الشمس آية من آيات الله تعالى..عظمتها ومنافعها ومصيرها
الخميس 16 صفر 1435 الموافق 19 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وصرّفه فأحسنه تصريفًا وتدبيرًا، و{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].
أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره؛ رفع السماء بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسِيَها، وذلَّلها للعباد فَمَشَوْا في مناكبها، واستخرج لهم نعمها وأرزاقها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رزق الطيرَ في وُكُناتها، والحوت في مائها، والزواحفَ في جحورها.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ رأى آيات ربه، وتأمل إبداعه في خلقه، فامتلأ قلبه بالله إيمانًا ويقينًا، فكان من أثره أن جهشت نفسه بخشوعها، وفاضت عيناه بدموعها، ونصبت أركانه بركوعها وسجودها لربها وخالقها وباريها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى – أيها المؤمنون – فإن آياته في خلقه عظيمة، وآلاءه على عباده كثيرة، وعقوبته لمن خالف أمره أليمة شديدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 -32].
أيها الإخوة: آياتُ الله – تعالى – في خلق الإنسان كثيرة عجيبة، في جسده وروحه، في قلبه وعقله، في حركته وسكونه، وحزنه وسروره، وفي أجزاء جسمه الكثيرة، وتعقيداتها الدقيقة.
والأرض فيها من الآيات والعجائب ما يعز على العد والحصر، من نباتها وجمادها وحيوانها، في برها وبحرها {وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 20-22].
والأرض ببحارها ومحيطاتها، وأنهارها وجبالها، وسهولها وصحاريها، وما فيها وما عليها من مخلوقات وعجائب لا تساوي ذرة في خلق الله – تعالى – ففي الكون من الأفلاك والمجرات، والأنجم والبروج والمجموعات ما يجعل الأرض – بضخامتها عند البشر – ذرة من الذرات الصغيرة في هذا الكون العامر.
وما لا يعلمه البشر من خلق الله – تعالى – أكثر وأعظم، فيالله ما أعظم خلقه! وما أدق صنعه!! وما عظمة المخلوق إلا أكبر برهانٍ على عظمة الخالق – تعالى وتقدس – {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
أيها الإخوة: وهذا حديث عن آية من الآيات العظيمة، سخرها الله – تعالى – لخدمة البشر، وفيها من المنافع لهم ما لا يعلمه إلا الله – تعالى – شرّفها الله – تعالى – فأقسم بها، وعظمها قومٌ من البشر فعبدوها من دون الله تبارك وتعالى!!
كانت هذه الآية موقع المُحاجّة، ومَعقِدَ المفاصلة، وبرهان المناظرة، الذي بهت الكافر فقطع مناظرته، ونصر النبي فأقام حجته.
إنها الشمس التي تشرق كل يوم، فلا أجمل من شروقها، وتغرب فلا أحسن من غروبها، ينفعنا في البرد دفؤها، وتؤذينا في الحر أشعتها، وما هي إلا جزء يسير من خلق الله – تعالى – {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
ولضخامتها[1] وعجيب ضوئها وما فيها من آيات استعظمها أقوام فعبدوها من دون الله – تعالى – كما قال الهدهدُ لسليمان – عليه الصلاة والسلام -: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23-24].
وأخبر الله – تعالى – أنها من جملة آياته الكونية المخلوقة؛ فالحق أن يعبد خالقُها من دونها {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصِّلت: 37].
إنَّ حركة الشمس وضوءها، وإشعاعها ودفأها، وانتظامها في سيرها، وضخامة حجمها كان ولايزال – عند البشر – مثار الدهشة، وموضع الانبهار. وما عَبَدَها مَن عَبَدَها إلا من هذا القبيل، وكانت ولاتزال حجَّةً داحضةً، وآيةً ظاهرة على عظمة خالقها جل وعلا.
أنهى إبراهيم – عليه السلام – بذكرها فصول المناظرة، وقطع حجج المخاصمة، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ}. [الأنعام: 78-79][2].
