تحديد الربح ومدى مشروعيته

            د. شمسية بنت محمد

باحثة في الأكاديمية العالمية للبحوث الشرعية في التمويل الإسلامي – إسرا

الخميس،25جمادى الأولى1435ه الموافق27 آذار/مارس 2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا“.

المقدمة

 لتحديد الربح علاقة وثيقة بالتسعير ، و ذلك لأن التسعير يتضمن تحديد الربح، فهو وسيلة لتحديد الربح، بل يمكن القول إن تحديد الأسعار أي التسعير الجبري معناه تحديد الربح. وتأييدا لذلك، أسوق أقِوال بعض العلماء المعاصرين؛ يقول محمد عودة سلمان: “على أن الاتفاق على جواز تدخل الدولة لنزع ملكية بعض الأفراد إذا اقتضت الضرورة يدل على جواز تدخلها من باب أولى لتحدبد مقدار الربح وقت الغلاء عن طريق تحديد الأسعار“.[1] وبقول العينين: ” والتسعير من بين الوسائل التي تتأتى عن طريقها مراقبة أرباح التاجر، ولا شك أنه من أهمهما في هذا العصر.”[2] ويقول أحمد دويدار: “إن تحديد الربح معناه تحديد الأرباح.”[3]

هذا، والجدير بالذكر أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية نص يجعل للربح حداً معيناً، أو نسبة معلومة – ثلثاً أو رابعاً أو خمساً أو عشراً-، يتقيد بها ولا يزاد عليها، بل ثمة أدلة على مشروعية الربح إلى مائة في مائة فأكثر.

وفيما يلي أعرض الأدلة التي تدل على أن الأصل في الربح عدم تحديدها بل يجوز للتاجر أن يحصل عليه إلى مائة في مائة فأكثر. ومن تلك الأدلة نذكر ما يلي:

أ – ما رواه البخاري عن شبيب بن غرقدة قال: ((سمعت الحيّ يتحدثون عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه!))[4].

ب – ما رواه الترمذي عن حكيم بن حزام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حكيم ابن حزام يشتري له أضحية بدينار، فاشتري أضحية فأربح فيها ديناراً. فاشتري أخرى مكانها. فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال: ضح بالشاة وتصدق بالدينار[5].

 فالحديثان السابقان يدلان على مشروعية الربح مئة في المئة حتى إنه صلى الله عليه وسلم في حديث عروة دعا له بالبركة في بيعه، فلو لم يجز، لما دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة.

 ومن الأدلة على مشروعية الربح إلى أكثر من مئة في المئة، ما رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال:

لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمتُ إلى جنبه فقال: يا بنيَّ لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوما و إن من أكبر همّي لديني، أفترى يُبقي دَينُنا من مالنا شيئا. فقال: يا بنيَّ، بع ما لنا، فاقض دَيني، وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه – يعني بني عبد الله بن الزبير، يقول: ثلث الثلث – فإن فضلَ من مالنا فضل بعد قضاء الدَّين فثلثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير – خبيب وعباد – وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله: فجعل يوصيني بدَينه ويقول:  يا بنيّ إن عجزتَ عن شيء منه فاستعنْ عليه مولايَ.  قال:  فوالله ما دريت ما أراد حتى قلتُ:  يا أبت من مولاك؟  قال:  الله.  قال:  فوالله ما وقعتُ في كربة من دَينه إلا قلت:  يا مولى الزبير اقض عنه دينه،  فيقضيه.  فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع ديناراً ولا درهما،  إلا أرضين منها الغابة،  وإحدى عشرة داراً بالمدينة،  ودارين بالبصرة،  وداراً بالكوفة،  وداراً بمصر.

اقرأ أيضا  الكويت: الحل العادل للقضية الفلسطينية بقرارات الشرعية الدولية

 قال: وإنما كان دَينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا،  ولكنه سلف،  فإني أخشى عليه الضيعة.  وما وليَ إمارةً قَطُّ ولا جبايةَ خراجٍ ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. قال عبد الله بن الزبير فحسبتُ ما عليه من الدَّين فوجدته ألفي ألفٍ ومائتي ألفٍ قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال:  يا ابن أخي! كم على أخي من الدَّين؟ فكتمه فقال: مائة ألفٍ.  فقال حكيم:  والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله:  أرأيتك إن كانت ألفي ألفٍ؟  قال:  ما أراكم تطيقون هذا،  فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي.  قال:  وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف. فباعها عبد الله بألف ألفٍ وستمائة ألف. ثم قام فقال:  من كان له على الزبير حق فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر – وكان له على الزبير أربعمائة ألف – فقال لعبد الله:  إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا.  قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم.  فقال عبد الله: لا. قال:  قال:  فاقطعوا لي قطعة.  قال عبد الله:  لك من هاهنا إلى هاهنا.  قال فباع منها فقضى دينه فأوفاه،  وبقي منها أربعة أسهمٍ ونصف، فقدم على معاوية – وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير، وابن زَمْعَة – فقال له معاوية:  كم قوِّمت الغابة؟  قال:  كل سهم مائة ألف.  قال: كم بقي؟  قال: أربعة أسهم ونصف.  فقال المنذر بن الزبير:  قد أخذت سهما بمائة ألف.  وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف.  وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف.  فقال معاوية : كم بقي؟  فقال: سهم ونصف.  قال: أخذته بخمسين ومائة ألف.  قال:  وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف.  فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير:  اقسم بيننا ميراثنا.  قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه.  قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم. فلما مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث فأصاب كل امراة ألف ومائتا ألف.[6]

اقرأ أيضا  الوكالة الوطنية لمكافحة الإرهاب تحث الدعاة الشباب على نشر رسالة السلام

 فحديث عبد الله بن الزبير هذا يدل على أن أباه الزبير بن العوام اشترى أرض الغابة بمئة وسبعين ألفا (70000) فباعها ابنه عبدالله بن الزبير بألف ألف وستمائة ألف، أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها.

