بيعة الخليفة في عهد الخلافة الراشدة

الخميس،7 ربيع الاول 1435ه الموافق 9 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

عائشة علي

بيعة الخليفة في عهد الخلافة الراشدة

نشأت دولة المسلمين الأولى في عهد النبوة؛ لتضيء ظلمات الاستبداد الإنساني، والطغيان السلطاني، وتشرق بأنوار الحرية والكرامة؛ فقد قامت دولة المسلمين الأولى على أسس المساواة والعدالة، وعلى قواعد ثابتة من دعامات الديمقراطية والشورى والحرية، وبمنهجها الحكيم، ومؤهلها السليم، أنشأت للعدالة قصرًا مَشيدًا، ونظامًا رشيدًا.

 

فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لم يفرض سلطته بالعَنْوة أو بالقوة، ولم يستخلف بالحَمِيَّة أو بالعنصرية، وإنما أسَّس نظام سلطته وَفْق عهود سياسية، وتحالفات عسكرية، وبما يتناسب مع مفهوم الديمقراطية، فقَبْل أن يهاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون إلى يثرب – المدينة المنورة – عَقَدَ اتفاقيات وعهودًا مع أهل يثرب، ففي السنة الحادية عشرة اجتمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بجماعة من أهل يثرب – المدينة – وعرض عليهم الإسلام، فاستجابوا وأسلموا، وفي المواسم التالية عقَدت وفود المدينة المنورة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – بيعتين بالتناوب، ففي السنة الثانية عشرة للبَعثة، التقى الرسول – صلى الله عليه وسلم – باثني عشر رجلاً قَدِمُوا من المدينة جاؤوا مسلمين، فبايعهم – صلى الله عليه وسلم – وبايعوه في العقبة، وسُمِّيَت بيعة العقبة الأولى، وفي السنة الثالثة عشرة للبعثة، وعند تلك العقبة، اجتمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما يُقدَّر بحوالَي ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، فبايعوه عن قومهم على النصرة له – صلى الله عليه وسلم – ولدعوته، وذلك ابتغاء مرضاة الله والجنة.

 

فعن عبادة بن الصامت، أن أسعد بن زرارة قال: يا أيها الناس، هل تدرون علامَ تبايعون محمدًا – صلى الله عليه وسلم -؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس، فقالوا: نحن حَرْبٌ لمن حارب، وسِلْم لمن سالَمَ، قالوا: يا رسول الله، اشترِط، قال: ((تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، وأن لا تُنازِعوا الأمرَ أهلَه، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم))؛ (مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد – لنور الدين الهيثمي – 9895).

 

ووَفْقًا لتلك الاتفاقيات والبيعات هاجَر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه إلى المدينة المنورة، واستقبلهم أهل المدينة بابتهاج وإكرام، وبكل حفاوة واحترام، والتفَّ أهل المدينة جميعًا، واجتمعوا حول الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقدَّموه عليهم؛ ليقيم لهم شؤونهم بما يصلح لهم أمور دينهم ودنياهم.

 

وكانت هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه خوفًا من أعدائه كُفَّارِ مكة، وفرارًا من أمراض أوغادهم، وسموم أحقادهم؛ فقد تحمل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه من الأذى ما لا يطاق، واصطبر كثيرًا على استفزاز المستكبرين، وعلى استدراج المتغطرسين؛ لذلك اضطر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون إلى الهجرة إلى المدينة المنورة؛ صونًا لأنفسهم من أغلال المحن وقيود الفتن، وعلى الرغم من رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – للإنسانية واعتماده مبدأ السلمية، وفراره والمسلمين إلى المدينة، فإن الأعداء وحلفاءهم لم يهدأ لهم بال، ولم يتركوا للرسول والمسلمين مجالاً، فتمادَوا في عُنْجُهِيَّتِهم، ونقضوا عهودهم، وحينئذ رخص الله تعالى لنبيه في الدفاع عن نفسه؛ وذلك بقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: 194].

