الدلائل العلمية .. الإعجاز العلمي عند النبي
الثلاثاء،28جمادى الثانية1435الموافق29نيسان/أبريل2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
د. محمد بن عبدالسلام
ونعني بذلك النصوص في الكتاب والسنة المتعلقة بالعلوم الدنيوية، التي لم تُكتشف وتُعرف إلا في الأزمنة المتأخرة، والتي اصْطُلِح عليها مؤخرًا بـ(الإعجاز العلمي في القرآن والسنة).
فلقد ظهر الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أُمة ليسوا من أهل العلم، بل كانت الجهالة غالبة عليهم، ولم يتَّفق له الاتِّصال بأهل العلم في زمانه، فإذا نبَت في هذه البيئة، ثم بلغ في معرفة الله وصفاته وأفعاله وأحكامه هذا المبلغَ العظيم، وجاء بكتابٍ يحتوي على حقائق مختلف العلوم، مما يَعجِز الأذكياءُ من العلماء أن يُحيطوا بها – فإن ذلك يَحمل كلَّ ذي عقل سليمٍ وطبعٍ قويم على الإقرار بأن هذا العلم الفذَّ لا يتيسَّر لأحد من البشر إلا بتعليمٍ إلهي خاص، والقرآن يقرِّر أن تلك العلوم لم يكن بوسْع النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا بوسع قومه أن يُحيطوا بها أو يَعلموها قبل أن ينزل القرآن بها، فيقول: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، وتأمَّل في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
فهذا يُثبت بما لا شكَّ فيه أُميَّة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهو لا يعرف الكتابة أصلاً، ولا يقرأ إلا ما يَنزل عليه من الوحي بتلقين من المَلَك، ولم يَثبت تعلُّمه للقراءة أو الكتابة، ولو ثبَت شيء من ذلك، لتناقَله أعداؤه؛ ليتوصَّلوا به إلى الطعن في الكتاب المُنزَّل عليه، ولكنه أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يتلو على الناس كتابًا يحوي علوم الأوَّلين والآخِرين، ويُعجِز ذوي العقول والألباب وأرباب البلاغة والبيان أن يأتوا بشيء من مثله؛ مما يدل دَلالة قاطعة على أن هذا الكتاب من عند الله تعالى، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يَنطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌّ يُوحى.
ولقد سبَق القرآن الكريم والسنة النبوية العلمَ الحديث بذكر حقائقَ علميةٍ كثيرة، لم يَكتشفها العلماء إلا في العصر الحديث، فتعالَوا لنعيش مع أمثلة لهذه الحقائق والآيات، وذلك من خلال:
1- آيات في النفس والخَلْق.
2- آيات في الكون.
أولاً: آيات في النفس والخلق:
قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
وقال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].
إذا نظَر الإنسان إلى نفسه وتفكَّر في بِنيَته، وأعضائه وحواسِّه، ثم تساءل: كيف خُلِق؟ وكيف بلَغ ما هو عليه؟ لوجَد العجب العُجاب في عظمة هذه الخلقة؛ كيف سُوِّيت، وكيف تتم العمليات المعقَّدة العظيمة داخله وخارجه؟! ولذلك فإن الوقوف على آيات الله في النفس والخَلْق، كفيلٌ بالتسليم بقدرة وعظمة الخالق، ولله دَرُّ من قال: نظرُك فيك يَكفيك!
فتعالَوا معًا في رحلة داخل الإنسان؛ لنَستخلص منها دلائلَ دامغةً، وأدلة راسخة على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى.
الجنين وأطواره:
ولنبدأ هذه الرحلة بمثلٍ عظيم، ألا وهو الجنين، فتعالَوا لنتعرَّف على الجنين وأطواره، وكيف تخبَّط العلماء والباحثون في هذا المجال في نظريات خاطئة حتى بلغوا إلى الحقيقة الثابتة بالمشاهدة والبحث؛ ولكن متى كان هذا؟! كان منذ أقل من قرن واحد فقط!
وعلى الجانب الآخر نرجع إلى ما ورَد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من القرآن والسنة؛ حيث أخبرنا بهذه الحقائق من أكثر من أربعة عشر قرنًا.
لنبدأ بنُبذة عن تطوُّر الأَجِنَّة في الجانب البحثي:
لقد كان الاعتقاد السائد لأكثر من ألف وثلاثمائة سنة بعد عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنَّ نموَّ الأجِنة يقوم على نظريتين:
النظرية الأولى: نظرية الخَلْق المُسبق، والتي تَعني أن الجنين إنما يكون على هيئته في رَحمِ الأم من البداية، ثم يَكبَر حتى اكتمال نموِّه.
