الجدل في القرآن الكريم

الإثنين 30 ذوالحجة1434 الموافق4 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

علي النجدي ناصف  

يدور الجدل في أصله اللغوي على معاني القوة والصلابة وشدة البأس، فالجدل هو العظم الموفَّر لا يُكسر، ولا يُخلَط غيره به، والرجل المجدول الخلق هو المحكم الفتل، المتين التركيب، ويقال: جدَل الشيءُ؛ أي قوِي، وجدل خصمَه: صرعه على الجدالة؛ أي الأرض، وكان من ذلك أن جادله بمعنى ناقشه وخاصمه، وأنَّ الجدل شِدَّة الخُصومة والقُدرة عليها.

والجدل إذًا ضرْبٌ من الخُصومة والمغالبة بالحُجَّة، يثور بين المتجادلين في قضيَّة ليسوا فيها على رأْيٍ جَميع، فيحاول كلٌّ أن تَكونَ له الغلبةُ فيه والانتصار بِما يُدْلِي به من حُجج، ويصطنع فيه من وسائل الإقناع؛ مثلهما كمثل المصطرعين، لا يزال كلاهما بصاحبه يعالج مقاومته حتى ينتصر عليه، ويلقي به على الأرض واهنًا مخذولاً.

لهذا كان الجدل مدعاةَ إثارة، ومظنة هياج، يدفع إلى المخاشنة والسخرية، ويغري بالاجتراء على الحقيقة واستباحة طمسها بالحيلة والافتراء، وربما دفع إلى القتال والانتقام، وهيهات مع هذه الملابسات أن يبلغ الجدل منتهاه، ويؤتي ثمرته المرجاة إلا مع الحلم، وإحسان الظن، ورياضة النفس على الصبر والاحتمال.

 

من أجل ذلك يؤدب الله عباده في شخص رسوله الكريم بما يكفل للجدل أن يصل إلى الحقيقة التي دعتهم إليه، فيقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ويقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، فلم يكتف القرآن في هذه الآية بحثِّ المؤمنين على أن يكون جدالهم لأهل الكتاب بالتي هي أحسن، ولكنه زاد فحث الرسول على مودتهم واستمالة قلوبهم، والمجاهرة بأنهم يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى أنبيائهم، وأنهم وإياهم يعبدون إلهًا واحدًا لا خلاف عليه، وينهى عن الجدال في الحجِّ، ويَجعله فيما ينهى عنه قرين الرفث[1]والفسوق[2]، فيقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وهذه الثلاثة قبيحة مستهجنة في غير الحج، لكن تخصيص الحج يجعلها فيه أشدَّ قبحًا واستهجانًا.

وينهى الرسول – صلوات الله عليه – أن يُماري[3] أهل الكتاب في أهل الكهف، إلا مِراءً ظاهرًا لا عمق فيه ولا مغالبة، يقتصر فيه على ما أوحى إليه فيهم من غير تجهيل لهم، ولا عنف في الرد عليهم، فيقول: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22].
 

وقيل لعبدالله بن الحسن: ما تقول في المراء؟ قال: ما عسى أن أقول في شيء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، فإنَّ أقلَّ ما فيه أن يكون دربةً لِلْمغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة[4].

ويدور جدل القرآن على ضروب من القضايا يكشف عن وجه الحق فيها، وأنواع من الدعاوى الباطلة يدحضها، ويدل على ما بِها من زيف، من ذلك قضية إبليس إذ عصى ربه، وأبى أن يسجد لآدم مع الساجدين، ثم أقبل يُباهي بأصله، ويجادل عن نفسه، ويجاهر بالصد عن سبيل الله، في قحة بالغة، وجرأة جامحة، وذلك إذ يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا[5] مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 11 – 18].

 

ومنها قضية الشرك بالله، واتخاذ آلهة من دونه، كما في قوله سبحانه: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 190 – 195].

اقرأ أيضا  رحلة في إدراك طرف من إعجاز القرآن

ومنها قضية التقليد في العقيدة، والقول بما يقول فيها الآباء بغير هدى ولا كتاب منير، كقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

 

ومن الدعاوى الكاذبة التي أبطلها دعوى بني إسرائيل أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، ولا يؤمنون بغيره، إذ يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].

فالقرآن إذًا لا ينكر الجدل، ولا يضيق به، وإلا فما باله يعول عليه في الإقناع بالتوحيد، وفي مقاومة الشرك، وتقويم الزيغ، ورد دعاوى الكاذبين؟ ولكن الذي ينكره منه هو إرسال الكلام فيه على عواهنه، لا تعززه بينة ولا برهان، ولذا نراه يكرر في غير موضع منه مطالبة المبطلين بما عندهم من حجج تشهد بأنهم صادقون، فيقول: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا[6] أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، ويقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24].

 

وفي هذا تكريم للعقل وإعظام لقدره، ودعوة إلى إعماله في شؤون الحياة، وإقرار بحقه في حرية الرأي، ما دام له سند يعززه ويشد أزره، وإلا كان حقيقًا أن يترك سدى بين الآراء التي لا يعتد بها في أمور الدين والدنيا.