وكثير من الكفَّار يعلمون أنَّ الشَّمس من خلق الله – تعالى – وما منعهم من عبادته إلا الكبر والعناد {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [العنكبوت: 61].
والشمس لم تتكبر على خالقها، كما تكبر بعض البشر على الرغم من عظمتها وضخامتها؛ فهي تسبح الله – تعالى – {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وتسجد له – سبحانه -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، وثبت في الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب))؟ قال: قلت: “الله ورسوله أعلم”. قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويُوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلعُ من مغربها، فذلك قوله – تعالى -: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38]))[3].
ومن عجيب شأنها أنها لا تكاد تغرب على جزء من الأرض إلا وتشرق على جزءٍ آخر، ففي كل لحظة لها مشرق ومغرب؛ ولذلك أخبر الله – تعالى – أن لها مشارق ومغارب متعددة {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40-41].
وعلى الرغم من عظمتها، وضخامة حجمها فإن الله – تعالى – جعلها مسخرة لخدمة هذا الإنسان الضعيف، الذي أولاه الله كل هذا التكريم {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 33-34].
وهذا التسخير من الله – تعالى – جعل فيها من الفوائد والمنافع ما لا يعد ولا يحصى، فالوقت إنما ضُبِط على ضوء حركتها، فغروبها ليل، وشروقها نهار. وأوقات الصلوات عرفت بالظل وهي سببه {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45].
تضيء النهار، وتبددُ الظلام، وتستيقظ على شروقها الأحياء في الأرض، من إنسان وطير وحيوان؛ فتسعى في رزقها، وتكتسبُ قوتها، وتعمُّ الحركة أرجاء الأرض على ضوئها ونورها. فإذا غربت خيم الظلام، وعم السبات، وخلدت الأحياء إلى الراحة استعدادًا ليوم جديد.
أرأيتم لو أنها أمسكت عن المغيب فلم تغب، كيف يرتاح الأحياء على الأرض؟! وكيف ينامون؟ ولو أمسكت عن الشروق فلم تشرق، كيف يعملون ويكتسبون؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 72- 73].
ولولا خلقُ الله – تعالى – الشمسَ، وتسخيرُها لنفع الأرض لما انتظمت الحياة فيها على هذا النظام البديع، فمن جرَّاء الشمس تحدثُ ظواهرُ في الأرض من تبخير المياه، وتحريك الرياح؛ مما يسبب هطول الأمطار وانتفاع الأرض، وبث الحياة فيها.
والحبوبُ والثمار والنبات تنضج بتأثيرها، وتستمد طاقتها من حرارتها، وتنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان عبر سلسلة غذائية منتظمة. وتحرق الشمس بحرارتها ما لا يعلم من الفطريات والجراثيم، التي لولاها لانتشرت الأمراض والأوبئة فلا يبقى على الأرض حياة.
وحرارة الشمس تذكر العبد ضعفه وعجزه فلا يتكبر على عبادة الله وطاعته. خلقها الله – تعالى – وقدرها؛ فجعل مسافتها إلى الأرض تناسب إقامة الحياة على الأرض وعمارتها، فلو كانت أقرب مما هي عليه لأحرقت الأرض ومن عليها، ولو كانت أبعد لتجمدت الأرض ومن عليها[4]. ويظهر ذلك جليًّا للإنسان في شدة البرد وشدة الحر مع عدم خروج الشمس من فلكها، أو تخلخلها عن مدارها، فالله – تعالى – خلقها وقدر بعدها وقربها بما يجعلها مسخرة لخدمة أهل الأرض {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38- 40].
نعم والله إنه تقدير العزيز العليم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]. بارك الله لكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
أيها المؤمنون: للشمس وما يحدث منها من ظواهر ارتباط وثيق بيوم القيامة، فلأنها علامةٌ في الكون ظاهرة يراها كل البشر، كان اختلافُها واختلالُها عن نظامها علامةً على إيصاد باب التوبة، وآيةً على قيام الساعة، وذلك بطلوع الشمس من مغربها، قال النبي – عليه الصلاة والسلام -: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))؛ أخرجه أبو داود[5].
