عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم

السبت،25جمادى الثانية1435الموافق26نيسان/أبريل2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.

الشيخ عائض بن عبدالله القرني

إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 أيها الناس:

إن الأمم والشعوب والدول، تفتخر بعظمائها، وتبني بهم أمجادها وتؤسس التاريخ لمنقذيها، وما علمنا، ولا عرفنا، ولا رأينا، رجلاً أسدى لبني جنسه ولأمته من المجد والعطاء والتاريخ، أعظم ولا أجل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

أما ترى ما يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون والأمريكان بعظمائهم، وعظماؤهم سفكة للدماء، ملاحدة وخونة، بنوا مجدهم على الجماجم والأشلاء، وسقوا زروع تاريخهم بدماء الضحايا والأبرياء، قتلوا الأطفال والنساء، وحاربوا الفضيلة والشرف، ونشروا العهر والرذيلة بين الشعوب.

فحرام حرام، أن يذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع هؤلاء، أو أن يجعل في مصافهم، أو يقارن بهم، إنه – صلى الله عليه وسلم – من نوع آخر، إنه نبي وكفى، إنه رسول فحسب، تلقى تعاليمه من ربه تبارك وتعالى.

والعجيب أنهم مع تعظيمهم لهؤلاء الجبناء، الأذلاء، الرخصاء، يُزرون على نبينا، صلى الله عليه وسلم.

غريب هذا الأمر، وعجيب هذا التصرف.

إِذَا  عَيَّرَ  الطَّائِيَّ  بِالْبُخْلِ   مَادِرٌ        وَعَيَّرَ    قَشّاً    بِالْفَهَاهَةِ     بَاقِلُ
وَقَال السُّهَا لِلشَّمْسِ أَنْتِ كَسِيفَةٌ        وَقَالَ الدُّجَى لِلْبَدْرِ وَجْهُكَ حَائِلُ
فَيَا مَوْتُ  زُرْ  إِنْ  الْحَيَاةَ  ذميمةٌ        وَيَا نَفْسُ جِدِّي إِنَّ دَهْرَكِ  هَازِلُ

الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو أعظم الناس، وإذا سمعت عن عظيم فاعلم أنك إذا رأيته كان أقلَّ مما سمعت، إلا الرسول – صلى الله عليه وسلم – إنه أعظم وأعظم مما تسمع عنه.

واليوم نتحدث عن جانب العبودية في حياته – صلى الله عليه وسلم – كيف عاش عبداً؟ ما هي عبادته – صلى الله عليه وسلم -؟ كيف كانت صلاته؟ كيف كان يصوم؟ ما هو ذكره لله تبارك وتعالى؟

الله – عزَّ وجلَّ – يمدحه في القرآن بالعبودية في أشرف أحواله – صلى الله عليه وسلم – فيقول عنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1].

ويقول عنه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19].

ويقول أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1].

محمد – صلى الله عليه وسلم – أعبد الناس لله، وأشدهم له خشية.

يقول الله له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
يعني الموت لا كما قال المنحرفون: اعبد ربك حتى تتيقن بوحدانيته ثم اترك العبادة، وقد كذبوا على الله، إنما المعنى: اعبد ربك في الشتاء والصيف، في الحلِّ والترحال، في الصحة والسقم، في الغنى والفقر، حتى يأتيك الموت.

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1-5].

يا أيها المزمل قم لإصلاح الإنسان، يا أيها المتدثر في لحافه، قم لهداية البشرية، يا أيها المزمل في فراشه، قم لهداية الإنسانية، فقام – صلى الله عليه وسلم – ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام ولا استراح، أعطى الإسلام دمه ودموعه، أعطى الدعوة ماله وكيانه، أعطى الإسلام ليله ونهاره، فما نام ولا فتر ولا هدأ، حتى أقام لا إله إلا الله.

يأتيه الحزن والهم والغم، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال))[1] أي: بالصلاة، تأتيه المصائب والكوارث فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) تأتيه الفواجع والزلازل فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) يموت أبناؤه وأحبابه وأصحابه، ويقتل جنوده، ويهزم جيشه، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)).

اقرأ أيضا  العقيدة الإسلامية: أهمية العقيدة ودورها الخطير في حياة الإنسان

يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))[2] ما كان يرتاح إلاَّ إذا قام يصلي، إذا قال الله أكبر، كبر بصوت تكاد تنخلفع لصوته القلوب، فيضع يده على صدره فيكون الله أعظم من كل شيء؛ لأنه الكبير – سبحانه وتعالى – فيقف متواضعاً متبتلاً متخشعاً متذللاً أمام الواحد الأحد.

يقول عبد الله بن الشخير: دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجدته يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء[3] والمرجل: القِدْرُ إذا استجمع غلياناً.

