سورة القمر وما فيها من إعجاز البيان وبديع النظام

الجمعة 24 صفر 1435 الموافق 27 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).رشي

د. محمد أسد سبحاني

براعة الترجيع:

نرجع مرة أخرى إلى القصص ونتأمل من خلالها في ترجيع قوله  تعالى : ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)) [القمر : 40].

فقد رُجِّعَت هذه الآية في تلك السورة أربع مرات، رُجِّعَت بعد كل مشهد من مشاهد المثُلات.

فما الفائدة من هذا الترجيع يا ترى؟

هل يضيف هذا الترجيع شيئاً جديداً إلى موحيات هذه السورة؟ وهل له دور ملحوظ ملموس في جمال السورة وفي إيقاعاتها؟

أم هو تكرار محض وليس وراءه شيء ملحوظ مذكور يتصل بجمال السورة وموحياتها؟

تلك أسئلة وجيهة هامة تفرض علينا أن نمعن النظر في نظام الآيات، إن الجواب عنها يكمن في نظامها، ومن أراد الإجابة عليها ساهياً عن نظامها فلا نعتقد أنه يختلف في جوابه عن الإمام الشوكاني  رحمه الله  حيث يقول: “لعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها”(4).

بينما التأمل في نظام تلك الآيات لا يدعنا نقف عند هذا الحد الأدنى بل يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في الموضوع، ويجسِّم لنا جمال هذا الترجيع ويشخِّص لنا بلاغته وإعجازه من عدة وجوه، وهي كما يلي:

الوجه الأول: هذا الترجيع يسبغ على تلك المشاهد الرهيبة المخيفة المفزعة ثوباً ضافياً فضفاضاً من الرقة والعذوبة والرحمة، فنشعر كلما ينتهي مشهد من هذه المشاهد المرجفة كأن ربنا تجلّى لنا برأفته.

وهو يحذرنا أن نتورط فيما تورط فيه أولئك المتمردون من الخزي والعذاب والخسران، وينادينا بحنوّ وتأكيد وإصرار:

ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر؟

ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟

الوجه الثاني: هذا الترجيع  بما فيه من تكرار ضمير الجلالة (نا)  يبين لنا مدى رأفة الله بعباده، ويقرّبنا حتى يجعلنا نستشعر كأننا في كنف ربنا، ونسمع صوته في آذاننا وهو يدعونا وينادينا: ((فهل من مدكر … فهل من مدكر … )) [القمر : 40].

الوجه الثالث: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات مشهداً مستقلاً بنفسه. ويبرز كلاً منها وهي وحدها تكفي للعظة والتذكار.

وكم كان الله بعباده رحيماً، وكم كان عليهم حنوناً؛ إذ قصّ عليهم تلك القصص تباعاً، حتى لو فاتتهم قصة أيقظتهم أخرى:

ولقد صدق نبينا  عليه الصلاة والسلام  إذ قال: “ولا يهلك على الله إلا هالك”(5).

الوجه الرابع: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات متميزة من صاحبتها، ويجعل لكل واحدة منها إيحاءاً يخصها، ويدعونا إلى أن نطيل المكث عند كل واحدة منها ونستوعب إيحاءاتها.

ثم إذا رجعنا إلى تلك الحلقات وعشنا مع تلك الآيات المباركات وتأملنا فيها من هذه الناحية وجدناها كذلك، وسنفصّل فيه القول  بإذن الله .

فلننظر كيف كشف لنا التأمل في نظام تلك الآيات عن نواحي الجمال والروعة والإشراق في هذا الترجيع.

والآن فلا نبالغ إذا قلنا: إن هذا الترجيع تعرَّض في تلك السورة تعرُّض أثناء الوشاح(6) المفصّل، وإن شئت فقل: إنه يتلألأ فيها كما يتلألأ الثريا في كبد السماء.

تميز وتماثل:

والآن نأتي لنرى تميز تلك القصص في إيحاءاتها مع تماثلها في جوّها وصياغتها.

