وقد خاب من افترى

الثلاثاء،12 ربيع الاول 1435ه الموافق 14 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

 خميس النقيب

الافتراءُ على الله في بلاده وعباده بالقتل والنَّهب والإفساد والاستبداد:

جُرمٌ كبير، وذَنْب عظيم، والافتراء على الله في شريعته وقرآنه بالتكذيب والتزييف والتحريف والصدِّ والعناد: جُرْمٌ أكبرُ، وذنب أعظم

آية كريمة، جميلةُ المعنى، بديعة المرمى، رائعة المسعى: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 61]، جاءت في سياق قصةِ موسى مع فرعون – الذي قضى حياته افتراءً على الله – وسَحرتِه الذين هداهم الله؛ يقول سبحانه وتعالى عن فرعون: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه: 59 – 62]، يوم الزينة، يوم الجمع، يوم الحشد، تنسج فيه الفتن، وتُرفَع فيه الأخلاقُ والقِيم، إنه يوم التفويض، لا من أجل إبلاغِ الحق بالاستعانة بالله وكُتبه ورسله، بل من أجل تمرير الباطل، بتوزيع الأموال، وتقريب العمَّال: ﴿ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِين  [الأعراف: 113، 114]، لكن هيهات هيهات، الحقُّ أبلجُ كفَلَقِ الصبح، والباطل لجلج كظُلمة القبر، لقد افترَوْا؛ إما الكذب، أو الشرك، أو الظُّلم، وكلها أدوات وافتراءات أهل الباطل، وقد جاء القرآنُ بهذه المعاني الثلاثة، وكلها تتعلقُ بالفساد والإفساد؛ قال ابن القيم: لقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيبَ أهل الافتراء، ولا يهديهم، وأنه يُسحِتُهم بعذابه؛ أي: يستأصلهم.

 

واقعُنا الذي نحياه في أمَّة القرآن – للأسف – يعِجُّ بالافتراء، ويتخبَّط في الفتن، له نصيبٌ وافر، وحظ عامر من المفترين والفتانين، كيف؟ يكذِبون فيطمِسون الحقيقة، ويُخْفون الحق، ويقلبون الوضع؛ ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 93]، وكذا الذين يُفتُون بغير علم لهوى شخصي، أو موقف نفعي، أو مطلب قمعي، هم من جملة المُفتَرِين على الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 116].

 

انظُرْ إلى ما قاله فِرعون، وما أشار به الملأُ من قومه، وما دار بينه وبين السَّحرة من تشجيع وتحميس ووعدٍ بالمكافأة، وما فكَّر فيه، وما دبَّر هو ومستشاروه، يُجمله القرآن في جملة: ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾ [طه: 60]، وتصوِّر تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاثَ حركات متواليات: ذهاب فرعون، وجمع كيده، والإتيان به.

اقرأ أيضا  التفسير المختصر سورة الأحقاف : تفسير الآية 20

 

والمصلِحون دائمًا ينصحون، وهذا موسى عليه السلام يحذِّرُهم عاقبةَ الكذب والافتراء على الله؛ لعلهم يثُوبون إلى الهُدى، قال لهم موسى: وَيْلكم! لا تفتَروا على الله كذبًا فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افترى.

 

رغم بُروز الافتراءِ في كل الأجواء، فإن الكلمةَ الصادقة تلمس القلوبَ الصافية، وتنفذ فيها، ويبدو أن هذا الذي كان; فقد تأثَّر بعضُ السَّحرة بالكلمة المخلصة، فتلجلج في الأمر، أما القلوبُ القاسية المتحجرة التي اعتراها الصَّدأُ أنَّى لها؟! لقد أخذ المصِرُّون على الباطل يجادلونهم همسًا؛ خِيفة أن يسمعَهم موسى، فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرُّوا النجوى.

 

فما بالكم بالذين هم قابعون في الجرائد والمجلات وأمامالكاميراتفي الفضائيات، وفي المؤسسات والهيئات، يكذِبون ويتحرَّوْن الكذب؛ حبًّا في الباطل وحزبه، وكُرْهًا للحق وأهلِه، ينشرون الكذب، ويهيجون الناس، ويوجِّهون البسطاء عيانًا بيانًا، صباحًا ومساءً، ضحًى وظُهرًا، بعضهم يحمس بعضًا، وراحوا يبثُّون في المترددين الخوفَ من المصلِحَيْنِ موسى وهارون، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر، وتغيير عقائد أهلها؛ مما يوجِبُ مواجهتهما يدًا واحدة، وشعبًا واحدًا بلا تردُّد ولا نزاع؟! وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! التخويف من المصلحين هو نفسه، والتنديد بالمؤمنين نُسَخ تتكرَّرُ في البلاد والعباد، وعبر الأجيال والأزمان؛ ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [طه: 63، 64]، انظر إلى: ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ [طه: 64]، يسوقُون الحِقد والكيد والمكر بينهم، لينفُثوا سُمومَهم في العباد والبلاد!