يقول القرضاوي تعليقاً على حديث عبد الله بن الزبير: ” والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صحابي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذ تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك على إجماعهم على الجواز.”[7]

 هذه هي بعض الأدلة التي تشير إلى مشروعية الربح مائة في المائة فأكثر.

 والسؤال:  إذا كانت الأدلة السابقة تدل على مشروعية الربح بغير حد، فهل يعني ذلك عدم مشروعية تحديد نسبة معينة من الربح؟

 للإجابة عن هذا السؤال، أقول:  إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الربح مائة في المائة لعدم وجود مبرر أو مسوغ لمنعه أو تحديده، لأن عروة وحكيم بن حزام حصلا على الربح بطريق صحيح أي عدم وجود غش ولا تدليس ولا خداع ، ونحو ذلك في معاملتهما، كما أنه صلى الله عليه وسلم في حديث التسعير امتنع عن فرض السعر عندما سأله الناس، لعدم وجود مبرر لذلك في حينها. وامتناعه هذا لا يعني أن التسعير ممنوع قطعاً. وكذلك هنا (أي في حديث عروة وحكيم)، فإجازة النبي صلى الله عليه وسلم للحصول على الربح إلى مائة في المئة، لا يعني أنه أجازه على الاطلاق. فلا يصح الاحتجاج بهما على عدم جواز تحديد الربح، إذ ورد في قضية معينة بظروفها الخاصة فلا يعمّم. وكذلك حديث عبد الله بن الزبير، فقد ورد في قضية معينة، فلا يصح الاحتجاج به على عدم جواز تحديد الريح، فلا يمكن أن يؤخذ من الأحاديث السابقة حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع، لأنه “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان“.[8]

الخلاصة

 ومما تقدم ذكره، تبين أنه قد امتنع الاحتجاج بالأحاديث السابقة على عدم جواز تحديد الربح، بالإضافة إلى ما يستند إليه المجيزون للتسعير من الأدلة،[9] فقد ثبتت مشروعية تحديد الربح. غير أن هذه المشروعية تكون في الظروف الاستثنائية فقط، أو بعبارة أخرى الجواز ليس هو الأصل بل هو استثناء من القاعدة العامة في المعاملات وهي حرية التصرف في الملك.

 ومن ثمّ إن مشروعية تحديد الربح إنما تكون في الظروف الاستثنائية وهي الظروف التي تقضي المصلحة العامة فيها تحديد الربح. فتحديد الربح لا يمكن أن يلجأ إليه ولي الأمر إلا إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.

اقرأ أيضا  أمريكيون يكتشفون الوجه الحقيقي للإسلام

 و إذا كانت المصلحة الخاصة قد روعيت كما ثبت في كثير من الأحاديث و الوقائع  فإن مراعاة المصلحة العامة تكون من باب أولى. و إذا كانت المصلحة العامة هي مناط تحديد الربح  فلا يجوز لولي الأمر أن يحدد الربح إلا في الحالات التي تستدعيها المصلحة العامة. ومن تلك الحالات حالة الاحتكار، وحالة تواطؤ التجار على إغلاء السعر، وحالة الحصر. وقد ذكرت هذه الحالات عند الحديث عن التسعير.

[1]سلمان، محمد عودة، التسعبر في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الإسلامية، ع 44، 1995، ص 355-356.

[2]العينين، حمداتي شبيهنا ماء، تحدبد أرباح التجار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة، ع 5، ج 4، 1989، ص 2848.

[3]دويدار، أحمد، الديمقراطية الاقتصادية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953، ص 133.

[4]أخرجه البخاري في المناقب، باب 28، حديث رقم (3642)، صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت، 1414ه – 1994م، ج 6، ص 775. قال ابن حجر ردا على من زعم أن البخاري أخرج حديث الشاة محتجا به لأنه ليس على شرطه لإبهام الواسطة فيه بين شبيب وعروة: (( لكن ليس بذلك ما يمنع تخريجه ولا ما يحطه عن شرطه، لأن الحي يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ويضاف إلى ذلك ورود الحديث من الطريق التي هي الشاهد لصحة الحديث )). ابن حجر، الإمام أحمد بن علي (ت 852ه)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: عبد العزيز بن الباز، دار الفكر، بيروت، 1414ه – 1994م، ج 6، ص 775.

[5]أخرجه الترمذي في البيوع، باب 24، حديث رقم (1261)، سنن الترمذي، دار الفكر، بيروت، 1414ه – 1994م، ج3، ص 30. وقال حديث حكيم بن حزام لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع، عندي، من حكيم بن حزام.

[6]أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حياً وميتاً، حديث رقم ( 3129)، صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت، 1414ه – 1994م، ج 6، ص 273-274.

[7]القرضاوي، الدكتور يوسف، تحديد أرباح التجار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة، ع 5، ج 4، 1988، ص 1803.

[8]المادة (39) من مجلة الأحكام العدلية.

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.