وأكثر جدل القرآن موجز، وهو على وجازته حاسم مفحم، لا يدع مجالاً لمراجعة أو تعقيب، فما هي إلا القولة المقولة أو القضية المعروضة يلقي بها أصحابها من المكذبين حتى تأخذهم الحجة الصادعة، يرسلها الله عليهم خطابًا منه أو أمرًا إلى الرسول أن يقولها حكاية عنه فتدمغهم وتخرس ألسنتهم، لقد زعم الذين كفروا أن الملائكة بنات الله، وأن عبادتهم لها قدر مقدور، ولو شاء الله لصرفهم عنها، فلا ذنب لهم فيها، ولا ملام لهم عليها، فانظر كيف رد الله عليهم أبلغ رد وأوجزه، إذ قالوا بما لا علم لهم به، ولا بينة لديهم عليه، قال عز من قائل: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ[7] * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 19، 21].

 

وإنما يكون الجدل على هذه الصفة حين تكون الحجة قاصمة، والحقيقة دانية، أما حين تكون الحجة واهية، أو الحقيقة قاصية، أو دونها غاشية من شبه أو شكوك، فلا يكون الجدل مباشرًا، يدور على الصميم منها واللباب؛ بل على ما حولها أو يتصل بها من حواشٍ وذيول، وإذًا تكون المطاولة في الحجاج، والاسترسال في الأخذ والرد، إلى أمد غير قريب.

وإذا أبى المعارضون أو بعضهم أن يذعنوا لحجة القرآن في مجادلته لهم، فهم وشأنهم، ولا عليه من ذلك، وحسبه أن هدى إلى الحق، واحتج له بما لا يدع بعده مقالاً لقائل، إلا زورًا ملفقًا وبهتانًا مفترى، والحياة في تطورها، وتقلب الأحوال فيها كفيلة بإقناعهم، وحملهم على محجة الصواب، وإلا فحسابهم على الله يوم يرجعون إليه، فيجزيهم الجزاء الأوفى بما أصروا عليه من  ضلال، وما افتروا من أكاذيب، واجترحوا من آثام.

 

على أنَّ القرآن يجنح أحيانًا إلى إطالة الجدل وبسط الحُجَّة فيه، أطاله في مُحاجَّة المستريبين بالبعث، فذكرهم بنشأتِهم الأولى، ثُمَّ بأطوار حياتِهم منذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم إلى أن يتوفاهم الموت وتحتويهم القبور، ثم ضرب لهم مثلاً من واقع الحياة فيه صورة لبعث الحياة بعد الموت، يتمثل في الأرض الهامدة المقفرة، حين ينزل عليها الماء، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5، 6].

اقرأ أيضا  أطوار خلق الإنسان في القرآن بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي

 

وأطال الجدل كذلك في إنكار الشرك ونفيه والتنديد بأهله، فقد عدد لهم من سوابغ نعمه، وآيات قدرته، والإحسان فيما يعهد الناس وفيما جرت به طبيعة الحي يحمل المرء على أن يقر بفضل المحسن إليه، ويدين له بالحب والوفاء، ويحس بحقه عليه من الشكر والعرفان، وذلك حيث يقول: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ[8] وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا[9] وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 65 – 72].

 

ولا يصطنع القرآن في الجدل والإقناع أقيسة المنطق وما تتألف منه، فمقدمات مسلمة، ونتائج ملزمة، لأنها تقوم على معانٍ مجردة، تنتزع من مداخل ضيقة، فليس يطيقها، وينتفع بها إلا القادرون على استحضار المغيبات، وإدراك الدقائق، أما العامة وأشباههم فلا قبل لهم بها، ولا جدوى لهم منها، ولم يرسل الله رسوله بالإسلام دينًا لأهل المعرفة وحدهم، ولكن جعله دينًا عامًّا لهداية الناس كافة.

وإنما يعول القرآن في الدعوة والإقناع على البرهان الخطابي، فهو البرهان الذي يصلح للعامة، ولا تتجافى عنه الخاصة، وهو بعد يخاطب المشاعر والوجدان، حيث تقر العواطف والغرائز، وتكمن أشواق النفس ومنازعها إلى المثل العالية والقيم الرفيعة؛ من النخوة والحمية، وإباء الضيم، والحفاظ على الحرية، فتسكن معها العقيدة الإلهية، مع ما أوتيت من الطهارة والقدسية وشرف الاتصال الوثيق بالله رب العالمين، طاعة له، ورجاء فيه، وإيمانًا به.