وفي عرصات القيامة للشمس دور كبير في ذلك اليوم؛ إذ تدنو من رؤوس الخلائق فيتأذون ويطلبون سرعة القضاء، قال النبي – عليه الصلاة والسلام -: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، “وأشار النبي – صلى الله عليه وسلم – بيده إلى فيه”؛ أخرجه مسلم[6]، وعنده في حديث آخر قال – عليه الصلاة والسلام -: ((إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعًا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وآذانهم))[7]. ولا تستشكل – أيها المسلم – عدم إحراقها للناس في القيامة، وهي بهذا القرب مع أنها لو دنت من الأرض قليلاً لصهرتها وأحرقتها؛ لأن أحوال القيامة تختلف عن أحوال الدنيا فلا تقاس بها، ولو صحَّ أن تقاس بها لكان الموتُ أسرعَ من عرقِ الناس إلى آذانهم وأفواههم.
وأما مصير الشمس بعد انتهاء العالم، وانقضاء الدنيا، فإنها تُكَوَّر وتصاحب القمر إلى نار جهنم، كما أخبر الله عن تكويرها في القرآن، وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة))[8]، وفي رواية للطحاوي والبزار: ((الشمس والقمر ثوران يكوران في النار يوم القيامة))، فقال الحسن: “وما ذنبهما؟” فقال أبو سلمة: “أحدثك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتقول: وما ذنبهما”؟![9]، وفي حديث أنس عند أبي يعلى أن الحكمة من ذلك ((ليراهما من عبدهما))[10]، قال الخطابي: “ليس المرادُ بكونهما في النار تعذيبهما بذلك؛ ولكنه تبكيتٌ لمن كان يعبدُهما في الدنيا؛ ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلاً“[11]، وقيل: “إنهما من النار فأعيدا فيها“[12]، وقال الإسماعيلي: “لا يلزمُ من جعلهما في النار تعذيبهما؛ فإن لله – تعالى في النار – ملائكة وحجارةً وغيرها؛ لتكون لأهل النار عذابًا وآلةً من آلات العذاب، وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة“[13].
أيها الإخوة: كان تلك أجزاء من أخبار الشمس ومنافعها ومصيرها، تلك الشمس التي يهرب الناسُ من شدَّة حرها في الصيف، فهلا تذكَّرُوا حرارتها في الموقف حين تستخرج العرق من أجساد العباد، فتسيله في الأرض حتى يبلغ الآذان والأفواه! وهلا تذكَّروا ما هو أعظم من ذلك: حرارة جهنم، التي لا تقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ} [النساء: 56].
إن حرَّ الدنيا يذكِّرُ بحرِّ الآخرة، وإن لهب الشمس اللافح يذكر بلهبها في عرصات القيامة، ولن ينجي من حرِّ ذلك اليوم سفرٌ ولا سياحة، ولن يُطفئ لهبَه تبريدٌ ولا ماء.
نعم! إنه لن ينجيَ من حرِّ ذلك اليوم، ولهبِ شمسه، ثم زفرة ناره إلا الإيمان والعملُ الصالح، والأخذ بالأسباب التي تجعلُ العبد في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظلُه. وويل لمن كان في الدنيا منَعَّمًا. وفي الآخرة معذبًا، فاتقوا الله وأطيعوه، واحذروا الأسباب الموجبة للنار وشدة الحساب، فالسعيد من نجا في الآخرة. ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله…
[1] قد بينت الدراسات الفلكية الحديثة هذه الضخامة للشمس؛ فذكرت أن قطرها يبلغ نحو (865380) ميلاً بينما قطر الأرض (7913) ميلاً فهي أكبر من الأرض بنحو مليون وثلاثمائة ألف مرة، وكتلتها تعادل (333000) مرة كتلة الأرض، وتعادل جاذبيتها ضعف جاذبية الأرض ثمان وعشرين مرة، وتبعد عن الأرض نحوًا من (150) مليون كم، انظر: “القرآن وعلوم العصر الحديث” لإبراهيم فوزي، و”ظواهر كونية في القرآن” لمحمد فيض الله الحامدي.