 

لكن افتراءهم سيفشل، وسَعْيهم سيخيب، بل قد خاب بالفعل، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 61]، و”قد”: حرف يفيد التحقيقَ في لغة القرآن.

 

الصدق أقوى وأنجى، والكذب أخزى.

 

الصِّدق في أقوالنا أقوى لنا 

والكذبُ في أفعالنا أخزى لنا 

 

 

وفي الناحية الأخرى تنزل الكلمةُ الصادقة الخالصة كالقذيفةِ في معسكر المبطِلين وصفوفهم، فتزعزع اعتقادَهم في أنفسهم، وفي قدرتِهم، وفي ما هم عليه من عقيدةٍ وفكرة، وتحتاج إلى مثل هذا التحميس والتشجيع، وموسى وأخوه رجُلانِ اثنان، والسَّحرة كثيرون، ووراءهم فِرْعون ومُلْكه وجندُه وجبروته وماله..، ولكن موسى وهارون كان معهما ربُّهما يسمَعُ ويرى؛ (الظلال/ سيد قطب).

اقرأ أيضا  القرآن والنظرية النسبية

 

ولعلَّ هذا هو الذي يفسِّر لنا تصرُّف الطغاة المفترين، موقف السحرة، ومِن ورائهم فرعونُ، فمَن موسى ومن هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون، ويجمَعُ كيده ثم يأتي، ويحشُر السَّحرة ويجمع الناس، ويجلس هو والملأ من قومِه ليشهدوا المباراة، موسى فردٌ من بني إسرائيل المستعبَدين المستضعفين تحت قهره! إنها الهيبةُ التي ألقاها اللهُ على موسى وهارون وغيرِهم من المؤمنين في كل وقتٍ وحين، والله كذلك معهما يسمَعُ ويرى؛ (الظلال).

 

يقول ابن كثير رحمه اللهلما جاء السَّحرةُ وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحَرَ الناس وأصنَعَهم، وكان السحرة جمعًا كثيرًا، وجمًّا غفيرًا، قيل: كانوا اثني عشر ألفًا، وقيل: خمسة عشر ألفًا، وقيل: غير ذلك، والله أعلم بعِدَّتهم، واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم، وقال قائلهم: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 40]، ولم يقولوا: نتَّبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دِين ملكهم.. ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ [الشعراء: 41]؛ أي: إلى مجلسِ فِرعون، وقد جَمَع خَدَمَه وحَشَمه، ووزراءَه ورؤساءَ دولته، وجنود مملكته، فقام السحرةُ بين يدَيْ فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم إن غلَبوا، فقالوا: ﴿ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 41، 42]؛ أي: وأخص مما تطلبون، أجعَلُكم من المقرَّبين عندي وجلسائي، فعادوا إلى مقامِ المناظرة: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى *قَالَ بَلْ أَلْقُوا [طه: 65، 66] وقد اختصر هذا ها هنا فقال لهم موسى: ﴿أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 43، 44]، وهذا كما تقولُ الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئًا: هذا بثواب فلان (يحسَبون الأقوى والأبقى؛ لأنهم نسوا أو تناسَوْا قوةَ الذي خلَقه وبقاءَه)، ﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء: 45]؛ أي: تخطَفُه وتجمعه من كل بقعة، وتبتلعُه، فلم تدَعْ منه شيئًا، وزال باطلُهم وافتراؤهم، كيف؟ قال الله تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 118]، فكان هذا أمرًا عظيمًا، وبرهانًا قاطعًا للعذر، وحجة دامغة؛ وذلك أن الذين استنصَر بهم وطلب منهم أن يغلِبوا غُلبوا، وخضَعوا وآمنوا بموسى في الساعةِ الراهنة، وسجَدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحقِّ وبالمعجزة الباهرة، فغلب فرعون غَلَبًا لَم يشاهدِ العالَمُ مثلَه، وكان وقِحًا جريئًا عليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهدَّدهم ويتوعدهم، ويقول: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: 71]، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [الأعراف: 123] الآيةَ.

اقرأ أيضا  وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ

 

كيف خاب مَن افترى؟! أُلقِيَ السحرة ساجدين! ونجَّى الله موسى وقومه أجمعين، وأغرَق الله فرعونَ وجنوده الملاعين، ﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ [الدخان: 30 – 33].

 

هكذا نتعلَّمُ أن القوةَ مهما بلغت لم ولن تُترك على الأرض لتدير الكونَ كيفما شاءت، أو تتحكَّم في الخَلْق كلما أرادت، كلا؛ ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 15]، والباطل إلى زوال وانحسار: ﴿ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، والحقُّ إلى بقاء وانتصار: ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 82].

 

وما نراه من مَكْر الماكرين، وعَبَث العابثين، وظُلْم الظالمين، واستبداد المستبدِّين، وافتراء المفتَرِين، حتى لو لعبوا على الحبال، أو زلزلوا الجبال، أو قمعوا الأجيال – فإن كلَّ ذلك حتمًا سيفسد ويخيب؛ ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 61].

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.