 

فبعدئذ تهيأ الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون للقتال، وأخذوا يُعِدُّون العُدَّة لمدافعة عدوهم، وحماية وطنهم، وأما أولئك الذين لم يحاربوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين، فقد عهد لهم الإسلام بحفظ كرامتهم، وتعزيز حريتهم، فقطع بذلك على العدوانية مسارها، وعلى العنصرية معيارها، وقد عمل الرسول – صلى الله عليه وسلم – على تفعيل روح البر والإحسان للإنسانية كافة، متمثلاً قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8].

 

وظل الناس في دولة النبوة ينعمون بالسلامة والأمان، والألفة والوئام، تحت عناية ورعاية نبي الله محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ فقد أقام لهم الحق والعدل، ووضع عنهم الذُّل والظلم، فكان – صلى الله عليه وسلم – الأبَ الشفيق، والصاحب الرفيق، الولي الرحيم، والناصح الأمين.

 

وبعد مرور عشر سنوات فُجِعَت المدينة المنورة بوفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، واشتدت على الناس وطأة الموقف، وعِظَم الواقعة، وهول المصاب، واستمر الحزن والأسى يعصف بكل زوايا مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولم تهدأ العاصفة إلا وبدأت تتكشف خطورة انكسار الهِمَّة، وضياع الأمة، وفراغ السلطة، فتنبَّه لذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فلا بد للناس مِنْ حاكم يقودهم، يُيَسِّر لهم معاشهم، ويؤدي لهم حقوقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، ويصون لهم كرامتهم، ويقاتل عدوهم، مما حَدَا بالصحابةِ الكرام رضوان الله عليهم إلى المسارعة لعَقْد الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، فسبقت الأنصار، ثم تبعهم المهاجرون، وكان ممن حضر هناك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين، وفي السقيفة جلس الجميع تحت زخات من النقاش الندي، والتشاور الودي، والاتفاق شبه الكلي على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه للبيعة، واعتباره أحَقَّ بها وَأهْلَهَا.

 

وقصة بَيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد بيَّنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنه: “قد كان من خَبَرِنا حين تَوَفَّى اللهُ نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطَلِق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لَقِيَنَا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقرَبوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينَّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مُزَّمِّل بين ظهرانَيْهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعدُ؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم – معشر المهاجرين – رهطٌ، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردتُ أن أتكلم – وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر – وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك فكرهت أن أُغْضِبَه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلمَ مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها، حتى سكت فقال: ما ذكَرْتُم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رَضِيتُ لكم أحد هذين الرجلين، فبايِعُوا أيهما شئتم – فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا – فلم أكره مما قال غيرَها، كان والله أن أُقدَّمَ فتُضرَب عنقي، لا يُقرِّبُني ذلك من إثم، أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّرَ على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسوِّل إلي نفسي عند الموت شيئًا لا أجِدُه الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّك، وعُذَيقُها الْمُرَجَّب، منا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللَّغَط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ من الاختلاف، فقلت: ابسُطْ يدك يا أبا بكر، فبسَط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعَتْه الأنصار”؛ البخاري (6830).

اقرأ أيضا  حكومة مقاطعة نوسا تينجارا الشرقية تبذل جهودا لمكافحة التقزم في مرحلة الطفولة

 

هذا ما كان من يوم السقيفة، وما خلُص إليه ذلك الاجتماع من أمر البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن الأهمية ملاحظته أن يوم السقيفة كان يوم مشاورة مَرْضِيَّة، وقناعة زكية، فكان يومئذ يومَ برد وثلج على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم؛ فمصالح البلاد والعباد هي التي سارعت في جمعهم، وقارعت عزمهم، وخلصت إلى حزمهم، وهي التي ربطت ذلك الجمع وعقدته بحبل الله، فلم تُفَرِّقْه، ولم تبدِّدْه، ولم تقطعه، على الرغم من حضور التباين والاختلاف حضورًا لافتًا في ذاك الاجتماع، فلم يدفعهم للحضور، ولم يُنادِهِم للنفور لا الثروة، ولا الشهوة، ولا الشهرة، بل على النقيض من ذلك، إنما هو الإيمان بالمسؤولية، والخروج عن الفوضوية، إنهم الصحابة المقرَّبون، الأوائل السابقون لمدرسة النبوة، وقد سطعت نجومهم بالعدل والأمانة في ظلمات الطغيان والخيانة.