ويذكر الفلكيون الغربيون أن الأرض كوكب صغير من تسعة كواكب تدور حول الشمس في مجموعتنا الشمسية، وشمسنا التي هي مركز مجموعتنا الشمسية، ليست إلا نجمًا من أربعمائة مليار نجم في مجرتنا، التي تسمى بالطريق اللبني أو درب التبانة، وتبعد عن مركزها الذي تدور حوله مسافة ثلاثين ألف سنة ضوئية. ومجرتنا ليست إلا واحدة من مائة مليار مجرة في هذا الكون، وكل مجرة من هذه المجرات فيها مائة مليار نجم أو شمس مثل شمسنا وأكبر منها.
ويذكرون أن الشمس تبعد عنا حوالي ثماني دقائق ضوئية، وسرعة الضوء: ثلاثمائة ألف كم في الثانية، وعليه فإن الدقيقة الضوئية ثمانية عشر مليون كم، وأقرب نجم إلينا بعد الشمس يبعد أربع سنوات ضوئية أي: تسعة ترليونات وأربعمائة وستين مليارًا وثمانمائة كم، إلى غير ذلك من الأرقام الهائلة.
وقد وقف الباحثون المسلمون من هذه الأرقام ونحوها ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: من قبلها مطلقًا، وآمن بصحتها وجعلها دليلاً على عظمة الخالق – سبحانه وتعالى – لأن عظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق – تبارك وتعالى – وحجتهم: أن علوم العصر الحديث، والتطور الهائل في المناظير والمراصد الفلكية، وصعود المركبات الفضائية وتحليقها في الفضاء، وتصويرها لهذه المجرات والأفلاك يؤكد حقيقة ذلك، وليس هناك مانع لا عقلي ولا شرعي يمنع من قبول ذلك.
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الآيات الدالة على عظمة الكون، وبعضهم حاول الاستدلال لكل نظرية كونية حديثة بآيات من القرآن! وفي كثير من استدلالاتهم تكلف ظاهر، وليٌّ لأعناق النصوص. ويستدلون أيضًا بأنَّ كثيرًا من المسلمين درسوا علوم الفلك، وبرعوا في ذلك، وهم يثبتون هذه المعلومات الفلكية، فليست مقصورة على إخبار أهل الكتاب بها؛ حتى تتطرق إليها الشكوك. ثم إن إجماع الفلكيين من مسلمين وغير مسلمين يدل على حقيقتها؛ إذ يستحيل تواطؤهم على الكذب.
الموقف الثاني: التوقف فيها فلا نصدّقها ولا نكذبها؛ لأنها من أخبار أهل الكتاب، وليس في شرعنا ما يؤيدها أو يعارضها؛ ولكن يشكل على هذا الموقف أن التوقف هو في أخبار أهل الكتاب الماضية، التي ليس لها ذكر في شرعنا، أما الأمور الحاضرة فيمكن معرفتها والقطع بصدقهم أو كذبهم فيها.
الموقف الثالث: رفضها وعدم قبولها وتكذيب الغربيين فيها لما يلي:
1- أن هذه الأرقام مبنية على نظريات إلحادية تجعل الكون فضاء لا نهاية له وتؤدي إلى إنكار الخالق – سبحانه وتعالى – قال الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد: “الفضاء محدود وله نهاية، وسعته مقدرة؛ فقد أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك فذكر أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمئة عام، يعني سماء الدنيا الذي هو سقف الأرض، وذلك بتقدير سير الإبل. وهذه المسافة تمكن معرفتها باصطلاح أهل الزمان؛ حيث يقيسون المسافات بالكيلومترات إذا عُلِم كم تسير الإبل باليوم من كيلومتر. وقد قدرت ذلك فوجدت مسافة ما بين السماء والأرض تقارب تسعة ملايين كم فقط، وهو الفضاء كله من كل جانب من الأرض، فأين هذا من خيال الملاحدة وفضائهم الذي لا نهاية له؟!” اهـ. انظر رسالته: “هداية الحيران في مسألة الدوران” (ص60).
