معالم القانون الأخلاقي في القرآن الكريم
السبت11 صفر 1435 الموافق 14 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
لقد حفظ القرآن القانون الأخلاقي الذي جاء به موسى عليه السلام ولكن القانون لم يأت على كل شكل كتلة واحدة كالوصايا العشر، ولكنه ورد كآيات متفرقة في عدد من السورذ[1].
وقد عقد الدكتور دراز مقارنة بين القانون الأخلاقي في القرآن وبين ما جاء في التوراة والإنجيل:
الوصايا العشر كما جاءت بكل من التوراة والقرآن
التوراة |
القرآن الكريم |
سر الخروج الفصل العشرين لا يكن لك آلهة أخرى أمامي |
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23] |
لا تصنع لنفسك آلهة مسبوكة |
﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [الحج: 30] |
لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا |
﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 224] |
أكرم أباك وأمك |
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23] |
لا تقتل |
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29] |
لا تزن |
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30] ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31] |
لا تسرق |
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38] |
لا تشهد على قريبك شهادة الزور |
﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30] |
لاتشته بيت قريبك ولا شيئًا مما لقريبك |
﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [النساء: 32] |
وهكذا يتبين أن أسس القانون الأخلاقي ظلت محفوظة بالقرآن، إذ جاء عيسى عليه السلام فقال عن هذا القانون “فمن نقض إحدى السماوات وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات“[2].
كما أعلن عليه السلام أنه لم يأت ليلغي وينسخ وإنما ليكمل قال “قد سمعتم من قيل للقدماء ((كذا)) وأما أنا فأقول لكم ((كذا)) كان يقصد أنه كان يولي من بعدهم مهمة التطهير الأخلاقي التي بدأها المرسلون من قبله، والتي كانت تنتج مجالًا للتقدم والرقى“[3].
ولو مضينا- مع المرحوم الدكتور دراز لتتبع الوعظ الإنجيلي حيث أثبت أن هذه المبادئ قد عزها كتاب الإسلام لاحتجنا إلى مبحث كامل. يقول تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
ولكننا سنكتفي بإشارة إلى بعض النماذج
الإنجيل |
القرآن الكريم |
طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض (متى 5:5) |
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133] |
طوبى للأتقياء القلب (5: 8) |
﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89] |
طوبى لصانعي السلام (5: 9) |
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114] |
قد سمعتم أنه قيل للقدماء لاتزن وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في زنى بها في قلبه (متى 27- 29) |
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30] ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31] |
اسألوا تعطوا (متى 7:7) |
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186] ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60] |
احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة (متى 7: 15). |
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾ [البقرة: 204 – 206] |
وهكذا يثبت أن القرآن يوضح أعمال الرسل ويؤيد شرائعهم، ويوحد مختلف الاتجاهات في إطار قانون أخلاقي واحد “فكم هو جميل أن نرى كتابًا أخلاقيًا قد جمع بين دفتيه حكمة الأولين، فضلًا عن أنه قدم في وقت واحد وبهدف واحد عديدًا من الدروس“[4].
وكنا قد أوضحنا من قبل ضرورة توثيق الصلة بين الأخلاق والدين، والحديث عن الدين يستحثنا هنا لدراسة نظرة الإسلام إلى الفضيلة وكيف حددها القرآن بمعيار دقيق.
وقبل تناول تفاصيل الإضافات الجديدة في الإسلام، فإنه ينبغي بحث كيف حدد القرآن الحكيم الفضيلة بالنظر إلى مستويات السلوك الإنساني.
الفضيلة في القرآن:
رأينا نقد ابن تيميه لفكرة الفضيلة في فلسفة أرسطو الأخلاقية بسبب أنها اعتبارية ولا يجمعها حد جامع واضح يميز تمييزًا دقيقًا بين طرفي التفريط والإفراط.
وفي العصر الحديث أدى نظر الدكتور دراز للآيات القرآنية إلى أنه استخلص منها تعريفًا منضبطًا للفضيلة بالنظر إلى المستويات الإنسانية منها. فإن طرق الناس في سلوكهم لا يتعدى صدورها عن إحدى النزعات الثلاث الآتية:
إما نزعة الاستئثار وإما نزعة الإيثار وإما نزعة المبادلة والمعادلة.
ويرى الدكتور دراز أن البيان القرآني أفاض في ذم سجية الأثرة والبغي والعلو، بينما وزع القيم الأخلاقية قسمة ثلاثية في طرفها الأعلى فضيلة الإيثار والطرف الأدنى رذيلة الاستئثار. ولم يعتبر مبدأ المقاصة الدقيقة في الحقوق والواجبات فضيلة أو رذيلة.
لأنه بمثابة رخصة مباحة لا يستحق المدح أو الذم وآية ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 41 – 43].
﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ [النساء: 148].
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149].
فالنهي أولًا عن تعامل الناس بالفاحش من القول لأنه يستوجب غضب الله، مع استثناء من كانت إساءته ردًا لمظلمة، ثم وضع الخطة الحميدة والفضيلة المندوب إليها وهي خطة العفو حتى يستحق مغفرة الله ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22].
