين: الأولى تحول الصورة في العين؛ ﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 116]، أما الهيئة الثانية فهي أن يتحوَّل الجِني إلى هيئة تُرى، لكن ليستْ صورته الحقيقيَّة، وهذا ثابت في قصَّة تعلم أبي هريرةَ آيةَ الكرسي من الشيطان حين تصوَّر في هيئة شيْخ يريد السرقة، وهنا مع موسى – عليه السلام – كان السِّحر للأعين؛ لذا قال تعالى: ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ ﴾ [طه: 66]، لكن لما ألْقى موسى لم يسحرِ السحرة، فهم يرون سحرَهم على حقيقته – حبالاً – فما أتى به موسى حقيقة لا سِحر، ولا قلب للحقيقة؛ لأنهم لا يتأثَّرون بالسِّحر ويُميِّزون بينه وبين ما هو حقيقة؛ لذا علموا أنَّ ما مع موسى ليس لبشرٍٍ أن يقدر عليه؛ لخِبرتهم بعِلم السحر، بل ما أتى به موسى لا يكون إلاَّ مِن عند ربِّ البشَر، الخالق لكلِّ شيء مِن عدم، كما وقَع مع موسى؛ لذا وصفوا مَن آمنوا به “بالربوبيَّة” أولاً؛ لأنَّ الخلق مِن صفات الربوبية، فالسَّحرة لم يقولوا: آمنا بموسى نبيًّا رسولاً، إنما قالوا: ﴿ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه: 70]، وفرعون قال عنه الله تعالى: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ ﴾ [طه: 71]، فهم علِموا أنَّ ما أتى به موسى ليس مِن عنده ولا قُدرة له، ولا لأحدٍ مِن البشر بمثله.
[35] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 405).
[36] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (2/ 351).
[37] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 132).
[38] مختار الصحاح، أبي بكر الرازي (ص: 246).
[39] المفردات، الأصفهاني (ص: 380).
[40] الكليات، الكفوي (ص: 154).
[41] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (1/ 159).
[42] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص: 148).
[43] مختار الصحاح، أبي بكر الرازي (ص: 42).
[44] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية (1/73).
[45] إصلاح الوجوه والنظائِر، الدامغاني (ص: 79).
[46] زاد المسير: ابن الجوزي (ص: 1429).
[47] قول الدامغاني أنَّ المراد بالبهتان هنا الزِّنا، فيه نظر، فالآية كانت: ﴿ وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ [الممتحنة: 12]، فالنهي عن الزِّنا كان مصرَّحًا به قبل النهي عن البهتان المفترى، فلا يكون نهيان عن شيء واحِد في سِياق واحد، لكن البهتان هو اتِّهام الغير بما لم يفعلْ، وهنا كان مفترى؛ أي مكذوبًا بأن تلدَ المرأة فتأخذ ولدًا تستبدل به الجارية، فكأنَّها قطعتِ الولد مِن نسبه وأوصلته بزوجها، فنسبتْ له ما لم يفعلْ وما ليس منه.
[48] – زبدة التفسير: سليمان الأشقر. ص 459.
[49] – زاد المسير: ابن الجوزي. ص 268.
[50] – المرجع السابق: ص 268.
[51] – والبهتان هو من أفحش الكذب؛ لأنه إذا كان عن قصد فهو إفك.
– الكليات: الكفوي. ص 154.
المصدر:الألوكة