2- أن هذه الأرقام الفلكية معارضة لنصوص من السنة، منها حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ((ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله – عز وجل – فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه))؛ أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” برقم (279) والدارمي في “الرد على الجهمية” (ص21)، وابن خزيمة في “التوحيد” (ص105)، والطبراني في الكبير (9/228) برقم (8987) والبيهقي في “الأسماء والصفات” (ص507) وقال الهيثمي في الزوائد: رجاله رجال الصحيح (1/86)، قلت: وقد جاء مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح، وله حكم الرفع، إذ ليس للرأي فيه مجال.
وقد ذكر الشيخ عبدالكريم الحميد في رسالته السابق ذكرها (ص64): أن المسافة بين الأرض وسطح السماء السابعة حوالي (126 مليون كم) باعتبار أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وسمك كل سماء كذلك، والمسافة بين السماوات كذلك، وهذا كله أقل مما يقدرونه بين الأرض والشمس بحوالي 24 مليون كم. هذا الفرق في مجموعة واحدة فكيف بملايين الملايين التي تتكون فيها المجرات المزعومة، التي بينها مسافات هائلة؟! اهـ. والله أعلم بالصواب.
[2] آية البقرة جاءت في ذكر محاجَّة إبراهيم – عليه السلام – للذي كفر وهذا ظاهر. وأما آية الأنعام فاختلف المفسرون في مقامها؛ هل كان مقام نظر أم مناظرة؟ فنقل عن ابن عباس أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير. وقال آخرون: إنه مقام مناظرة، وإن إبراهيم كان يناظر قومه، وهو الأظهر، ورجحه ابن كثير بأدلة كثيرة منها: أدلة الخلق على الفطرة، وأن القرآن أخبر أن إبراهيم قد أوتي رشده، وبالسياق حيث جاء بعد ذلك قوله – تعالى -: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} {الأنعام: 80} انظر: “جامع البيان” (7/247) وتفسير ابن كثير (2/242) عند تفسير الآية (78) من سورة الأنعام.
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر (3199) وفي التفسير باب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38] (3802-4803) وفي التوحيد باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} [هود: 7] (7424)، وباب قول الله – تعالى – {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. (7433) ومسلم في الإيمان باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (159) والترمذي في التفسير باب ومن سورة يس (3225).
وقد أشكل هذا الحديث على بعض العلماء؛ ولذلك قال ابن العربي: “أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هو عليه من التسخير الدائم” اهـ. وقال الخطابي: “قال أهل التفسير وأصحاب المعاني: فيه قولان؛ قال بعضهم: معناه أن الشمس تجري لمستقر لها أي لأجْلِ أجَلٍ أُجِّل لها وقَدَرٍ قُدِّر لها، يعني: انقطاع مدة بقاء العالم، وقال بعضهم: مستقرها: غاية ما تنتهي إليه في صعودها وارتفاعها لأطول يوم في الصيف، ثم تأخذ في النزول حتى تنتهي إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة”. اهـ وقد نقل هذين المعنيين ابن جرير وابن كثير، وقال الحافظ ابن حجر: “ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك” اهـ. وقد أحسن الخطابي – رحمه الله – إذ يقول في سجودها: “فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها، والخبر عن سجود الشمس والقمر لله – عز وجل – قد جاء في الكتاب… إلى أن قال: وليس في هذا إلا التصديق والتسليم، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها والتصرف لما سخرت له” اهـ. وللمزيد: انظر: “أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري” للإمام الخطابي – رحمه الله تعالى – (3/1892 – 1894) الحديثان (940 – 941) و”جامع البيان” للطبري (23/5) و”زاد المسير” لابن الجوزي (7/17) وتفسير ابن كثير – رحمهم الله أجمعين – (3/910) عند تفسير الآية (38) من سورة يس، و”فتح الباري” للحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – (8/402) ومجلة المنار لرشيد رضا – رحمه الله تعالى – (32/773-791) وحاشية الأرناؤوط على “جامع الأصول” لابن الأثير (2/333).