النظرية الثانية: نظرية الخلق المتفرِّد؛ أي: إن الجنين إنما ينشأ من أحد الأبوين لا من كليهما، وانقسَم القائلون بهذه النظرية إلى فريقين:
الفريق الأول: قال بأن المَنشأ يكون من الأمِّ، ودور الأب فقط هو تنشيط النمو، وأصحاب هذا الفريق اختلفوا على ثلاثة أقوال:
1- أن المنشأ يكون من دمِ الحَيض.
2- آخرون قالوا بأن الجنين يوجد على هيئته في بُويضة الأنثى، ثم يبدأ في النمو بسبب الرجل؛ (قال بهذه النظرية العالم مليسجي 1675م).
3- طائفة ثالثة قالت بنظرية أن الجنين هو من إفراز رَحم الأم؛ (قال بهذه النظرية العالم هاريفي 1651م).
أما الفريق الثاني: من أصحاب نظرية الخلق المتفرِّد، فقالوا بعكس ما قال به الفريق الأول؛ حيث قالوا بأن الرجل وحده هو مصدر الجنين، ثم يَكبَر في رحم المرأة، (وتبنَّى هذه النظرية العالمان هارمان وواينهوك 1677م)؛ حيث تخيَّلا أن الجنين يوجد على هيئة قزمٍ صغير في رأس الحوين المنوي – الحيوان المنوي – وأن رحمَ المرأة كالأرض الزراعية يَنبت ويَكبر فيها الحوين المنوي.
ثم كان أول من أشار إلى أهميَّة كلٍّ من الحوين المنوي للرجل وبويضة المرأة في عملية تخلُّق الإنسان، هو العالم سبالانزاني (1775م) (1176 هـ).
وبعد ذلك توالَت الاكتشافات العلمية، والتي أثبتت دور كلٍّ من الرجل والمرأة في تكوين الجنين، وذلك بعد اكتشاف (الميكروسكوب المكبِّر) “المِجهر“، وبعده (الميكروسكوب الإلكتروني)، حتى توصَّل العلماء منذ أقل من قرن فقط إلى الحقيقة العلمية الثابتة بالمشاهدة والدراسة والمتابعة،وهي تشمل ركنين أساسيين؛ هما:
1- أن الجنين يُخلَق من كلٍّ مِن الرجل والمرأة.
2- أنه يمرُّ في تخلُّقه بأطوار ومراحلَ؛ طَورٍ بعد طورٍ، ومرحلة بعد مرحلة، وشكْل بعد شكلٍ.
وبعدُ، فهذه الحقيقة التي وصل إليها العلماء مؤخرًا، قد نقلها لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من خلال القرآن والسنة النبوية؛ بدقة متناهية، وتفصيلٍ دقيق، وتعبير مُعجز، وذلك منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، ولا عجَب في ذلك؛ لأنه هو الحق الواضح الذي ذُكِر في القرآن والسنة كما سنبيِّن لاحقًا، وهذا الحق كان وحيًا يوحى به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليس بكلام بشرٍ.
وتعالَوا لنقف مع بعضِ ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة عن هذه الحقيقة العظيمة:
1- الركن الأول من هذه الحقيقة، وهو أن تخليق الجنين يكون من كلٍّ من الرجل والمرأة؛ قال الله – سبحانه – عنه في قرآنه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات: 13]، وقال الله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾ [النجم: 45 – 46].
وقد ورد ذلك أيضًا في السنة النبوية المطهرة في قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا سبَق ماءُ الرجل ماءَ المرأة، نزَع الولد، وإذا سبَق ماءُ المرأة، نزَعت))[1]. والآيات والأحاديث التي تدل على حقيقة تخليق الجنين من كلٍّ من الرجل والمرأة كثيرة[2].
2- الركن الثاني لهذه الحقيقة، والمتعلِّق بخلْق الإنسان أطوارًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 – 14].
وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14]، وقال تعالى: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ﴾ [الزمر: 6].
وبهذا يُقرِّر لنا القرآن الكريم – في أكثر من موضع – حقيقةَ أن الإنسان يُخلَق أطوارًا، وتعالَوا لنعيش مع تفاصيل هذه الأطوار بدقة وتعبير مُعجزٍ، بحيث لا يمكن الاستعاضة عنه بتعبير آخرَ، وذلك مع آيات سورة “المؤمنون” التي ذكرناها؛ حيث بيَّنت الآياتُ هذه الأطوارَ ووصَفتها على النحو التالي:
أ- طور النطفة:
قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾، والنطفة تُطلق كما قال علماء اللغة[3] على:
1- الماء القليل ولو قطرةً، وقد أُطلِقت على مَنيِّ الرجل ومَني المرأة.
