الخلافة الراشدة والحقائق العظيمة

الثلاثاء،17 ربيع الثاني 1435ه الموافق 18 شباط / فبراير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

استمعتُ إلى خطبة يوم الجمعة في الأسابيع الماضية عن سيرة الخليفة الراشد والمصلح الكبير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وفيها إبراز معالم العدل والإحسان والتجديد والإصلاح على منهاج النبوة في خلافته في نهاية القرن الأول الهجري ولم تتجاوز سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام ولم يتجاوز عمره أربعين سنة ، وبعد هذه الخطبة المباركة بدأتْ هذه السيرة العظيمة تجول وتصول في خاطري في أغلب أوقاتي ورسمتْ في خيالي صورة عظيمة متجددة لمعالم وطبيعة هذه الخلافة الراشدة ، فبدأت أقرأ بعض الكتب في مكتبتي الخاصة وتوقفتُ كثيراً متأملاً تلك الخطبة الأولى التي ألقاها على الأمة الإسلامية عندما تولى الخلافة وصعد على المنبر وقال : ( أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ) فصاح الناس صيحة واحدة : ( قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فوّل أمرنا باليمن والبركة) ثم قال : ( أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب ، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة ، ألا إني لست بقاض، ولكني منفِّذ ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً . أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، و إلا فلا يقربنا : يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا – ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: – يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . وإنَّ من حولكم من الأمصار والمدن فإنْ هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم ، وإن هم نقموا فلست لكم بوال ) ثم نزل من على المنبر وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في ذلك اليوم.

اقرأ أيضا  محمد: نبي الرحمة ورجل المحبة والسلام

وأثناء قراءتي لهذه السيرة المباركة التي فيها نصرةٌ للكتاب والسنة والعمل بهما والإهتمام بالحياة الإجتماعية والأمنية والعلمية والعملية والدعوية والإصلاحات المالية والقضائية ودقة التخطيط والتنظيم الإداري والوقاية من الفساد بجميع أنواعه ، توقفتُ كثيراً متأملاً ومتعظاً عند تلك الخطبة الأخيرة التي ألقاها على الأمة الإسلامية عندما صعد على المنبر وقال : ( أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ألا واعلموا أنما الأمان غداً لمن حذر الله وخافه، وباع نافذا بباق ، وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتغيبِّونه في صدع من الأرض، ثم تدَعَونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم غني عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وودت أنه سُداي ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء، وأيم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته ) ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله.

اقرأ أيضا  الأطفال الذين يدخنون في إندونيسيا يهددون مستقبل الأمة

ولم تمض أيام بعد هذه الخطبة وتأتي ساعة الإحتضار لهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فقال : (اخرجوا عني فلا يبقين عندي أحد – فخرج من كان عنده وقعدت زوجه فاطمة وأخوها مسلمة على الباب فسمعاه يقول – : مرحباً بهذه الوجوه التي ليست وجوه إنس ولا وجوه جآن ثم قال : ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) .

هذه هي الخلافة الراشدة فمن صحت بدايته صحت نهايته ولكن الأمر العظيم الذي شدَّ انتباهي ماكان بين هذه البداية والنهاية في تطبيق الشريعة والحقائق العظيمة ؛ منها كما في قوله تعالى : ((وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)) وقوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) وقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) وقوله تعالى: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)) وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) وقوله تعالى:((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) وقوله تعالى:((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) وقوله تعالى:((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)) وقوله تعالى:((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)). 

اقرأ أيضا  %90من أراضي "كفر الديك" صادرها الاحتلال

وختاماً … إنَّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة ، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بالدعاء له ومدحه والثناء عليه.

المصدر:البشرى

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.