يقول الدكتور دراز ((وهكذا تمضي إرشادات القرآن الحكيم ناهية عن التزيد في حق النفس، حاضة على الزيادة في حق الغير، مخيرة المعاملة بالمثل دون نهي عنه أو تحريض عليه“[5] هذه سمة أولى من سمات الفضيلة.
أما السمة الثانية فتتعلق بنفاذها إلى أعماق الضمير حتى يتشربها القلب فتصدر عنه بترحاب وطيب خاطر ومحبة، لا عن جهاد خلقي شاق، على عكس بيان الفلاسفة، فقد أشار مؤرخو الفلسفة إلى زعم سقراط أن الإنسان مجرد عقل فحسب، ثم أضاف أفلاطون إليه العاطفة، وجاء أرسطو فرأى أن الإنسان يشتمل أيضًا على إرادة فعالة، مبينًا أن الفضيلة ليست علمًا تنزع بصاحبه إلى العمل مع قصور الهمة، بل هي عمل يبرز إلى الوجود، ويحتاج إلى الرياضة والتدريب حتى يصبح عادة ثابتة وخلقًا راسخًا.
ولكنها في هذه الحالة، قد تصبح الفضيلة عملًا آليًا تسخيريًا تمجه النفس.
أما الفضيلة في القرآن الكريم، فهي ترتقي بالنفس الإنسانية لتصبح عملًا انبعاثيًا محببًا إلى القلب. مصداق ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8].
وعلى العكس من ذلك، فإن فاعل الخير المفتقد لأريحية النفس له ليس خليقًا بأن يسمى خيرًا ويسجل القرآن المجيد هذه النظرات: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ﴾ [التوبة: 98] ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54] ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ﴾ [النجم: 33، 34].
وقد رسم القرآن الحكيم الطريق العلمي لتربية الإنسان الفاضل مخاطبًا الفرد والمجتمع، فإذا كان المجتمع هو الأساس الأول الذي يقوم عليه بناء الدولة، فإن العناية بالفرد، وهو لبنة في بناء المجتمع يصبح ضروريًا وأساسيًا إذا أردنا لهذا البناء القوة والمنعة[6].
ويختلف الناس في سلوكهم بين المتخبط في الحضيض، أو المتهادي في القمة أو السائر وسطًا. وإذا أردنا الارتفاع بالمستوى الأدنى والأوسط إلى القمة، فعلينا البدء بالأخلاق لأنها أول الخيط الذي يصل بنا إلى الغاية.
وقد وضع الإسلام فلسفة إصلاح المجتمع وتقويمه على قاعدتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[7].
وعند تطبيق هذه القاعدة يرى الدكتور دراز أنها تتجه اتجاهين:
الأول: اتجاه إيجابي
والثاني: اتجاه سلبي.
مثال الأول قوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [لقمان: 17].
وذلك في إطار فردي وللفيعة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110].
﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9].
وفي حالة التداخل للإصلاح بين المتنازعين والحض على قول كلمة الحق حين يدعو الداعي إليها، فإن الساكت عن كلمة الحق شيطان أخرس ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].
أما المثال المعبر بجلاء عن الاتجاه السلبي فإننا نعثر عليه في الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك إذ نفذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – مبدأ مقاطعتهم وأمر المسلمين جميعًا بالتنفيذ الشامل.
وهكذا رأينا كيف يحدد القرآن الفضيلة ويسمو بالإنسان للارتقاء الأخلاقي المنشود، ويصنع له الخطة التربوية لبناء المجتمع الفاضل.
وسنأتي إلى بيان تفصيل الفضائل المتعددة التي تميز بها الإسلام.
الإضافات الجديدة في الفضائل:
أما الجديد- كما يرى الأستاذ الدكتور دراز – فهو يظهر في الموضوعات الآتية[8].
أولًا- في مجال الفضيلة الشخصية:
نجد في هذا المجال قاعدة جديدة ومبدأ جديدًا، أما القاعدة الجديدة فهي تحريم الخمر وتناول أي مسكر والقضاء على مصادر الخمر في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] ودلالة التحريم في هذه الآية قاطعة لأن الأمر بالاجتناب قد سبق بوصفه ((الرجس)) “والذي يقترن به ذكر أشنع ضروب الكفر والشرك وهو الإقبال على الأوثان هو أصرح وأبلغ في الدلالة على التحريم“[9].
أما المبدأ الجديد فهو ((النية)) باعتبارها لب العمل الأخلاقي فقد كان موسى عليه السلام يغري قومه بأرض الميعاد، والرخاء في الحياة الدنيا والنصر على أعدائهم ويظهر من دعوة عيسى عليه السلام، طلب الانصراف عن الحياة الدنيا لأن السعادة لا تتحقق فيها ولكنها في ملكوت السماء.
ويجمع القرآن الكريم بين هذين الوعدين، لا كباعث أخلاقي، وإنما باعتبار أن الغاية التي يقصدها الإنسان الفاضل أعلى من هذا كله “إنه في الخير المطلق، أي في ابتغاء وجه الله تعالي الذي يجب استحضاره في القلب عند أداء العمل الإنساني بتنفيذ أوامره“[10].