2- وتُطلق النُّطفة كذلك على امتزاج ماء الرجل والمرأة، وهي ما سمَّاها القرآن: النطفة الأمشاج؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [الإنسان: 2]، وهذه هي البويضة بتطوُّراتها العديدة، والتي لا تزال تأخذ شكْل قطرة الماء، ولها خاصية الحركة الانسيابية كقطرات الماء تمامًا، وهذا ما يُسميه علماء الأجِنة بالزيجوت، والتي تعني بترجمتها الحرفية: اللقيحة، وانظر إلى عظمة التعبير القرآني لهذه اللقيحة بالنطفة الأمشاج؛ حيث إن كلمة أمشاج مشتقَّة من المَشْج، وهو الشيء المختلط بعضُه ببعضٍ؛ كما قال ابن كثير في تفسيره، ونقل قول ابن عباس – رضي الله عنهما – في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾؛ أي: من ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا[4]، فانظر إلى إعجاز القرآن باستخدام هذا اللفظ، فمن الذي علَّم نبيَّنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – ذلك؟!
وينتهي هذا الطور بتعلُّق الكيسة الأريمية ببطانة الرَّحم في نهاية الأسبوع الأول من التلقيح، بعد تضاعُف خلاياها أضعافًا مضاعفة وتغليفها (النطفة الأمشاج أو اللقيحة) بكيس؛ ولذلك سُمِّيت بالكيسة الأريمية، وعند تعلُّقها ببطانة الرحم، تَفقد حركتها الانسيابية وتتحوَّل إلى طَورٍ جديد، هو طور العَلَقة، وهذه الحقيقة الثابتة الدقيقة التي نقلها لنا القرآن الكريم، هي التي توصَّل إليها العلماء مؤخرًا.
ب- طَور العلَقة:
قال تعالى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ﴾.
لهذا الطَّورِ عدة أشكال منذ بَدئه حتى نهايته، وكلمة “علَقة” مشتقَّة من علق، وهي كما قال المفسرون وعلماء اللغة تعني:
1- الالتصاق والتعلُّق بشيءٍ ما، وهذا ما يتوافق مع تعلُّق الجنين ببِطانة الرَّحم خلال الأسبوع الثاني.
2- يطلق العلَق على الدمِ عامة، وكذلك الدمُ الجامد، وعلى الشيء شديد الحُمرة، وهذا أيضًا يتوافق مع شكل الجنين في هذا الطور؛ حيث تتكون الأوعية الدموية المُقفلة والمُمتلئة بالدماء خلال الأسبوع الثالث من التلقيح.
3- وتُطلق العلقة كاسمٍ لدودة في الماء تمتص الدمَ، وتعيش في البِرَك، وتتغذَّى على دماء الحيوانات التي تَلتصق بها، وجمع علَقة: عِلَق.
ويقول ابن كثير – رحمه الله تعالى – في قول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ﴾: أي: سيَّرنا النطفة علقةً حمراءَ على شكل العلقة المُستطيلة، وقال بهذا القول غيره من المفسرين، وهذا يتوافق مع الشكل الأخير لهذا الطور؛ حيث يأخذ الجنين شكلَ الدودة التي تمتصُّ الدماء، وتعيش في الماء، ويَشترك الجنين معها في قوة تعلُّقه بعائله، والحصول على غذائه من امتصاص دمائه، والمدة الزمنية لهذا الطور هي من بداية الأسبوع الثاني وحتى نهاية الأسبوع الثالث من التلقيح.
فانظر إلى دقة وعظَمة التعبير القرآني عن هذه الحقيقة التي ذكَرها، ولم يتوصَّل إليها العلماء إلا منذ أقل من قرنٍ فقط، فتبارَك الله أحسنُ الخالقين.
ج- طَور المُضغة:
قال تعالى: ﴿ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾.
في بداية الأسبوع الرابع – وبالتحديد في اليوم الثاني والعشرين – يبدأ القلب في النبْض وينتقل إلى طور جديد، وهو طَور المُضغة.
والمضغة كما يقول أهل اللغة والتفسير – ومنهم ابن كثير في تفسيره – حيث يقول: مضغة؛ أي: قطعة كالبُضعة من اللحم، لا شكْلَ فيها ولا تخطيط[5]، قدْر ما يَمضُغ الماضغ.
وهذا يتوافق مع الجنين في أول هذا الطور؛ حيث يتراوح حجمه من حبَّة القمح إلى حبة الفول (5,3 مم)، وهو القدر الذي يمكن مَضغه، ويبدو سطحه من الخارج وقد ظهرت عليه النتوءات أو الكُتَل البدنية، والرأس والصدر والبطن، كما تتكون معظم براعم أعضائه الداخلية، مع احتفاظه بالشكل الخارجي المشابه للمادة الممضوغة، بحيث يصدق عليه أنه مخلَّق وغير مخلَّق، وسبحان الله الذي وصَفه هذا الوصف الدقيق المتناهي في الدقة، في قوله تعالى في سورة الحج: ﴿ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [الحج: 5]؛ لنبيِّن لكم؛ أي: لتُشاهدوها؛ كما قال ابن كثير وغيره[6].