ويقول حذيفة: قام – صلى الله عليه وسلم – يصلي صلاة الليل بعد العشاء، قال: فدخلت معه في الصلاة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يسجد عند المائة فختمها، فافتتح سورة النساء فاختتمها، فافتتح سورة آل عمران ثم اختتمها، لا يمرّ بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا استعاذ بالله، ولا بتسبيح إلا سبح، قال: ثم ركع، فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قام فكان قيامه قريباً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده قريباً من قيامه وركوعه، ثم صلى الركعة الثانية قريباً من الأولى[4] ما يقارب الست ساعات أو السبع ساعات مع الفقر والجوع، ومع الجهاد في النهار، ومع الزهد، ومع الدعوة إلى الله، ومع تربية الأطفال، ومع شئون البيت، ست أو سبع ساعات وهو يتبتل إلى الله، تفطرت قدماه، وتشققت رجلاه فتقول له زوجته عائشة – رضي الله عنه – يا رسول الله كيف تفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً))[5].

يقول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: صليت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه[6].

الرسول – صلى الله عليه وسلم – قام ليلة من الليالي فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: ((ويل لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله)).

يسجد – صلى الله عليه وسلم – السجدة الواحدة مقدار ما يقرأ الواحد منا خمسين آية، ويركع الركعة الواحدة مقدار ما يقرأ القارئ منا خمسين آية، هذا في صلاة الليل، يدعو ويبكي إلى الصباح، حتى تسقط بردته من على كتفيه، كما في ليلة بدر، يناجي ربه، ويقرأ كتابه، ويتبتل إلى الله؛ لأن العبادة أقرب باب إلى الله.

ونحن أيها المسلمون في سعد ورغد، في عيش رضيٌّ، في أمن وصحة، الموائد الشهية، المساكن البهية، المراكب الوطية، ومع ذلك نترك صلاة الجماعة إلا من رحم الله، أيُّ أمة نحن، أي كيان نحن، أي قلوب نحملها، إذا لم نقم بالصلوات الخمس كما أرادها الله – عزَّ وجلَّ؟

قال بلال كما روى ابن جرير وابن مردويه: مررت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل صلاة الفجر، فسمعته يبكي فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: ((أُنزلت عليَّ هذه الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها)) قلت: ما هي يا رسول الله، فأخذ يقرؤها ويبكي:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191].

كَيْفَ تَرْقَى  رُقِيّكَ  الأَوْلِيَاءُ        يَا سَمَاءً مَا  طَاوَلَتْهَا  سَمَاءُ
إِنَّمَا  مَثَّلُوا  صِفَاتَك  لِلنَّاسِ        كَمَا   مَثَّل   النُّجُومَ    المَاءُ
حَنَّ جِذْعٌ إِلَيْكَ وَهْوَ جَمَادٌ        فَعَجِيبٌ أَنْ يَجْمُدَ  الأَحْيَاءُ

كان – صلى الله عليه وسلم – يصوم، فيواصل الليل بالنهار ثلاثة أيام أو أربعة أيام، لا يأكل شيئاً فأراد الصحابة أن يواصلوا كما يواصل فقال: ((لا إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني))[7] لا يطعمه طعامً، ولا يسقيه شراباً، إنما حكماً، ومعارف، وفتوحات ربانية، وإلهامات إلهية.

اقرأ أيضا  شيخ الأزهر: السلام هو رسالة الأزهر للعالم

لَهَا أَحَادِيثٌ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا        عَنِ  الطَّعَامَ  وَتُلْهِيهَا  عَنِ  الزَّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ  نُورٌ  تَسْتَضِيءُ  بِهِ        وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي  أَعْقَابِهَا  حَادِ

يصوم – صلى الله عليه وسلم – في السفر وقد التهب الجو، قال أبو الدرداء – رضي الله عنه – كنا في شدة الحر حتى والله الذي لا إله إلا هو، إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة حرارة الشمس، وما فينا صائم إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وابن روحة.

يجلس مع الصحابة، فيقول لابن مسعود – رضي الله عنه -: ((اقرأ عليَّ القرآن))، فيندفع يقرأ عليه حتى بلغ قوله – تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41] قال: ((حسبك)) قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه تذرفان[8]، وفي رواية: فإذا دموعه تسيل على لحيته – صلى الله عليه وسلم.

يبكي – صلى الله عليه وسلم – تواضعاً لله تبارك وتعالى – وشفقة على هذه الأمة.

قالت عائشة – رضي الله عنه – استفقت ليلة من الليالي فبحثت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول:

((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))[9].

 أيها المسلمون:

متى يقدّم الإنسان للقبر ما لم يقدم هذه الليالي؟! متى يصلي إذا لم يصل هذه الأيام؟! متى يذكر الله إن لم يذكر الله في هذه الأوقات؟!

إذا دفن الإنسان فلن يصلي عنه أحد، ولن يصوم عنه أحد، ولن يذكر عنه أحد.

أَتَيْتُ     الْقُبُورَ      فَنَادَيْتُهَا        فَأَيْنَ   الْمُعَظَّمُ    وَالْمُحْتَقَرْ
تَفَانَوْا  جَمِيعاً   فَمَا   مُخْبِرٌ        وَمَاتُوا جَمِيعاً وَمَاتَ  الْخَبَرْ
تَرُوحُ  وَتَغْدُوا  بَنَاتُ  الثَّرَى        فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ

رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو أعبد الخلق لله، وأشدهم له خشية، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك أجهد نفسه في العبادة، في صلاة الليل، في الذكر، في تلاوة القرآن، في التسبيح والتهليل.