لقد استقامت شجرة الفضيلة بأحكام التوراة والإنجيل، حيث حددت علاقات الناس بعضهم ببعض وقيامهم على أساس العدل والمحبة، وحفظهما القرآن، وأضاف إليهما تقنينات في الأدب والذوق الاجتماعي في المظهر، نعثر عليها في آيات عديدة في سور كثير كسور النور والحجرات والأحزاب وغيرها.
ثانيًا- الفضيلة في العلاقات بين الأفراد:
من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 59].
ثالثًا- الفضائل الاجتماعية والفضائل العامة[11]:
يتضح من القانون الأخلاقي في اليهودية إقامة الحواجز بين الإسرائيليين وغيرهم، فالخير لا يتعدى دائرة الإسرائيليين أنفسهم، والنصوص الدينية تأمر بذلك مثلًا “للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا” “وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد“.
وكان للقانون المسيحي فضل إسقاط هذه الحواجز وإبطال الطابع العنصري، ومد مبدأ المحبة لاحتواء الإنسانية كلها، ولكنه لم يركز الاهتمام بتقوية رابطة لفيعة المسيحية نفسها.
ثم جاء القرآن ليوفق بين الفضيلة العامة التي توحد العلاقة في الأخوة الإنسانية – أي الأسرة العالمية الكبرى – والفضيلة الفيعية داخل المجموعة الإسلامية، ففصل وحدة الفضيلة العامة التي أمر بها الإنجيل من قبل، حيث وسع دائرتها لتهيمن على مجالات الحياة المختلفة. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
وقوله عز وجل: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
وقوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8].
وهكذا يعلمنا القرآن أنه توجد خارج الأخوة في الله، الأخوة في آدم عليه السلام، ولكنه في الوقت نفسه يحدد مبدأين لحفظ كيان الفيعة الإسلامية، وهما:
أولًا:- دعوة المؤمنين ليكونوا فيعة واحدة متماسكة ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
والمسلمون في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ومظهر المسلمين في الصلاة يعبر أصدق تعبير عن التضامن المطلوب، فالجميع يقفون في صلاة الفيعة صفًا واحدًا لا فرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين فقير وغنى، يقفون جميعًا في اتجاه واحد وراء إمام واحد، كل منهم يدعو للجميع ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 5، 6] “إنهم جميعًا يطلبون النجاح والفلاح، ليس فقط لمجموعة المصلين وإنما لجميع عباد الله الصالحين أينما كانوا “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين“.
ثانيًا: وتتضح أهمية المبدأ الثاني من الناحية الأخلاقية وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110]، ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]، ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3]، ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ [البلد: 17]، فعلى المسلم دعوة أخيه المسلم إلى ما هو حق وعدل، ونهيه عن السوء، وأوجب القرآن على جميع المسلمين التعاون في نشر الفضيلة والتقوى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2] وتحذر الآية الواردة بسورة الأنفال – السالف الإشارة إليها – المسلمين بألا يتركوا المنكر يسود في مجتمعهم[12].
رابعًا- الفضيلة في المعاملات الدولية وبين الأديان:
لم تتح للديانتين اليهودية والمسيحية إقامة علاقات مع دول معادية، لكن الوضع اختلف في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم -، حيث أصبح أسوة في مجال الأخلاق وقائدًا في مجال السياسة أيضًا.
ونورد بعض المبادئ التي وضعها القرآن في الحرب الشرعية لدفع العدوان {﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190] ثم تتوقف الحرب عند انتهائها ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 61] والأمر باحترام العهود والمواثيق في العلاقات الدولية ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [النحل: 91].
لقد اقتضت مهمة الرسول صلوات الله عليه كسياسي، وقائد تشريعًا أخلاقيًا لظروف الحرب والسلم، كما تبين لنا من هذه الآيات وغيرها، إلى جانب القواعد التي حددتها السنة[13].
[1] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز ص 92- دار القرآن الكريم ودار القلم الكويت 1391هـ- 1971م ترجمة محمد عبد العظيم، مراجعة د. سيد بدوي.
[2] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز ص 93- 94.
[3] نفسه ص 99.
[4] نفسه ص 105.
[5] نظرات في الإسلام: (د. دراز ص 113 وما بعدها. بتصرف)، تحقيق محمد موفق البيانوني- مكتبة الهدى – حلب 1392هـ- 1972م.
[6] دراسات إسلامية: د. دراز ص 105، 127، 128 (بتصريف).
[7] نظرات في الإسلام (بتصرف): د. دراز ص 102.
[8] مدخل إلي القرآن الكريم: د. دراز ص 105.
[9] القرآن في التربية الإسلامية (مجمع البحوث الإسلامية) الشيخ: نديم الجسر ص 65، الآية 60 من سورة المائدة.
[10] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز ص 106.
[11] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز ص 106.
[12] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز المصدر ص 112.
[13] مدخل إلى القرآن الكريم: د. دراز ص 113.
المصدر:الألوكة