وفي هذا النص دَلالة على أن التخليق يبدأ في هذا الطور، وهذا ما يتطابق تمامًا مع ما توصَّل إليه علماء الأجِنَّة مؤخرًا منحقيقةِ أن التخليق يبدأ من أول الأسبوع الرابع، ولو اطَّلع البشر على ما جاء في القرآن وبحثوا فيه، لاختَصروا الكثير من الزمان؛ ليَبلغوا هذه الحقائق الثابتة، فسبحان من خلَق الخلق، وقال – جل جلاله -: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، وينتهي هذا الطور قبل الأسبوع السادس؛ حيث يبدأ الطور التالي في التخليق، وهو طَور العظام.
د- طور العظام:
قال تعالى: ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ﴾.
يتشكَّل الجنين في هذا الطور على هيئة مخصوصة، وتَزول صورة المضغة عنه، ويَكتسب صورة جديدة؛ حيث يتخلَّق الهيكل العظمي الغضروفي، وتظهر أُولى مراكز التعظيم في الهيكل الغضروفي في بداية الأسبوع السابع، فيتصلَّب البدن، وتتحيَّز الرأس من الجِذع، وتظهر الأطراف، وقد قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره عن هذا الطور: أي شكْلها ذات الرأس ويدين ورجلين بعِظامها وعَصبها وعروقها[7].
فانظر إلى هذه الدقة وهذا الإعجاز في الوصف القرآني، وهو يَصف ما توصَّل إليه العلماء بعد الجُهد والمعاناة وطول الزمان، فسبحان الذي خلَق فسوَّى، ثم بعد ذلك يبدأ الجنين الطَّور الأخير من التخليق، وهو كِساء العظْم باللحم.
هـ- طور كساء العظم باللحم:
قال تعالى: ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ [المؤمنون: 14].
في هذا الطَّور يزداد تشكُّل الجنين على هيئة أخصَّ، وقد قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره في قوله تعالى: ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾؛ أي: جعَلنا على ذلك ما يَستره ويشدُّه ويُقوِّيه[8]، وكذلك قال الشوكاني؛ أي: أنبتَ الله – سبحانه – على كل عظمٍ لحمًا على المقدار الذي يَليق به ويناسبه، وكذا قال غيرهم.
هذا بدقَّته وتفصيله ما بلغ إليه علماء علم الأجِنَّة مؤخرًا، من أن العظام تُخلَق في نهاية الأسبوع السابع، وتُكسى بالعضلات في الأسبوع الثامن، وتخلُّق العظام وكساؤها باللحم – بعدما سبَق من أطوار – هي الحقيقة الراسخة التي ذكرها القرآن، فسبحان مَن أحسَن كلَّ شيء خلَقه.
وبهذا تنتهي مرحلة التخليق، والتي يُسميها علماء الأجنة بالمرحلة الجنينية، هذا وقد أكَّد علم الفحص بأجهزة الموجات فوق الصوتية، أن جميع التركيبات الخارجية والداخلية الموجودة في الشخص البالغ، تتخلَّق من الأسبوع الرابع وحتى الأسبوع الثامن من عمر الجنين، كما يمكن أن ترى جميع أعضاء الجنين بهذه الأجهزة خلال الأشهر الثلاثة الأولى.
ثم يبدأ الجنين بعد الأسبوع الثامن مرحلة أخرى مختلفة، يُسميها علماء الأجنة بالمرحلة الحميلية، والتي سماها القرآن الكريم من قبلُ: مرحلة (النشأة خلقًا آخر)؛ ولذلك يُعتبر طَور كساء العظم باللحم الحدَّ الفاصل بين المرحلة الجنينية والمرحلة الحميلية.
و- مرحلة النشأة خلقًا آخر:
قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ [المؤمنون: 14].
تبدأ هذه المرحلة في الأسبوع التاسع؛ حيث ينمو الجنين ببُطء إلى الأسبوع الثاني عشر، ثم ينمو بعد ذلك بسرعة كبيرة، وتستمر هذه المرحلة حتى نهاية الحمل، وتختص بخصائص، من أهمها: تطوُّر ونمو أعضاء وأجهزة الجنين؛ وذلك لتَهيئتها للقيام بوظائفها، وتختص أيضًا بنفْخ الروح فيها؛ (كما عند جمهور المفسرين).
واسمع لابن كثير في تفسيره وهو يعبِّر عن هذه المرحلة: أي: ثم نفَخنا فيه الروح، فتحرَّك وصار خلقًا آخرَ ذا سمعٍ وبصرٍ، وإدراك وحركة، واضطراب[9].
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذا في موطنٍ آخرَ، فقال تعالى في سورة “الانفطار“: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 7، 8]، وكلمة (سوَّاك) تعني: جعل الشيء مستويًا ومستقيمًا ومهيَّأً لأداء شيء معين، والتعديل في اللغة يعني: التقويم، فكلمة (فعدلك) تعني: تغيُّر الشكل والهيئة لتكوين شيء محددٍ، وكلمة (صورة) تعني: هيئة أو شكل؛ كما قال علماء اللغة.