 

وفي اليوم التالي، وفي المسجد النبوي اجتمع الناس على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبايعوه للخلافة؛ قال الزُّهْري عن أنس بن مالك: “سمعت عمر يقول لأبي بكرٍ يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صَعِد المنبر، فبايعه الناس عامة”؛ رواه البخاري (7219).

 

وهكذا تمت البيعة للصِّدِّيق رضي الله عنه بأخذ البيعة له من الناس عامة عن رضا نفس، وطِيب خاطر؛ إذ لم ينسَ ولم يستهن أحد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بواجب أخذ البيعة من الناس لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل التزموا مبدأ شورى الأمة، وأخْذِ البيعة منها لتمام صحة البيعة، وتفعيل شرطها الأساسي؛ إذ لا تصح خلافة أحد كائنًا من كان إذا لم يبايعه الناس عامة عن قبول ورضا، فبيعة الناس عامة هي بند هام للبيعة الفاصلة، والخلافة الراشدة.

 

وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد اهتم ببيان تلك المسألة وأجمل في إيضاحها، وفي إثر ذلك كانت له قصة رواها البخاري رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت أُقْرِئُ رجالاً من المهاجرين، منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنًى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إليَّ عبدالرحمن، فقال لو رأيتَ رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر، لقد بايعت فلانًا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتةً فتمَّت، فغضب عمر، ثم قال: إني – إن شاء الله – لَقَائمٌ العشيةَ في الناس فمُحَذِّرهم، هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطَيِّرُهَا عنك كُلُّ مُطَيِّرٍ، وألا يعُوها، وألا يضعوها على مواضعها، فأَمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة، فإنها دار الهجرة والسُّنة، فَتَخْلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقولَ ما قلْتَ متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله – إن شاء الله – لأقومَن بذلك أولَ مقام أقومه بالمدينة، قال ابن عباس، فقَدِمْنا المدينة في عقب ذي الحجة”؛ البخاري “ص 2504 – 2505“.

 

وفي تكملة لقصة ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن عاد إلى المدينة المنورة، خطب في الناس، ومما قال في تلك الخطبة: “إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعْتُ فلانًا، فلا يغتَرَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتَمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شَرَّها، وليس منكم من تُقطَع الأعناقُ إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين، فلا يُبَايَع هو ولا الذي بَايَعَهُ، تَغِرَّةً أن يُقْتَلا”؛ البخاري “ص-2506“.

 

فبعد أن علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن مجموعة من الناس اتفقوا أن يعطوا البيعة لأحدهم، وذلك فيما يسعون إليه بعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأنكر عليهم ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشد الإنكار، فلم يَدَعِ المسألة تمر مر الكرام، ولم يترك الأمر للتوقُّعات والافتراضات، بل أدرك جيدًا رضي الله عنه مدى أهمية تلك المسألة، وضرورة بيانها، حتى لا تخرج بيعة الخلافة عن مقصدها الصحيح، مما قد يدفع بأمر الرئاسة أو الخلافة في مرمى مجموعة من الأفراد يتقاذفونها دون علم ولا فهم، فاشتد عازمًا رضي الله عنه على أن يُبَيِّن للناس أُسُس وضوابط البيعة الصحيحة، فهذه هي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تثبيت شورى الأمة، خاصة الشورى في البيعة، وتحديد أركانها، وتأسيس قاعدتها، وتعزيز بنيانها، لكن البعض قد يسأل هنا:

