وقفة مع آيتين من كتاب الله

الإثنين14 محرم1435 الموافق18 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

 د. أمين بن عبدالله الشقاوي 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:


فنقفُ وقفةً يسيرةً مع آيتين من كتاب الله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 – 3].

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا الخطاب للمؤمنين:

أولاً: لأنهم الذين تنفعهم الذكرى.

ثانيًا: لتطهيرهم وتزكيتهم من الأخلاق السيئة.

قال القرطبي: “جاء الاستفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما إن كان ذلك في الماضي، فإنه يكون كذبًا، وأما في المستقبل، فيكون ذلك إخلافًا بالوعد، وكلاهما مذمومٌ”[1]. اهـ.

قال ابن عباس – رضي الله عنه -: “كان ناسٌ من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله – عز وجل – دلَّنا على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيَّه أن أحبَّ الأعمال إليه: إيمانٌ لا شَكَّ فيه، وجهاد أهل معصيته، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناسٌ من المؤمنين، وشقَّ ذلك عليهم، فأنزل الله الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}”،  وهذا اختيارُ[2] ابن جرير – رحمه الله.

قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي – رحمه الله -: “قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}؛ أي: لم تقولون الخير، وتحثُّون عليه، وربما تَمَدَّحْتُم به، وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشرِّ، وربما نزَّهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوِّثون متَّصفون به؟! ولهذا ينبغي للآمِر بالخير أن يكون أوَّل الناس مُبَادرةً إليه، والنَّاهي عن الشرِّ أن يكون أبعدَ الناس عنه”. اهـ[3].

عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما -: أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يُجاء بالرَّجُل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أَقْتَابُه[4]، فيدور بها كما يدور الحمار برَحاه، فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان، ما شأنُك؟ أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))[5].

اقرأ أيضا  اكتشاف الاعجاز من السنة عن "التراب الطهور"

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مررتُ ليلة أُسريَ بي على قومٍ تُقرَض شفاهُهم بمقاريضَ[6] من نارٍ؛ فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال: خطباءٌ من أمَّتِكَ، يقولون ما لا يفعلون))[7].

قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}: 

قَال الرَّاغب: “المَقْتُ: هو البُغْض الشَّديد لِمَنْ تراه فَعَل القبيح[8]؛ كما في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء: 22].

قال النَّخَعيُّ: “ثلاثُ آياتٍ منعتني أن أقُصَّ على الناس: قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}”[9].

قال إبراهيم التَّيْمِيُّ – رحمه الله -: “ما عرضتُ قولي على عملي؛ إلا خشيتُ أن أكون مُكَذِّبًا”[10].

ومن فوائد الآيتين الكريمتين:

أولاً: استدلَّ بها بعض أهل العلم على وجوب الوفاء بالوعد

عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((آية المنافق ثلاثٌ: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[11].

قال ابن حجر: “أصل الدِّيانة منحصرٌ في ثلاثٍ: القول، والفعل، والنية، فنبَّه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخَلْف”.

وعن عبدالله بن عامر بن ربيعة – رضي الله عنه – قال: أتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا صبيٌّ، فذهبتُ لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله، تعال أُعْطِكَ؛ فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنَّكِ لو لم تفعلي، كُتِبَتْ عليك كذبةً))[12].

اقرأ أيضا  أعمال وأحوال القلب في القرآن الكريم

ثانيًا: إن العلم قرين العمل؛ ولذلك يسأل المرء يوم القيامة عن علمه: ماذا عمل به؟

جاء في حديث أبي بَرْزَة الأَسْلَمي – رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل: عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فعل؟ وعن ماله: من أين أكتسبه، وفيمَ أنْفَقَهُ؟ وعن جسمه: فيمَ أبلاه؟))[13].

وعن جندب بن عبدالله – رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَثَلُ الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كَمَثَل السِّراج: يُضيء للناس، ويحرق نفسَه))[14].

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله -: ((أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة: عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه، فذنبُه من جنس ذنب اليهود)).

ثالثًا: أن الله – عزَّ وجلَّ – نهى المؤمن أن يقول ما لا يفعل؛ لكن لو كان المؤمن مُقَصِّرًا في طاعة الله، مرتكبًا لبعض المعاصي – فإن ذلك لا يُسقِط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78: 79].

وعن أبي سعيد الخُدْرِيّ – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))[15].

كان الحسن – رضي الله عنه – إذا نهى عن شيءٍ لا يأتيه أصلاً، وإذا أمر بشيءٍ كان شديد الأَخْذ به، وهكذا تكون الحكمة.

قال أبو الأسود الدُّؤلي:

لا  تَنْهَ  عَنْ  خُلُقٍ  وَتَأْتِيَ  مِثْلَهُ        عَارٌ  عَلَيْكَ  إِذَا  فَعَلْتَ  عَظِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ  فَانْهَهَا  عَنْ  غَيِّهَا        فَإِذَا انْتَهَتْ  عَنْهُ  فَأَنْتَ  حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى        بِالْعِلْمِ   مِنْكَ   وَيَنْفَعُ    التَّعْلِيمُ


قال ابن حزم: “والمرادُ أن أبا الأسود إنما قصد بالإنكار: المجيء بما نُهِي عنه المرءُ، وأنه يتضاعف قبحُه فيه مع نهيه عنه؛ فقد أحسن؛ كما قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقد صحَّ عن الحسن: أنه سمع إنسانًا يقول: لا يجب أن ينهى عن الشرِّ إلا مَنْ لا يفعله، قال الحسن: وَدَّ إبليسُ لو ظفر منَّا بهذه؛ حتى لا ينهى أحدٌ عن منكر، ولا يأمر بمعروف.. قال ابن حزم: صَدَقَ الحسنُ، وهو قولنا آنفًا”[16].

اقرأ أيضا  القرآن الكريم مصلحا

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]   الجامع لأحكام القرآن (18/80).

[2]   تفسير ابن كثير (4/358).

[3]   تفسير ابن سعدي (ص1196).

[4]   يعني أمعاءه.

[5]   صحيح البخاري (2/236، 437) برقم (3267)، وصحيح مسلم (4/2291) برقم (2989).

[6]   يعني آلات القطع والقص.

[7]   مسند الإمام أحمد (3/120).

[8]   معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص490).

[9]   الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/80).

[10]   صحيح البخاري (1/32)، أي خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي. فيقول: لو كنت صادقًا ما فعلت خلاف ما تقول وهذا على رواية فتح الذال، وعلى رواية كسر الذال معناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذم الله من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر وقصر في العمل.

[11]   صحيح البخاري (1/27) برقم (33)، وصحيح مسلم (1/78) برقم (59).

[12]   سنن أبي داود (4/298) برقم (4991).

[13]   سنن الترمذي (4/612) برقم (2416)، وقال: حديث حسن صحيح.

[14]   قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (1/184)، رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون. وقال المنذري في كتابه “الترغيب والترهيب” (1/173) إسناده حسن.

[15]   صحيح مسلم (1/69) برقم (49).

[16]   الأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص99، 100).


المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.