فسبحان الله! الذي ذكَره القرآن هو ما وصل إليه علماء الأجنة بدقته، ولكن منذ أقل من ستين سنة فقط؛ حيث وصلوا إلى أن حقيقة التسوية تبدأ عقب عملية الخلق في المرحلة الحميلية؛ أي: بعد الأسبوع الثامن؛ حيث يستقيم الجنين وتتهيَّأ أعضاؤه لأداء وظائفه، ويتَّخذ الجنين المقاييس الطبيعية – التعديل – كما تتغير مقاييس الجسم، وتتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة، ويكتسب الجنين الصورة الشخصية له – التصوير – فسبحان الذي أعطى كل شيء خلْقه ثم هدى[10]!
وبعدما تلمَّسنا التطابق الدقيق والبالغ بين ما ذكَره القرآن الكريم من حقائقَ متعلقة بتكوين الجنين، وبين ما بلَغ إليه علماء علم الأجنة مؤخرًا – وذلك من خلال البيان الموجز السابق – نقف الآن مع ملامح عابرة لبعض أوجه الإعجاز في آيات سورة “المؤمنون” التي وقَفنا معها، والمتأمل لهذه الآيات سيجد إعجازًا بالغًا للتعبير القرآني الكريم، ومن ذلك:
1- استعمال أدوات العطف المناسبة لكل مقام وحال، فقد جاء الترتيب والتعقيب بـ (ثم) – والتي تفيد الفصل والتراخي والتباعد – في المراحل التي تستلزم ذلك، وجاء العطف بالفاء التي تفيد التعقيب المباشر والترتيب والسرعة، بمعنى العطف بلا مُهلة ولا تراخٍ، في المراحل التي تستلزم ذلك، فانظر وتدبَّر وتأمَّل إلى ترتيب الآيات ونسَقها؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 – 14].
2- استعمال ألفاظ تدل على معانٍ مشتركة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ ﴾ [المؤمنون: 13]، وجعلنا من الجعْل، فهو يفيد معنى الوضع، كما يشمل ضمنًا معنى الخلق، فانظر إلى مناسبته بهذين المعنيين لاستقرار النطفة في موضعها الذي حدده الله تعالى لها، وكما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ [المؤمنون: 14]، ولفظ النشأة يفيد معنيين؛ هما: الإسكان، والنمو، وهو ما يتم في هذه المرحلة من إسكان الرُّوح، ونمو البدن وتَرعرُعه، فسبحان من أنزَل على نبيِّه هذه الحقائق، وبهذا الإعجاز البالغ، في زمنٍ لم يُعرَف فيه أصلُ تخليق الجنين، فضلاً عن تفاصيل أطواره، فتبارَك الله – عز وجل – أحسنُ الخالقين.
وهذه السنة النبوية تُبين لنا أيضًا هذه الأطوار؛ فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يومًا نُطفةً، ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مُضغة مثل ذلك، ثم يُرسل المَلك، فيَنفُخ فيه الروح، ويُؤمَر بأربع كلمات: بكتْب رزقه، وأجَله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيد))[11].
بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – يُبين لنا ما الذي يجعل المولود يُشبه أباه أو يشبه أمَّه، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا سبَق ماء الرجل ماء المرأة، نزَع الولد، وإذا سبَق ماء المرأة، نزَعت))[12]، ونذكر تعليقات بعض علماء علم الأجنة، ومنها:
1- ينقُل لنا الشيخ الزنداني[13] – حفظه الله – أنه التقى مع عالم من أكبر علماء أمريكا في علم الأجِنة، وهو البروفيسور (مارشال جونسون)، فذكر الشيخ الزنداني له أن القرآن قد ذكر أن الإنسان خُلِق أطوارًا، فتعجَّب تعجُّبًا شديدًا، وقال: لا يمكن أن يكون ذلك إلا بوحي من الله[14].
2- البروفيسور (كيث ل مورس Keith L Moors)، وهو من كبار علماء الأجنة في العالم، يُثبت بالتجارب العملية دقَّةَ الوصف القرآني للمُضغة[15].
وغير هؤلاء الكثير من علماء هذا الباب الذين أُصيبوا بذهول شديد، حينما أُخبِروا بما جاء في القرآن والسُّنة عن حقيقة تخلُّق الجنين، فمنهم من شرَح الله – عز وجل – صدره للإسلام، فأسلَم، ومنهم من أقرَّ بالإعجاز في ذلك، إلا أنه لم يُهدَ للإسلام.
وبعدُ:
فهذا مَثَلٌ واحد من الكثير مما تكلَّم عنه القرآن والسنة النبوية، قبل أن يبلغ إلى حقائقه العلماءُ المتخصِّصون.
