وجوه إعجاز القرآن
الإثنين،5 رجب 1435الموافق5 أيار/ماي2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
د. محمد بن سعد الدبل
القرآن الكريم نور الله في الأرض، والمعجزة الخالدة للنبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – تحدى به العرب قاطبة، ومفهوم المعجزة أنها: أمر خارق للعادة، خارج عن طَوْق البشر، مَقرُون بالتحدي، سالم من المعارضة، يُظهره الله على يد رسله، وأنها: أمر خارج عن حدود الأسباب المعروفة، يؤيد الله بها مَن يصطفيه من عباده لحمل رسالته إلى البشر؛ لتكون شاهدًا على صدقه.
وقد أودع الله في كتابه الكريم كلَّ ما فيه صلاح أمر الآدميين، وما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، فكان طبيعيًّا أن يشتملَ على وجوهٍ كثيرة في الإعجاز.
وقد أكثر العلماء والدارسون من البحث عن وجوه إعجاز القرآن، وخلَّفوا تراثًا ضخمًا يشتمل على ما اهتدوا إليه من هذه الوجوه، منهم من زاد ومَن نقص، ومنهم من قصر جهده على البحث في الدرس القرآني؛ ليدمغ الحجج الواهية فيما يوجَّه إلى القرآن الكريم من شُبَه ومطاعن في ألفاظه ومعانيه، وأحكامه وإعجازه، ولم يزل القرآن حيًّا متجددًا يفوق طاقة الدارسين.
والمتتبع لوجوه الإعجاز وآراء العلماء فيها، يجد بعضها يتداخل أو يتقارب؛ فمثلاً من عدَّ غرابة الأسلوب وجهًا، والفصاحة وجهًا، والبلاغة وجهًا ثالثًا، والتأثير في السامعين وجهًا رابعًا، نستطيع أن نجعل كل هذه الوجوه مما له علاقة بالأداء والبيان تحت وجه واحد، هو الإعجاز البياني، وقل مثل ذلك في الغيوب الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ إذ يجمعها الغيبي.
وفي استطاعتنا أن نجمع الوجوه التي ذكرها السابقون وتناولها اللاحقون بالبحث والزيادة تحت خمسة وجوه، هي:
1- الإعجاز البياني.
2- الإعجاز العلمي.
3- الإعجاز الغيبي.
4- القول بالصرفة.
5- الإعجاز بالنظم.
وهذه نبذة سريعة عن كل وجه[1]:
الإعجاز البياني:
وينتظم الأسلوب الفريد الذي يتميز به القرآن الكريم على سائر كلام البشر شعرًا ونثرًا، بانتقاء الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، وقد تواضع العرب قديمًا وحديثًا على أن للقرآن أسلوبًا خاصًّا به، مغايرًا لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، حتى كان من خصائص هذا الأسلوب الفريد تعمُّده الطريقة التصويرية في التعبير، والتناسق بين المدلول والعبارة، وارتفاع التفاوت في طبيعته الزاهية وثوبه القشيب، وتلك الخصائص الجديرة بالتأمل والتدبر؛ لذا جعلها الله منارًا على مصدر القرآن، ومَعْلمًا يُستدلُّ به على كونه من عند الله – تعالى -: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
وقد انتظم هذا الوجه من الفصاحة أعلاها، ومن البلاغة أشرفها، يقول الإمام الخطابي (ت388هـ): “إن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة البيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية؛ فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها ومنها…، وهذه أقسام الكلام المحمود…. فحازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم له بامتزاج هذه الأوصاف نمطٌ من الكلام يجمع بين صفتَي الفخامة والعذوبة… وكان منها آية بينة للنبي الكريم، ودلالة واضحة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه“[2].
الإعجاز العلمي:
وقد سلك القرآن الكريم في هذا الوجه طريقة الاستدلال على خالق الكون ومُنشئه استدلالاً فطريًّا، يتناسب مع جميع العقول والأفهام، فتحدثت آيُه عن كلِّ ما يحيط بالإنسان من عجائب هذا الكون، تحدث عن الأرض والسماء، والليل والنهار، والشمس والقمر، وعن الجبال والبحار، والرياح والنبات والحيوان، وعن الإنسان نفسه، ذلك الآدمي الذي يسخِّر تلك المخلوقاتِ فيما يزود به معاشه بقدرة الخالق الحكيم، كما أشار القرآنُ إلى حقائقَ أماط اللثام عن الحكمة من وجودها، أشار إلى حقائق تارة بالتلميح، وتارة بالتصريح، ومرة بالإجمال، وأخرى بالتفصيل، وهو بهذه الطريقة لا يخرج عن هدفه الأساسي الذي هو هداية الناس إلى الصراط المستقيم، فليس القرآن كتاب كيمياء أو كتاب فَلَك وطبيعة، ولا ينبغي أن نتوقع منه أن يسوق لنا الحقائق العلمية مفصلة كاملة كما يفعل أي مرجع علمي مختص، ولكنه يسوق الآيات الدالة على وجود الله – تعالى – طالبًا التدبر والتفكر والإيمان: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 9، 10]، ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾ [يس: 37]، ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ [فاطر: 12].
الإعجاز الغيبي:
ووجهه: اشتمال القرآن الكريم على أنباء الغيب مما كان خافيًا على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يشهد حوادثه ولم يحضر وقتها، ولم يكن على علم بتفصيلات تلك الحوادث، ولم يقرأ كتابًا في ذلك، ويدخل في هذا المفهوم كلُّ ما ورد في القرآن عن بداية نشأة الكون..، وما وقع وحدث منذ خلق الله السموات والأرض حتى بعث اللهُ في الأميِّين رسولاً، وما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السير، وكذلك يشمل ما غاب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في وقته من الحوادث التي كانت تحدث ويخبر بها بطريق الوحي؛ كإخبار الله له بما يدبِّره اليهود والمنافقون، ويشمل الأخبار عن الأحداث في مستقبل الزمان، وبالتالي يشمل غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل؛ فعن الأول يقول القرآن الكريم: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49].