فتمسكوا – رحمكم الله – بهديه، وعضوا على سنته بالنواجذ، ففي الأثر الإلهي: لو جاءوني من كل طريق واستفتحوا عليّ من كل باب، ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 أيها الناس:

نقل عن الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – أن المارَّ إذا مرَّ بهم في السّحر سمع لبيوتهم دويّاً كدوي النحل، من البكاء وقراءة القرآن والدعاء، هذا في مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعاءٌ، وبكاءٌ، ومناجاةٌ وقت السّحر، فما هو حالنا مع حالهم؟! كيف نعيش بالنسبة إليهم؟ إن تلك التلاوة، وذاك الدعاء، وهذا البكاء من خشية الله، أبدل في بيوتنا – إلا من رحم الله – بالغناء والموسيقى والعود والوتر.

روى ابن أبي حاتم أنه – صلى الله عليه وسلم -: كان يمر في ظلام الليل يتفقد أصحابه، كيف كانوا يصلون، وكيف كانوا يدعون، كيف كانوا يبكون، فسمع عجوزاً تقرأ من وراء الباب وتبكي، عجوز مسنة، تقرأ قوله – تعالى -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] تبكي وتعيد الآية وتبكي، فوضع رأسه على الباب وبكى – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: ((نعم أتاني، نعم أتاني)) هذه عجوز ضعيفة، فأين شباب الأمة، أين أهل القوة والعضلات، أين أهل البروز والإجادة؟

إن القويَّ هو القويُّ في طاعة الله، وإن المفلح هو السائر في طريق الله، وإن المتقدم هو المتقدم إلى مرضاة الله، إذا علم هذا فإنه – صلى الله عليه وسلم – في جانب الذكر كان أكثر الناس ذكراً لله – تبارك وتعالى – نفسه ذكر لله، وفتواه ذكر لله، وخطبه ذكر، وكلامه وليله ونهاره، وحركاته وسكناته ذكر لله – تبارك وتعالى.

اقرأ أيضا  أثر حسن الظن في التماسك الاجتماعي

قال ابن عباس – رضي الله عنهما – كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا قام من الليل يتهجد قال:

((اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))[10].

وعن عائشة – رضي الله عنه – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا قام من الليل افتتح صلاته:

((اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[11].

هل سمعتم بعد كلام الله أحسن من هذا الكلام، ما أجمل وقت السحر، يوم تناجي الله، يوم ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داعٍ فأجيبه.

يقول محمد إقبال شاعر الإسلام:

“يا رب لا تحرمني أنَّة السّحر، يا رب اجعلني من البكائين الخاشعين لك في السحر، يا رب إذا حرمتني جلسة السحر فإن قلبي يقسو ولن يلينه شيء”.

 فيا عباد الله:

هذا هو الرسول – صلى الله عليه وسلم -: في عبادته، في صلاته وصيامه، في قراءته وذكره، وهو أسوتكم وقائدكم إلى الجنة، ونجاتكم مرهونة بإتباعه، وعقدكم وسيركم إذا لم يكن على سنته، فهو الهلاك والدمار، وهو العار والخسار، في الدنيا والآخرة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

فيا من أراد الجنة، يا من أراد النجاة: يا من أراد الفلاح، يا من أراد الخير والعدل والسلام، والله ليس لك قدوة، لا زعيم، ولا رائد، ولا مصلحٌ، ولا إمامٌ، ولا عابدٌ، ولا منقذٌ، ولا معلم، إلا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 أيها الناس:

وصلوا وسلموا على مَنْ ضوعنا المجلس بذكره – صلى الله عليه وسلم – فقد أمركم بذلك ربكم فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. 


[1]   أخرجه أبو داود (4/296)، رقم (4985، 4986)، وأحمد في المسند (5/364، 371)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).

[2]   أخرجه النسائي (7/61، 62)، رقم (3939، 3940)، وأحمد في المسند (3/128، 199، 285)، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله – كما في صحيح الجامع رقم (3098).

[3]   أخرجه أبو داود (1/238) رقم (904)، والنسائي (3/13) رقم (1214) وأحمد في المسند (4/25، 26).

[4]   أخرجه مسلم (1/536، 537) رقم (772)، وأحمد في المسند (5/384، 397).

[5]   أخرجه البخاري (2/44)، ومسلم (4/2171)، رقم (2819، 2820).

[6]   أخرجه مسلم (1/537) رقم (773).

[7]   أخرجه البخاري (2/232، 242، 243)، ومسلم (2/774) رقم (1102، 1103).

[8]   أخرجه البخاري (5/180).

[9]   أخرجه مسلم (1/352) رقم (486).

[10]   أخرجه البخاري (2/41، 42) ومسلم (1/532، 533) رقم (769),

[11]   أخرجه مسلم (1/534) رقم (770).

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.