دلالات أخرى لبعض آيات الله في النفس:
ولنقف بعد ذلك مع إشارات عابرة عن بعض ما جاء في الكتاب والسنة فيما يخص الإنسان، وذلك من خلال الوحي المنزَّل على نبيِّنا محمد – صلى الله عليه وسلم.
1- البدانة:
لقد حذَّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من السِّمنة والبدانة في مواطنَ عديدة في الكتاب والسنة، منها:
قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسْب ابن آدمَ أُكُلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة، فثُلث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفَسه))[16].
قد توصَّل العلم إلى أن السمنة من الناحية الصحية تعتبر خللاً في التمثيل الغذائي؛ وذلك يرجع إلى تراكُم الشحوم أو اضطراب الغدد الصمَّاء، والوراثة ليس لها دورٌ كبير في السمنة كما يعتقد البعض، وقد أكَّدت البحوث العلمية أن للبدانة عواقبَ وخيمة على جسم الإنسان، وقد أصدرت إحدى شركات التأمين الأمريكية إحصائية تقرِّر أنه كلما طالت خطوط حزام البطن، قَصُرت خطوط العمر، فالرجال الذين يزيد محيط بطونهم عن محيط صدورهم، يموتون بنسبة أكبر، كما أثبتت البحوث أيضًا أن مرض البول السكري يُصيب الشخص البدين غالبًا أكثر من العادي، كما أن البدانة تؤثر في أجهزة الجسم – وخصوصًا القلب – حيث تَحل الدهون محل بعض خلايا عضلة القلب؛ مما يؤثِّر بصورة مباشرة على وظيفته، وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين حذَّر من السِّمنة والتُّخَمة.
وحذَّرت تلك البحوث من استخدام العقاقير لإنقاص الوزن؛ لما تُسببه من أضرار، وأشارت إلى أن العلاج الأمثل للبدانة والوقاية منها، هو اتِّباع ما أمرنا به الله – عز وجل سبحانه وتعالى – بعدم الإسراف في تناوُل الطعام، واتِّباع سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تناول الطعام؛ كما أوضح الحديث الذي نحن بصدده، وجاء تطبيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وبهذا سبَق نبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – العلمَ الحديث منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ حيث أرشد إلى أهمية التوازن في تناول الطعام والشراب، وحذَّر من أخطار الإسراف فيهما على صحة الإنسان.
2- الجذام:
لقد أثبت علم الطب الحديث أن مرض الجذام من أخطر الأمراض الجلدية، ومع ذلك لم يستطع العلم الحديث السيطرة عليه حتى الآن، ومرض الجذام يصيب أطراف الأعصاب؛ مثل: أطراف أعصاب الذراعين، ويجعل المريض يفقد الإحساس، فلا يُحِس بالألم والحرارة والبرودة، بل يمكن أن تدخل الشوكة في قدمه دون أن يشعرَ، فضلاً عن إصابة المريض بضمور في عضلات اليدين والساقين، وقروح في الجلد، خاصة في القدمين واليدين، وتتآكَل عظامهما، وتفقد بعض أجزاء منهما كالأصابع، ويمكن أن يُصيب القرنية، فيؤثر على الإبصار، كما أن له آثارًا مُضرة أخرى.
ومن عظمة التوجيه النبوي الشريف للذين أنعم الله – عز وجل – عليهم بنعمة الصحة، وعدم الابتلاء بهذا المرض: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُديموا النظر إلى المجذومين))[17]؛ لأن المجذوم إذا رأى صحيح البدن يُديم النظر إليه، فتَعظُم مصيبته، وتزداد حَسرته، ومن ثَمَّ فقد جاء النهي عن النظر إليهم رعايةً لمشاعرهم، وأيضًا أدرك الرسول – صلى الله عليه وسلم – خطورة العدوى من مريض الجذام، فأمر الأصِحَّاء بالابتعاد عن المصابين به على الفور، كما يبتعد الشخص عن الأسد المُفترس، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((وفِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد))[18]، ولا سيما أن ميكروب الجذام إذا تمكَّن من الشخص الصحيح، افترَسه.
لقد قيل هذا الحديث منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، ويجيء العلم الحديث ليُوافقه وينصح بالتوجيه النبوي الشريف، فاللهم صلِّ على معلِّم البشرية محمدٍ – صلى الله عليه وسلم.
3- الحُمَّى:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الحُمَّى من فَيْح جهنَّمَ، فأبْرِدُوها بالماء))[19].
وقال – صلى الله عليه وسلم – عندما ذُكِرت الحمَّى، فسبَّها رجلٌ: ((لا تَسبَّها؛ فإنها تُذهب خطايا ابن آدمَ كما يُذهب الكيرُ خبَثَ الحديد))[20].