وتلك ناحية عجيبة من بلاغة أسلوب القرآن، وما يفطن لها إلاّ من كان مهتماً بنظام الآيات، وكان عاكفاً على التأمل فيها والتشبع بعلومها وكنوزها، فنقول  وبالله التوفيق:

القصة الأولى: وهي قصة نوح، يغلب عليها لون رعاية الله لعباده الأنبياء.

ألا ترى كيف بدأ القصة بقوله: فكذبوا عبدنا.

ولا ندري كيف نعبر عما تفيض به كلمة عبدنا من حفاوة ومودة تأخذ القلوب وتملك الشعور، وخاصة في هذا الجو الخانق المكروب قالوا مجنون وازدجر.

ثم نلاحظ كذلك أنه ما تتحرك شفتا نوح بإظهار ضعفه وعجزه أمام ربه، حتى يسرع إليه ربه بعطفه ورعايته، ويحرك له الكون كله للانتصار من أعدائه: ((فدعا ربه أني مغلوب فانتصر . ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر)) [القمر: 10 – 12].

ولننتبه لضمير الجلالة هنا: ففتحنا و فجرنا فإن التصريح بضمير الجلالة هنا يشعر أنه – تعالى – قد تولى أمر نوح بنفسه ولم يسنده إلى غيره اهتماماً بشأن عبده!

اقرأ أيضا  استماع القرآن عبادة صامتة

ثم نرى نوحاً يحمله ربه على ذات ألواح ودسر، وهي تجري بأعينه وفي ظلّ رعايته  سبحانه وتعالى  !

وكان هذا جزاءاً وإكراماً لمن كفر به قومه فأكرمه ربه وأسبغ عليه فضله: ((وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر)) [القمر: 13، 14].

والمراد بذات ألواح ودسر هو السفينة كما هو معروف ومفهوم؛ إلا أن النص القرآني عدل عن كلمة السفينة إلى قوله: ذات ألواح ودسر حتى يصوّر لنا ذلك المشهد الفذ الجميل، ويجعله حاضراً شاخصاً أمام أعيننا.

فنشعر كلما تلونا تلك الآية الكريمة كأننا واقفون أمام تلك الألواح وهي تحمل نوحاً في رعاية ربه، والأمواج الصاخبة حوله تريد أن تصل إليه ولكن بدون جدوى؛ فإنه في رعاية ربه، وربه يرعاه بنفسه!

وهكذا نرى السياق يبرز في هذه القصة مشهد الحماية والرعاية والكرامة. وأما المشهد الأخير  وهو مشهد الإهلاك والإغراق  فيطويه طيّاً، ويكتفي بالإشارة إليه: ((فالتقى الماء على أمر قد قدر)) [القمر: 12].

ثم تأتي الحلقة الثانية: وهي قصة قوم عاد، وتلك القصة بأكملها تمثل سوء عاقبة المستكبرين، كما أن القصة الأولى كانت عبارة عن تأييد الله للمرسلين.

فهي تنذر من يغتر بقوته أنه سيصرع صرعاً فظيعاً، وما يستطيع من قيام ولو لطرفة عين؛ فإن جنود الله الجبارين يمرِّغون أنوف المستكبرين في التراب، مهما بلغت قوتهم،ويلصقون جباههم بالرغام مهما عظمت شوكتهم.

فتلك عاد شمخوا بأنوفهم أمام ربهم: ((وقالوا من أشد منا قوة)) [ فصلت: 15].

فسلط الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، فألقتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

{{((كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر . إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر . تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر . فكيف كان عذابي ونذر)) [القمر: 18 – 21].

فنرى السياق يذكر هلاكهم الفظيع بكل سرعة وإيجاز وينتهي ولا يتعرض لشيء بعده .

ثم تأتي الحلقة الثالثة: قصة ثمود؛ وهي وإن كانت في لونها العام شبيهة بقصة عاد، إلا أنها متميزة منها من جهة، فإنها تحذير للكافرين على طلبهم آية العذاب، وتنبيه إلى أن الأمة إذا طلبت آية العذاب، ثم هتكت حرمتها فلا تمهل بعدها.