[4] يذكر علماء الفلك أن للشمس نواة من الهليوم درجة حرارتها تتجاوز (25) مليون درجة مئوية، تحيط بها منطقة إشعاع درجة حرارتها (15) مليون درجة مئوية ودرجة حرارة سطح الشمس (10) ملايين درجة مئوية تقريبًا، وما يصل الأرض من أشعتها هو واحد من مليار فقط (1/1000000000) هكذا ذكر علماء الفلك وهي ـ والله أعلم ـ أرقام تقريبية وبعضها مبني على أسس علمية، وبعضها مجرد تخمينات، والله أعلم وانظر في ذلك: “القرآن وعلوم العصر الحديث” لإبراهيم فوزي، و”مع الله في السماء” لأحمد زكي، و”ظواهر كونيه في القرآن” للحامدي.
[5] أخرجه أحمد (1/192) وأبو داود في الجهاد باب في الهجرة هل انقطعت (2479) والدارمي في السير باب الهجرة لا تنقطع (2513) والطبراني في الكبير (19/387) قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات (5/251) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2166).
[6] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في صفة يوم القيامة (2864) والترمذي في صفة القيامة باب (3) برقم (2423).
[7] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب صفة يوم القيامة (2863).
[8] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر (3200) والبغوي في شرح السنة (4307).
[9] أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1/170) برقم (183) وعزاه الحافظ في الفتح للبزار (6/346) وعزاه الألباني في السلسلة الصحيحة للبيهقي في البعث والنشور وللبزار والإسماعيلي والخطابي (1/192) وقد صححه الألباني في الصحيحه وقال: على شرط البخاري (124) وانظر: “المطالب العالية” (1558).
[10] عزاه الحافظ في الفتح لأبي يعلى، ولم أجده في مسنده ولا في كتب الزوائد، والموجود في مسند أبي يعلى حديث أنس بلفظ ((الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)) (7/4116)، وأما تلك الرواية فلم أعثر عليها، وذكر الألباني في السلسلة الصحيحة أنه أيضًا لم يرها في مسنده (1/194) وانظر: “فتح الباري” لابن حجر (6/346).
[11] ورجحه الألباني وقال: هو الأقرب إلى لفظ الحديث، انظر: السلسلة الصحيحة (1/194) و”فتح الباري” (6/346).
[12] فتح الباري (6/346).
[13] فتح الباري (6/346).
لمزيد من المعلومات عن عجائب الشمس وفوائدها انظر الكتب التالية:
1- “القرآن وعلوم العصر الحديث” لإبراهيم فوزي عراجي.
2- “مع الله في السماء” للدكتور أحمد زكي.
3- “ظواهر كونية في القرآن” لمحمد فيض الله الحامدي.
4- “القرآن إعجاز يتعاظم” لشاكر عبدالجبار.
5- “الكون والتكوين في آيات الكتاب المبين” لمحمد محمود عبدالله.
6-“من الإعجاز العلمي في القرآن في ضوء الدراسات الجغرافية الفلكية والطبيعية” لحسن أبو العينين.
7- مجلة المنار لرشيد رضا – رحمه الله تعالى – (32/773).
8- مجلة كنوز الفرقان عدد (7-8) شعبان ورمضان عام 1369هـ صفحة (23).
9- مجلة الفكر الإسلامي عدد (10) صفر 1407هـ صفحة (30).
10- مجلة الرسالة الإسلامية عدد (8) رجب 1394هـ صفحة (26).
11- مجلة الهداية عدد (174) شعبان1412هـ صفحة (25).
12- مجلة الأزهر عدد (8-9) شوال وذي القعدة 1384هـ صفحة (960).
13- المجلة العربية عدد (109) صفر 1407هـ صفحة (14) وعدد (110) ربيع الأول 1407هـ صفحة (14).
14- مجلة العربي عدد (5) رمضان 1378هـ صفحة (71).
المصدر : الألوكة