لقد تبيَّن أنه عند الإصابة بالحمى ذات الحرارة الشديدة، التي قد تصل إلى 41 درجة مئوية، والتي وصفها – صلى الله عليه وسلم – بأنها من فيح جهنَّمَ، قد يؤدي ذلك إلى هياج شديد، ثم هبوط عام وغيبوبة تكون سببًا في الوفاة؛ ولذا كان لزامًا تخفيض هذه الحرارة المشتعلة بالجسم فورًا؛ حتى ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ، وليس لذلك وسيلة إلا وضْع المريض في ماءٍ، أو عمل كمادات من الماء البارد والثلج؛ حيث إنه إذا انخفَضت شدة هذه الحرارة، عاد الجسم كحالته الطبيعية بعد أن ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ، ويقلل هذه الحرارة بوسائله المختلفة – من تبخيرٍ، وإشعاعٍ، وغيرهما – ولذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – إذا حُمَّ دعا بقِربة من ماءٍ، فأفرَغها على رأسه، فاغتسَل، ولَمَّا كانت الحُمى يَستلزمها حمايةٌ من الأغذية الرديئة، وتناوُل الأغذية والأدوية النافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن وتَصفيته من مواده الرديئة التي تفعل فيه كما تفعل النار في الحديد، في نفي خبَثه وتَصفية جوهره – كانت أشبه الأشياء بنار الكِير التي تُصفي جوهر الحديد.
وقد ثبت علميًّا أنه عند الإصابة بالحمى، تزيد نسبة مادة (الإنترفيرون) لدرجة كبيرة، كما ثبت أن هذه المادة التي تُفرزها خلايا الدم البيضاء، تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم، وتكون أكثر قدرةً على تكوين الأجسام المضادة الواقية، فضلاً عن ذلك فقد ثبت أن مادة (الإنترفيرون) التي تُفرَز بغزارة أثناء الإصابة بالحمى، لا تُخلص الجسم من الفيروسات والبكتريا فحسب، ولكنها تزيد مقاومة الجسم ضد الأمراض، وقدرتَها على القضاء على الخلايا السرطانية منذ بَدء تكوينها، وبالتالي حماية الجسم من ظهور أيَّة خلايا سرطانية يُمكن أن تؤدي إلى إصابة الجسم بمرض السرطان؛ ولذا قال بعض الأطباء: إن كثيرًا من الأمراض نَستبشر فيها بالحمَّى كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحُمى فيها أنفعَ من شرب الدواء بكثيرٍ؛ مثل: مرض الروماتيزم المفصلي الذي تتصلَّب فيه المفاصل، وتُصبح غير قادرة على التحرك؛ ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات: الحمى الصناعية؛ أي: إيجاد حالة حُمى في المريض بحَقْنه بموادَّ معينة.
ومن هنا نُدرك حكمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رفض سبِّ الحمى، بل الإشادة بها بوصفها تُذهب الذنوب كما يُذهب الكير خبثَ الحديد؛ كما أشار الحديث الشريف الذي ذكرناه[21].
4- الداء والدواء في الذباب:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، فليَغمِسه، ثم ليَنزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً، والأخرى شفاءً))[22].
وهذه من معجزاته الطبية – صلى الله عليه وسلم – التي يجب أن يُسجلها له تاريخ الطب بأحرفٍ ذهبية، ذِكرُه لعامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحي الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنًا، وذكرُه لتطهير الماء إذا وقع الذباب فيه وتلوَّث بالجراثيم المرَضية الموجودة في أحد جناحيه بغمْس الذبابة في الماء؛ لإدخال عامل الشفاء الذي يوجد في الجناح الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم المرَضية الموجودة بالماء.
وقد وصل العلماء مؤخرًا إلى العلم بحقيقة ما في هذا الحديث، وهو: أنه إذا سقط الذباب في شراب أو طعام، وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم هو مبيد البكتريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء، فدواؤه قريبٌ منه؛ ولذا فإن غمْس الذباب كله وطرْحه، كافٍ لقتْل الجراثيم التي كانت عالقةً به، وكافٍ في إبطال عملها.
كما أنه قد ثبَت علميًّا أن الذباب يُفرز جسيمات صغيرة من نوع الأنزيم، تُسمى باكتريوفاج – أي: مفترسة الجراثيم – وهذه صغيرة الحجم، يُقدَّر طولها بـ 20 – 25 ميللي ميكرون، فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب، وجَب أن تُغمس فيه؛ كي تَخرج تلك الأجسامُ المضادة، فتُبيدَ الجراثيمَ التي تَنقلها.
فهذه الحقيقة التي وصل إليها العلماء مؤخرًا، قد أخبرنا بها النبي – صلى الله عليه وسلم – منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، فمن أين جاء بها النبي محمد – صلى الله عليه وسلم؟!