فالآية قد تكون حسرة وندامة في حق من يطلبها، ويكون موعد ظهورها هو موعد هلاك تلك الأمة: ((كذبت ثمود بالنذر . فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر .أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر . سيعلمون غدا من الكذاب الأشر))… [القمر: 23 – 32].

ثم تأتي الحلقة الرابعة: قصة قوم لوط؛ وهي وإن كانت شبيهة بقصة قوم نوح على طريق العود على البدء، إلا أنها متميزة عنها؛ حيث إنها تبشر بتنجية المؤمنين كافة، وتنادي بحسن جزاء الشاكرين قاطبة.

إنها تصرح بتنجية آل لوط كلهم، ولا تقتصر على ذكر نجاة نبي الله لوط وحده.

علماً بأن القصة الأولى لا تذكر إلا نجاة نبي الله نوح: وحملناه على” ذات ألواح ودسر.

وكذلك تناولت هذه القصة هلاك المجرمين بنوع من التفصيل، بينما القصة الأولى لم تتناوله بتفصيل وإنما أشارت إليه إشارة عابرة خاطفة:((كذبت قوم لوط بالنذر . إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر . نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر…)) [القمر: 33 – 39].

ثم تأتي الحلقة الخامسة: وهي قصة آل فرعون، وهذه القصة تنبه إلى أن وفرة العتاد والأوتاد أو كثرة الجيوش والجنود لا تغني من ذي الجلال والجبروت؛ فإنه يقصف الطغاة ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر:((ولقد جاء آل فرعون النذر . كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر)) [القمر: 41، 42].

إلا أن هذه الحلقة تختلف عن أخواتها؛ بحيث إنها ليست  في الحقيقة  حلقة مستقلة، وإنما هي معْبرة لطيفة للتخلص من حديث الغابرين إلى واقع الحاضرين.

ولذلك ترى الآذان والأذهان تنتظر بعد ذكر آل فرعون ذلك الترجيع المألوف: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.

فإذا بها قد فوجئت بسؤال يهز الوجود ويرجف القلوب:((أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر . أم يقولون نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر: 43 – 46]}.

اقرأ أيضا  أسباب النزول - القول في أول ما نزل من القرآن

ثم هناك ظاهرة أخرى تميز المشهد الأخير عن أقرانه هي أن المشاهد الأخرى جاءت مفصولة بعضها عن بعض؛ بحيث لا يربطها رابط من واو الوصل: فقال  تعالى : كذبت ثمود … كذبت قوم لوط… .

بينما نرى المشهد الأخير جاء بواو الوصل؛ حيث قال  تعالى :((ولقد جاء آل فرعون النذر)) [القمر: 41] وتلك لمحة مليحة إلى أن المشهد الأخير يختلف عن سائر المشاهد في نوعيته وطبيعته ودلالته .

وتلك لطائف عجيبة من لطائف أسلوب القرآن، بحيث يتحرك لها الوجدان وتهتز لها حاسة البيان، ولا يمكن العثور عليها إلا بعد ترداد النظر في تصاريف النظام.

براعة الترتيب في القصص:

لا يخفى على الباحث المتأمل أن القرآن ليس له عادة معلومة أو قاعدة مطردة في ذكر القصص والأخبار، بل له في ذلك مناحٍ وأساليب في غاية الدقة.

فأحياناً يسرد القصص سرداً حسب ترتيبها في الزمان، وأخرى يعدل عنه إلى ترتيب آخر تقتضيه حكمة البيان.

فلنرجع إلى ما كنا فيه من سورة القمر، ولنمعن النظر في ترتيب قصصها عسى أن ندرك ما فيه من الحكمة البالغة والبلاغة الساحرة المعجزة.

من المعلوم أن هذا الترتيب الذي نلاحظه في هذه السورة جاء على وفق الزمان.

فذكر السياق أولاً قوم نوح ثم عاداً ثم ثمود ثم قوم لوط ثم آل فرعون.