وعن الثاني يقول الله – تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8].
وعن غيب المستقبل يقول – تعالى -: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [الروم: 1 – 4].
وقد حدث ما أخبر به القرآن الكريم؛ فقد دارت رحى الحرب من بعد ذلك، وهُزِم الفُرس في بضع سنين، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ممن حضر هذه الحرب وعرَف سبب الغلب[3].
ومن وجوه الإعجاز عند بعض الفرق من أهل الكلام:
القول بالصرفة؛ فقد رافق القولَ بإعجاز القرآن الكريم، بل كان هذا الرأي هو الباعثَ الأول للبحث في وجوه الإعجاز، وأول من قال به وذهب إليه أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، فقد “ذهب إلى أن الله – سبحانه – صرف العربَ عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف خارقًا للعادة“.
وقال المرتضى من الشيعة:
إن معنى الصرفة أن الله سلب العرب العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن، فكأن مراد المرتضى من هذا المعنى أن العربَ بُلَغَاءُ يقدرون على مثل النظم والأسلوب، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظُ القرآن من المعاني؛ إذ لم يكونوا أهلَ علم، ولا كان العلم في زمنهم[4]، وما قاله بيِّن الخلط لا قِبَل لعاقلٍ به؛ فإن العرب أهل علم بالفطرة، وليس غيرهم ممن أخذ عنهم بأقدرَ وأعمقَ في العلوم، ولا بأوسعَ في التفكير، وهم المتحَدَّوْن الأوَّلون، وغيرهم داخلٌ في جملتهم، بل التحدي لعموم مَن خلق الله من الجن والإنس.
♦ ♦ ♦ ♦
ومثل هذا الرأي قال به ابن سنان الخفاجي في كتابه “سر الفصاحة“؛ إذ يقول: “وإذا عدنا إلى التحقيق، وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته، بأن سُلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك…. ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآنَ في تأليفه“[5].
والمتتبع لأقوال أهل الصرفة يلقى مذهبي:
أحدهما: لطائفة تقول بصرف الإرادة والتوجه إلى المعارضة، ولو توجَّه العربُ لاستطاعوا معارضةَ القرآن.
والثانية: تقول بسلب العلوم، ولو توجَّه العربُ لَمَا استطاعوا.
ونبرأ إلى الله – سبحانه – عن كل ما قالوا؛ فجميع ما ذهبوا إليه محض آراء فاسدة، ونفوس خبيثة، وعقول سقيمة، لا تعرف إلا الجدل والمكابرة والعناد.
فكتاب الله – سبحانه – مفتوح الدفتين لمن أراد التدبر والتفكر، لم يُصرَفْ عن التبصر فيه أحد، لكن من حدَّثتْه نفسه بمعارضته، سيقضي العمرَ في طلب المحال؛ فالله – سبحانه – يقول: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، والقرآن كلام الله العزيز الحكيم، لا قوة خارقة ولا حكمة بالغة إلا له، فثبت الإعجاز؛ لعدم قدرة الثقلين، ونقص طاقتهم البشرية، وسبحان مَن بيده ملكوت السموات والأرض!
الإعجاز بالنظم: وهذا الوجه يجب أن نفصل القول فيه؛ إذ هو محك هذا البحث وصميمه، عارضين لطائفة من أقوال العلماء والمتكلمين ممن تناوله بالبحث والدراسة.
ولا شك أن المتأمل في حروف القرآن الكريم وكلماته لا يجد فيها شيئًا خارجًا عن المألوف المتداول في لغة العرب قديمًا وحديثًا، وعندما نتلو آيات الله نشعر أن للعبارة القرآنية كيانًا خاصًّا، يبنى عليه تركيب الجملة لرسم معالم الصورة الفنية للنظم القرآني الفريد، الذي لا يتفاوت ولا يتباين ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
وبعد هذه الإشارة إلى أهم الأقوال التي قيلت في وجوه الإعجاز، نخلص إلى أنه ليس لباحث أن يقصر وجوه الإعجاز على ما ذكره السابقون؛ فإن القرآن الكريم “معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت“[6].
[1] يرى بعض العلماء المعاصرين القول بالإعجاز التشريعي، وخلاصته: أن القرآن دستور تشريعي كامل، يقيم الحياةَ الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل إعجازه التشريعي قرينًا لإعجازه العلمي وإعجازه اللغوي إلى الأبد، ولا يستطيع أحدٌ أن ينكرَ أنه أحدث في العالم أثرًا غيَّر وجه التاريخ؛ راجع ذلك مفصلاً في: “مباحث في علوم القرآن“؛ لمناع القطان.
[2] انظر إعجاز القرآن؛ للخطابي ص7، ورسالة إعجاز القرآن؛ للدكتور مصطفى مسلم ص81، 82.
[3] انظر رسالة إعجاز القرآن؛ للدكتور مصطفى مسلم، ص271، 272، 277، 277.
[4] انظر إعجاز القرآن؛ للرافعي، ص162، ط الثامنة، مطبعة الاستقامة القاهرة.
[5] انظر رسالة في إعجاز القرآن؛ للدكتور مصطفى مسلم، ص 285.
[6] انظر إعجاز القرآن؛ للرافعي، من ص: 175، الطبعة الثامنة – مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
المصدر: الألوكة