5- الناصية[23]:
قال تعالى: ﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [العلق: 15، 16]، يقول الشيخ عبدالمجيد الزنداني: كنت أقرأ قول الله تعالى في هذه الآية، فكنت أسأل نفسي وأقول: يا رب، اكشِف لي هذا المعنى، لماذا قلت: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾؟ وتفكَّرتُ فيها أكثر من عشر سنوات وأنا في هذه الحَيرة، إلى أن يسَّر الله البحث الذي كان عن الناصية، قُدِّم من أحد العلماء، وهو كندي الأصل، ومن أشهرهم في علم المخ والتشريح والأجنة، وكان ذلك في المؤتمر الطبي الذي عُقِد في القاهرة.
وقال فيه ذلك العالم:
منذ خمسين سنة فقط تأكَّد لنا أن جزء المخ الذي تحت الجبهة مباشرة الذي في الناصية هو الجزء المسؤول عن الكذب والخطأ، وهو المكان الذي يَصدُر منه الكذب ويصدر منه الخطأ، وأن العين ترى به والأذن تسمع به؛ فكذلك كان هذا المكان الذي يصدر منه القرار، هذا مصدر اتخاذ القرار، فلو قُطِع هذا الجزء من المخ الذي يقع تحت العظمة مباشرة، فإن صاحبه في الغالب لا تكون له إرادة مستقلة، لا يستطيع أن يختار، يفقد سيطرته على نفسه، مثل شخص تُقلَع له عيناه، فإنه لا يرى.
فسبحان الله إذ يقول: ﴿ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾، ثم وجدوا أن هذا الجزء من الناصية في الحيوانات ضعيف صغير؛ لأن الحيوان مركز قيادته وحركة جسمه أيضًا من هذا المكان، وإلى هذا يشير المولى – سبحانه وتعالى – بقوله: ﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ [هود: 56]، وفي الحديث الشريف ما يؤيِّد هذا؛ حيث قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك…)) الحديث[24]، إذًا فالناصية هي مركز القيادة.
هذه الحقيقة التي وصل إليها العلماء مؤخرًا، هي ما بلَّغنا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فمن علَّم النبيَّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – هذا؟![25]
[1]رواه البخاري (4480).
[2]محاضرة عن تاريخ عِلم الأجِنَّة؛ أ.د. مجاهد أبو المجد: الأستاذ بكلية الطب جامعة المنصورة، وعضو الهيئة العالمية للإعجاز العلمي بمكة المكرمة.
[3]ابن منظور في لسان العرب، مادة “نطف”؛ بتصرُّف.
[4]انظر: تفسير ابن كثير (4/ 582) سورة “الإنسان”، انظر: تفسير ابن كثير (3/ 322) سورة “المؤمنون“.
[5]انظر: تفسير ابن كثير (3/ 322) سورة المؤمنون.
[6]نفس المرجع.
[7]انظر: تفسير ابن كثير (3/ 322) سورة “المؤمنون“.
[8]نفس المرجع السابق.
[9]انظر: تفسير ابن كثير (3/ 322) سورة “المؤمنون“.
[10]د.عبدالجواد الصاوي – مدير فرع مكتب جدة للهيئة العالمية للإعجاز العلمي، ونائب رئيس تحرير مجلة الإعجاز العلمي؛ بتصرُّف.
[11]رواه مسلم (2643).
[12]رواه البخاري (4480).
[13]الشيخ/ عبدالمجيد الزنداني: هو رائد منهج الإعجاز العلمي من الكتاب والسنة، وله باع عظيم، ومؤلفات عديدة، وأبحاث كثيرة في هذا المجال، وهو مرجع فيه، فحفِظه الله وجزاه خير الجزاء.
[14]انظر: العلم طريق الإيمان؛ للشيخ عبدالمجيد الزنداني؛ بتصرُّف.
[15]انظر:
Keith L. Moor (1985) Developing Human With Islamic Edition
[16]رواه أحمد (4/ 132- 17225)، والترمذي (2830)، وابن ماجه (3340) عن المقدام بن معديكرب – رضي الله عنه – وصحَّحه الألباني في السلسة الصحيحة (2265).
[17]رواه أحمد (1/ 233 – 2075)، وابن ماجه (3543) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وانظر: الألباني في الصحيحة (164).
[18]رواه البخاري (5707) عن أبي هريرة – رضي الله عنه.
[19]رواه البخاري (3264)، ومسلم (2209) عن ابن عمر – رضي الله عنهما.
[20]رواه مسلم (2575) عن جابر – رضي الله عنه.
[21]المصدر: الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية؛ محمد كامل عبدالصمد.
[22]رواه البخاري (3320) عن أبي هريرة – رضي الله عنه.
[23]الناصية: هي مقدمة الرأس.
[24]رواه أحمد (1/ 391 – 3712) عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – وصحَّحه الألباني في السلسة الصحيحة (199).
[25]المصدر بتصرُّف يسير من كتاب: “وغدًا عصر الإيمان”؛ للشيخ عبدالمجيد الزنداني.