ولا شك أننا إذا مررنا على مصارع هؤلاء الأحزاب، هكذا على ترتيبهم في الزمان؛ حيث يتبع بعضهم بعضاً، تمثلت لنا سنة الله التي عملت عملها دائماً، وغلب على حِسِّنا أن أيَّ أمة من الأمم – على مدار التاريخ – لما ركبت مركب الكفر والمعصية ذاقت وبال أمرها، وكان عاقبة أمرها خسراً.

فهذا النظم له دور بارز ملموس في إعداد هذا الجو الرهيب المفزع.

والآية التالية لتلك القصص قد نجد فيها نوعاً من التأييد لهذا القول؛ فإنه لماّ تهيأ هذا الجو وتمكن من القلوب الروع تقدم النص خطوة أخرى، وهزّ أعداء الله هزاً ((أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر)) [القمر: 43].

أي: إذا كانت تلك سنة الله في الأمم، وكانت سنة قائمة على مرّ الزمان؛ بحيث لم تركب أمة من الأمم هذا المركب الخشن إلا جنت الندم، ودارت عليها دائرة المحن، فما بالكم يا طغام الأحلام أمنتم على أنفسكم وتجرأتم على ربكم؟

أأنتم خير من أولئكم؛ فلا تمسكم نفحة من عذاب ربكم؟ أم كتب لكم ربكم “صك” البراءة والغفران؛ فلا تقطفون ثمار كفركم وإنكاركم؟!

ولمثل هذا النظم نظائر أخرى وشواهد تترى في القرآن، ولكن الأمر ليس بحاجة إلى أن نفيض فيه الكلام ونقيم عليه البرهان.

براعة المقطع:

وأخيراً نأتي على مقطع من السورة غاية في الحسن والروعة:((إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر)) [القمر: 54، 55].

ولكي ندرك روعة هذا المقطع لا بد لنا أن نضع في اعتبارنا ذلك الجو الرعيب المكفهر الذي يسود السورة، والذي مررنا عليه قبل قليل.

ويزداد هذا الجو تجهماً ويشتد حين تستقبلنا هذه الآيات:((إن المجرمين في ضلال وسعر . يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر . وكل شيء فعلوه في الزبر . وكل صغير وكبير مستطر)) [القمر: 47 – 53].

يا لهول المصير!! ويا لخطورة الموقف!!

((وكل شيء فعلوه في الزبر . وكل صغير وكبير مستطر)) [القمر: 52 – 53].

فكأن هذا العذاب البئيس الذي دمرهم ومزقهم وجعلهم كهشيم المحتظر لم يحسب في حسابهم ولم ينقص من أوزارهم؛ بل كل صغير وكبير مسطور في زُبُر(7) أعمالهم؛ وهم سيحاسبون عليه واحداً بعد واحد.

والنتيجة واضحة معلومة؛ فهم يُسحبون في النار على وجوههم؛ وكل شيء حولهم يسخر منهم ويقرعهم.

ذوقوا أيها السامدون! ذوقوا مسّ سقر!

في مثل هذا الجو العبوس القمطرير ترد هاتان الآيتان: ((إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر)) [القمر: 54، 55].

يا لروعة هذه الكلمات في هذا الجو المكفهر القاتم!

فوالله! إنها لأروع من كوكب دريّ كريم يضيء في ليل بهيم! وهي أغلى في نفس المؤمن من كل كنز ثمين ومن كل متعة ونعيم!

اقرأ أيضا  تفسير سورة النازعات عدد آياتها 46 وهي مكية

وتجيء سورة القمر لتفصِّل تلك المصارع بأسلوب ينطق بقدرة الله وملكه وتفرده بالسلطان دون غيره؛ فله الملك وله الحكم؛ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد؛ يبطش بالطغاة وينتصر من البغاة؛ ويأخذ من يشاء أخذ عزيز مقتدر.

ثم هذا ليس نهاية المطاف؛ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ؛ فهم يسحبون في النار على وجوههم ولا يجدون لديهم من يشفع لهم أو يخفف عنهم من عذاب ربهم.