اقرأ أيضا  دعوة أممية للمحافظة على الوضع الراهن في القدس وتجنب التوترات

هل وصل عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة على ذلك الأساس؟

 

وهل أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد من المسلمين بالخلافة من بعده، أم ترك الأمر لشورى الناس عامة؟

ولكي نحصل على الإجابة الصحيحة نستحضر ما ورد إلينا من حديث بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، قال: “لما نزل بأبي بكر رضي الله عنه الوفاة دعا عبدالرحمن بن عوف، فقال أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو – واللهِ – أفضل مِنْ رَأْيِكَ فيه من رجل، ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه، لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لِنْت له أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا، قال: نعم، ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبدالله، أخبِرْني عن عمر، قال: أنت أَخبَرُ به، فقال أبو بكر: علي ذاك يا أبا عبدالله، قال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنْ ليس فينا مثلُه، قال أبو بكر رضي الله عنه: رحمك الله يا أبا عبدالله، لا تذكر مما ذكرْتُ لك شيئًا، قال: أفعَلُ، فقال له أبو بكر: لو تركْتُه ما عَدَوْتُكَ، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئًا، ولوددت أني كنت خِلْوًا من أموركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم، يا أبا عبدالله، لا تذكُرَنَّ مما قلْتُ لك من أمر عُمَرَ، ولا مما دعوتُك له شيئًا“.

 

وروى الطبري أيضًا عن أبي السفر قال: “أشرف أبو بكر على الناس من كَنِيفِهِ وأسماءُ بنت عُمَيْسٍ ممسكته موشومةُ اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلَوْتُ من جهد الرأي، ولا وَلَّيْتُ ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سَمِعْنا وأطعنا”؛ تاريخ الطبري.

 

إذًا، لم نُغَالِ إن قلنا: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصل للخلافة وَفْق منهج الشورى، ولنبدأ بتحليل هذه المسألة.

 

فهل استبد أبو بكر الصديق رضي الله عنه برأيه؟

ألم يستفتِ أبو بكر الصديق رضي الله عنه الناس حينما أشرف عليهم ذات يوم؟

 

وهل اعترض الناس على بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أم أعطَوْه البيعة؟

 

لقد ظل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقارن ويقارب بين ما يراه في عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مؤهِّلات الحاكم الحازم، والخليفة العادل، وبين ما تحتاجه دولة المسلمين من حزم وعدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي النهاية انتصرت فِراسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت في محلها، وهذا الاختيار يُحْمَد لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فبعدئذ أثبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهل لتلك المهمة؛ فقد كانت خلافته خلافة ملهمة.

 

لقد كانت لبيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه خصوصياتها، كما أن بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لها خصوصياتها أيضًا، كما أوردناهما عرضًا، وكذلك بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه لها خصوصيتها، وهذا ما سيتضح بعد.

 

فلما طُعِنَ عمر بن الخطاب، قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين له: ” ﴿ اسْتَخْلَفَ ، فعندئذ أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه إن ترك أمر الاستخلاف والشورى، لأخَذ البيعة من الناس مباشرة دون إرشادهم، ودون تنسيقهم، وقد يُرْدِيهم التخبط والاختلاف بينهم في هاوية الانقسام والتفرق، فتُحَطِّمهم صخور التبدُّد والتمزُّق، فحينذاك كان ستة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مؤهَّلِين للخلافة ومتقاربين مكانةً ومنزلةً، وصار هؤلاء الستة من الصحابة هم من يؤرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن يحير أفكاره، فعندما حضرت وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزم على أن يخص بوصيته في أمر الاستخلاف هؤلاء الستة من الصحابة رضوان الله عليهم؛ ليتفقوا ويعهدوا بأمرِ البيعة بالخلافة لفرد واحد، يختاره الستة فيما بينهم خاصة، وبعدئذ يرجعون إلى شورى الأمة عامة، وذلك استحقاقًا لهؤلاء الستة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لِما كانوا عليه من الفضل والكرامة، فهم مَن بشَّرَهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالجنة، وتُوُفِّي – صلى الله عليه وسلم – وهو راضٍ عنهم، فكانوا بتلك الخاصية محلَّ ثقة باقي الصحابة، وإليهم تتطلع رقاب العامة، فلم يوجد بين الناس حينها من له من المؤهِّل ما يدانيهم في المكانة، أو ما ينافسهم على المنزلة.