 

ويقيم القرآن هذا البرهان على قاعدتين عظيمتين: توجيه النظر، والدعوة إلى التبصر؛ فأما توجيه النظر فإلى ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله فيهن من  شيء، ليرى الإنسان فيه ما لم يكن يراه، أو ما كان يراه وكأنه لا يراه، لأنه نظر الغفلة والذهول، لا نظر اليقظة والتفكير، وأما الدعوة إلى التبصر، فتنبيه من غفلة، وإيقاظ لحس، لينهض العقل من سباته، وينشط من ركوده، فإذا الكون في رأيه غير الكون، لقد كان يراه قبلاً غفلاً مجردًا، أو صندوقًا مقفلاً، لا يعرف له معنى، ولا يجتلي منه سرًّا، لكنه الآن يراه كتابًا منظورًا، يرى فيه من عجائب الخلق، وبدائع الصنع، ودلائل العظمة البالغة، وآيات القدرة الباهرة، إلى تكاثر الأنواع والأجناس، وإحكام التدبير، وضبط السنن وتحديد الحدود، لا شيء يجاوز حده أو يخلف وعده.

اقرأ أيضا  مفهوم النظر في القرآن الكريم

 

لقد فتح القرآن عينيه على مواطن التدبر والاعتبار، ولم يتركه حائرًا، مشتت النظر، لا يدري من أين يبدأ، ولا إلى أين يتجه؟ وهو حقيق – وقد أثير حسه، ونبه عقله، وألف النظر والتفكير – أن يصير من تدبر الكون حوله إلى تدبر نفسه التي بين جنبيه، ثم إلى النعم التي أسبغها الله عليه فيما بين يديه وما فوق رأسه، وما تحت رجليه، هنالك يرى عيانًا مبلغ كرامته على ربه، ومدى فضل ربه عليه، ومن ذا الذي تستقيم فطرته، ويصح فهمه وتقديره يرى ذلك كله رأي العين، ويعلمه حق العلم، ثم لا يتولى الله، وينيب إليه خاشعًا متبتلاً، وحنيفًا مسلمًا؟

إن هذه دروس هادية، وعبر رشيدة، يدعو القرآن الكريم إلى تلقيها واجتلاء حقائقها نظرًا وملاحظة، وتدبُّرًا وتفكيرًا، لا انقيادًا لذي سلطان، ولا انخداعًا لتخييل وشعوذة، فإذا هي منه عن ينبوع ذاتي أصيل، هو وحده مبعثه وصاحب أمره، لا مدد له ولا انتحال فيه، فيكون إيمانه بها أشد، وحفاظه عليها آصل، يزيدها تمكنًا منه، وثباتًا عنده أن الداعي إليها هو الله رب العالمين في كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

 

وقد استعمل القرآن القياس المنطقي في قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].

وتتصدى الآيتان هنا لوحدانية الله تعالى، فتحتجان لها بالبرهان المنطقي، وليس كمثله شيء في هذا المقام؛ لأن الوحدانية حقيقة مجردة، تعقل ولا ترى، فليس للدهماء بها طاقة، ولا هي مما يستأثر منهم باهتمام كبير، لقد آمن بها من آمن محاكاة وإرثًا، وكل ما في دنياهم بعد ذلك مناقض لها، وداعٍ إلى خلافها.

 

هذه مرافق الحياة ومشاهد العمران تتراءى لهم من كل جانب، فهل قام لشيء منها قائمة، أو جني منه ثمرة بغير مشاركة فيه ومعاونة عليه، وخاصة ما يكون منها أحمد أثرًا، وأعظم بلاء، وأضخم تكونًا؟ ومن يدري لعل الوثنية التي دان الناس بها في جاهليتهم – كان ها هنا منبتهًا ومحياها على مر العصور.

أمَّا وحدانيَّة الله وتصوُّر أنَّها هي وحدها التي يرد إليها صلاح الكون، واستقامة أمره، وإحكام تدبيره – فليست منهم على بال، ولا هم أهل أن يتساموا إليها في آفاقها العالية، إذا هم أخذوا في اعتقادها بالوعظ الخالص وحده، أو التوجيه الرشيد ولا مزيد، لا جدوى معهم إذًا إلا بالمنطق الميسر الحصيف، لا يبعد بهم، ولا يشق عليهم، وهذا هو ما تسعفهم به الآيتان، وتقدمانه لهم على خير الوجوه، لقد جعلتا فيه النتيجة التي يفضي إليها توجيهًا إلى دنياهم، ليدبروا شؤونها، وينظروا في منهج تصريفها، ليروا عيانًا أن أصحاب الأمر فيها قد هدوا على نور من التجربة أن يفردوا بسلطانها الأعلى واحدًا صالحًا من خيارهم، يطمئنون إليه ويثقون فيه غير منازع فيه ولا مشارك، وإلا فالعاقبة خلاف محتدم، ومنازعة مستحكمة، وكيد من ورائه كبير، وبعض هذا مجلبة للفوضى وللفساد والبوار.


 


[1]   الرفث: الفحش في القول. 

[2]   الفسوق: مجاوزة حدود الشريعة. 

[3]   يماري: يجادل. 

[4]   “البيان والتبيين”: 1: 313. 

[5]   مَذْؤُومًا: مذمومًا. 

[6]   هُودًا: جمع هائد، وهو اليهودي. 

[7]   يَخْرُصُونَ: يكذبون. 

[8]   الفرث: بقايا الطعام في الكرش. 

[9]   السكر: كل ما يسكر. 

المصدر: كتاب: “مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة”

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.