وأما المتقون فهم ينعمون ويفرحون وهم اليوم في شغل فاكهون: ((في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر)) [القمر: 54، 55].

فاليوم يومهم والمليك مليكهم.

فهم اليوم في عزة وسرور وفي سعادة وحبور.

والمليك يُتوِّجهم بتاج العز والكرامة، ويخلع عليهم حُلل الشرف والسعادة، ويرفع شأنهم حتى يجلسهم حول عرشه وينزلهم في كنفه؛ فإنهم عرفوا لصاحب الملك ملكه، وخشعوا له وسجدوا، وأوذوا في سبيله فصبروا، وقَتَلوا وقُتِلوا.

وأما الذين عدلوا عن المليك وتعلقوا بأهداب الشفعاء فلهم الويل كل الويل؛ فإنهم أسخطوا المليك ولم ينفعهم البديل.

وما أروع مشهد المتقين؛ حيث ينعمون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ما أروع هذا المشهد إذا قسناه إلى مشهد الكفار وهم يُسحبون على وجوههم ويمثُلُون إلى نيرانهم؛ وكأن الملائكة الذين كان يحلم هؤلاء بشفاعتهم يتبرؤون منهم ويعنفونهم: ذوقوا مس سقر.

ثم تدهشنا روعة هذا المقطع وبراعته من ناحية أخرى إذا قسناه إلى سورة الرحمن؛ وبيانه أن سورة القمر تطفح بلهيب الإنذار وتجيش بغضب الجبار؛ فقد تكررت فيها كلمة “النذر” و “الإنذار” اثنتي عشرة مرة، وتكررت كلمة العذاب سبع مرات؛ وهذا شيء يخص سورة القمر دون سائر السور؛ حيث لم تتكرر هاتان الكلمتان بهذا الشكل في أية سورة من السور.

ولعل هذا القدر من الكلام يكفينا لإدراك ما نحن بصدده من أن هناك جوانب وأطرافاً من البلاغة القرآنية العالية المعجزة لا يطّلع عليها إلا من يدمن النظر في نظام الآيات، ويلتمس الوشائج التي تربط المعاني بعضها برقاب بعض.

ومما يروى في كتب السيرة أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه وكلٌّ لا يعلم مكان صاحبه؛ فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا؛ فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا؛ فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً…(8).

لقد كانت تمر بنا تلك القصة وأمثالها في كتب السيرة فكنا نتحيّر: كيف كان يحرص الأعداء على سماع القرآن مع شدة عداوتهم وحنقهم على الإسلام؟

وما الذي كان يسوقهم إليه سوقاً في جنح الظلام؟

وكيف كانوا يؤخذون بروعة آياته وجمال أسلوبه مع أنّ العداوة تعمي العيون وتصم الآذان؟

ولكن لم يطُلْ بنا الزمان حتى تعرفنا على فكرة النظام فانقشعت عنا الحيرة، وعرفنا أن هذا القرآن ينطوي في نظام آياته ورباط معانيه على عالم عجيب من الروعة والجمال؛ بحيث لا يكاد يصبر عنه من يتذوق اللسان ولو قد جعلته العداوة من أعمى العميان.

فسبحان ربنا الرحمن الذي كرّمنا بهذا القرآن وفضلنا به على سائر الأقوام.

 

الهوامش:

(1) رتاجا مرتجا:أي بابا مغلقا.

(2) في ظلال القرآن، تفسير سورة القمر.

(3) السمود: الغفلة واللهو والتكبير. (لسان العرب، مادة سمد).

(4) فتح القدير، 5/127.

(5) رواه مسلم، ح/187.

(6) اثناء الوشاح: قواه وطاقاته، ومفرد أثناء: ثني ومثناة ومثناة.(لسان العرب، مادة ثنى).

(7) الزبر: الكتاب.

(8) انظر: مثلا الروض الأنف، للسهيلي،

المصدر: رواد التميز

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.