 

ولِنَعْزُوَ ذلك نذكرُ ما ورد في رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “إنه قيل لعمر بن الخطاب: أوصِ يا أمير المؤمنين، استخْلِفْ، قال: ما أجد أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين تُوفِّي رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنهم راضٍ، فسمى عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا وعبدالرحمن”؛ صحيح البخاري 5: 267.

 

وفي تكملة لتلك الرواية: “فلما فُرِغَ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبدالرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلْتُ أمري إلى عَلِيٍّ، فقال طلحة: قد جعلْتُ أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلْت أمري إلى عبدالرحمن بن عوف، فقال عبدالرحمن: أيُّكُما تَبَرَّأ من هذا الأمر فنَجْعَله إليه، واللهُ عليه والإسلامُ، لينْظُرَنَّ أفضَلَهُم في نفسه؟ فَأُسْكِتَ الشيخان، فقال عبدالرحمن: أفتجعلونه إلى الله، عليَّ ألا آلُوَ عن أفضلِكم، قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لكَ قرابةٌ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والقَدَم في الإسلام ما قد علمت، فاللهُ عليك، لئن أمَّرْتُك لتعدِلَنَّ، ولئن أمَّرْتُ عثمان لتسمَعَنَّ ولتُطِيعَنَّ، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علِيٌّ، وولج أهل الدار فبايعوه”؛ “ر 1328“.

 

ولم يتأخر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثانِيَ مَن بايع عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فقد روى البخاري أن عَلِيًّا رضي الله عنه بايع عثمان بعد عبدالرحمن بن عوف مباشرة، ثم بايع الناس بعده”؛ البخاري “3700“.

اقرأ أيضا  من مشكاة النبوة: خير الناس

 

ونخلص من هذا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه هو المرشح للخلافة، بعد أن حصل على بيعة كافة الخمسة الذين عهد إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالنظر والتشاور في أمر خلافة الناس، وكان اتفاق أولئك الستة من الصحابة رضوان الله عليهم هو مقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عهد إليهم بالتشاور والاتفاق على بيعة واحد منهم، حتى يتيسر الأمر للناس عامة؛ فإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على بيعة خليفة واحد، وذلك الأمر هو الذي هيأ لالتفاف الأمة على عثمان بن عفان رضي الله عنه وعقد البيعة له، وببيعة الناس عامة لعثمان بن عفان رضي الله عنه تكتمل البيعة، وتُعهَد إليه الخلافةُ.

 

وقد روى البخاري أيضًا قصة بيعة الناس عامة لعثمان بن عفان رضي الله عنه: “أن عبدالرحمن أرسل على من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد – وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر – فلما اجتمعوا تشهَّد عبدالرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرْتُ في أمر الناس، فلم أرَهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلَنَّ على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله، وسنة رسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبدالرحمن، وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون”؛ البخاري “7207“.

 

وكذلك ما نلحظه من بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعلى الرغم من اختلاف الروايات الواردة عن تلك البيعة فإنَّ جميع الروايات تتفق على التزام وتعَهُّد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشورى الناس عامة، وأخذ البيعة منهم مباشرة، وإحدى تلك الروايات ما رواه الطبري في تاريخ الطبري، عن الشعبي قال: “أتى الناسُ عليًّا، وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسُطْ يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا؛ فإن عمر كان رجلاً مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا، يجتمعُ الناس ويتشاورون، فارتد الناس عن علي“.

 

وروى الطبري أيضًا عن أبي حارثة محرز العبشمي، وعن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغسَّاني قالا: “لما كان يوم الخميس – على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان – جمعوا أهل المدينة، فوجدوا سعدًا والزبير خارجَيْن، ووجدوا طلحة في حائط له، فلما اجتمع لهم أهل المدينة، قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلاً تُنَصِّبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون، فقال علي: دعوني، والتمسوا غيري، فقالوا: ننشُدُك الله، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله؟ فقال: إنْ أَجَبْتُكم ركبْتُ بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فإنما أنا كأحدكم، إلا أنِّي أسَمَعُكُم وأَطْوَعُكُم لمن ولَّيْتُموه أمرَكم، ثم افترقوا على ذلك، واتَّعَدُوا الغَدَ؛ أي: يوم الجمعة، فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، جاء علي حتى صعِدَ المنبر فقال: “يا أيها الناس – عن ملأٍ وَإِذْنٍ – إن هذا أمرُكم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرْتُم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد”، فقالوا: “نحن على ما فارقناك عليه بالأمس”؛ ج2 -352-353“.

 

هذه هي البذرة الأساسية للخلافة الراشدة التي جاءت على منهاج النبوة، والتي بصلاحها صلاح نمو النبت والزرع، ومنها تفرَّع الزهر والثمار؛ فالبيعة التي تقوم على الشورى للناس عامة هي البيعة الصالحة الكاملة، وهي نواة الحرية، وبها ازدهرت خلافة الصحابة، وعليها تستقيم نُظُم السياسة وأحكام العدالة.

 

ونخلص من هذا البحث أن الخلافة الراشدة جاءت على عدة أوجه، وهي:

• بيعة خاصةِ الصحابة قبل بيعة الناس؛ وذلك لتنسيق وتهيئة بيعة الناس فيما بعد.

 

• كذلك عهد الخليفة السابق لمن يخلفه بعد موته، وذلك بالرجوع أولاً إلى استفتاء الأمة في ذلك الشخص المستخلَف.

 

• وأخذ البيعة مباشرة من الناس عامة، دون تدخُّل سابق من الآخرين.

 

• أن الأصل في بيعة الخلافة وشرطها الأساسي هو شورى الناس عامة وبيعتهم.

 

• لا يجوز لكائن من كان أن يستبد بأمر الخلافة والبيعة دون الرجوع إلى شورى الناس.

 

• إن الخصوصيات التي كانت لبعض من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إنما جاءت لتأكيد التنوُّع، والتيسير في أنظمة الحُكم، وَفْق ظروف ومقتضيات أحوال الناس.

 

لقد قدمَتِ الخلافةُ الراشدة نموذجًا حضاريًّا فريدًا من نوعه في تلك الحقبة الزمنية؛ إذِ اعتمَدَت وأقرَّت شورى الناس عامة في بيعة الخليفة، ولم تعهد لجهة ما أو لأحد ما، بأن يفرضوا على الناس آراءهم، أو أن يستبدوا بقرار الخلافة دون الرجوع إليهم؛ فالناس هم أهل الحق، وهم أصحاب القرار، والخليفة إنما هو عامل عندهم؛ ليقوم عليهم، ويرعى مصالحهم، وبذلك تكون قد رسخت للسياسة والخلافة أهم مبدأ لتفعيل حرية الإنسان، وتطبيق عدالة الأحكام، وقد أكد رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وعزز صحة بيعة الخلفاء الراشدين، تلك البيعة التي قامت على مبدأ شورى الأمة، والتي سماها الرسول – صلى الله عليه وسلم – “خلافة على منهاج النبوة“.

 

فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلْكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا جَبْرِيًّا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت))؛ مسند أحمد (4ت: 273).

 وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


المصدر: الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.