وقفة عرفة
السبت 8 ذو الحجة 1437/ 10 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
وقفة عرفة
في ((الصحيحين)) عن عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنه: ((أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال: أي آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه؛ نزلت ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة)).
والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)). ويوم عرفة يوم العتق من النار.
والواقع أن يوم عرفة يوم من مفاخر الإسلام؛ لأن المسلمين لا يمكن أن يحتشدوا في مكان كهذا المكان، لا يعرف بعضهم بعضـًا إلا هنا، يوم عرفة يوم بكاء وخشوع، يوم خوف من اللَّه، إنك أيها الحاج إذا خفت من مخلوق فررت منه، ولكنك إذا خفت من اللَّه فررت إليه، قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]، ويوم عرفة له فضائل متعددة؛ منها أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة – كما تقدم – ومنها؛ أنه عيد لأهل الإسلام، كما قاله عمر وابن عباس، رضي اللَّه عنهما، وخصوصـًا أنه عيد لأهل الموقف، ويشرع صيامه لغير الحاج عند جمهور أهل العلم.
وأما الحاج فالأفضل في حقه ألا يصوم عرفة، بل يفطر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليتقوى بالفطر على طاعة اللَّه في ذلك اليوم. ومنها؛ أنه قد قيل: إن يوم عرفة هو الشفع الذي أقسم اللَّه به في قوله: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3]، وأن الوتر يوم النحر، وقيل: إنه الشاهد الذي أقسم اللَّه به في قوله: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3]، فقد جاء في ((مسند الإمام أحمد)) عن أبي هريرة مرفوعـًا وموقوفـًا: ((الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة)). رواه الترمذي.
وعلى هذا فإذا وقع يوم عرفة في يوم جمعة، فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد ومشهود. ومنها: أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، كما في ((صحيح مسلم)) عن عائشة، رضي اللَّه عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق اللَّه فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء)).
وفي ((مسند أحمد)) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اللَّه يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثـًا غبرًا)). ومنها؛ أن صيامه يكفر اللَّه به سنتين السنة التي قبله والسنة التي بعده، كما جاء ذلك في ((صحيح مسلم)).
فينبغي للحاج أن يغتنم هذا اليوم فيكثر فيه من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق.
فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله اللَّه تعالى في هذا اليوم، جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: ((لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير)). رواه أحمد.
وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
سأل أحد السلف سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة، فقال: ((لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له)). فقال له الرجل: هذا ثناء وليس بدعاء.
فقال له سفيان: أما علمت قول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك بأن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يومًا كفاه من تعرضه الثناء |
ثم قال سفيان للرجل: هذا مخلوق يكتفي بالثناء عليه دون مسألة، فكيف بالخالق؟
وقد كانت أحوال الناس في الموقف بعرفة متنوعة؛ فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء، فقد وقف مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.
ووقف أحد الصالحين بعرفة، فمنعه الحياء من الدعاء، فقيل له: لِمَ لا تدعو؟ فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه، ووقع ميتـًا.
روي عن الرياش قال: رأيت أحمد بن المعذّل في الموقف في يوم شديد الحر، وقد ضحى للشمس – يعني: لم يستظل بشيء عن الشمس – فقلت له: يا أبا الفضل، هذا أمر قد اختلف فيه، فلو أخذت بالتوسعة، فقال أحمد:
ضحيت له كي أستظل بظله
إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فيا حسرتا إن كان سعيك باطلاً ويا أسفا إن كان حجك ناقصا |
وهذا اجتهاد من أحمد بن المعذّل حرصـًا منه على الأجر، ولكن رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – وهو خير البشر استظل في يوم عرفة.
ومن أولئك الناس في الموقف بعرفة، من كان يغلب عليه الرجاء، قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن اللَّه لا يغفر له.
وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقـًا – يعني: سدس درهم – أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: واللَّه للمغفرة عند اللَّه أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وإني لأدعو اللَّه حتى كأنما
أرى بجميل الظن ما اللَّه صانع |
إذًا تبين لك أيها الحاج موقف الناس في هذا اليوم، فاعلم أنه يجب أن يكون العبد خائفـًا راجيـًا، فالخوف الصادق المحمود هو ما حال بين صاحبه وبين محارم اللَّه، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: هو رجاء رجل عمل بطاعة اللَّه على نور من اللَّه، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنبـًا ثم تاب منه إلى اللَّه، فهو راج لمغفرته، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]. وكل رجاء لا يحمل صاحبه على فعل المأمورات لا يعد رجاء، بل هو مغالطة وأمن من مكر اللَّه: ﴿ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99].
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس |
فالرجاء بلا عمل غرور وتمنٍّ كاذب، قال بعض أهل العلم: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، وإذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت. اهـ.
وقد مدح اللَّه أهل الخوف والرجاء بقوله: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، وقال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [السجدة: 16].
فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطـًا ويأسـًا، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا اللَّه، فإنك إذا خفت منه هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه، وإذا كان المسلم في مرض أو شدة، فإنه يغلب الرجاء، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)). رواه مسلم.
قال بعض السلف: من عبد اللَّه بالحب وحده فهو زنديق – يعني: منافق – ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري – يعني: من الخوارج – ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
إذن علمت أيها الحاج الكريم أنه ينبغي عليك أن تجمع في هذا الموقف بين الأمرين: الخوف، والرجاء. فتخاف من عقاب اللَّه، وترجو ثوابه ومغفرته.
قال أحد السلف: (من فاته في هذا العام القيام بعرفة، فليقم للَّه بحقه الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة اللَّه وقد قرَّبه وأزلفه، من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنا، من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه من حبل الوريد).
فاتق اللَّه أيها الحاج، وأخبت إلى ربك، واخضع لجنابه، وانكسر بين يديه، وتب إليه توبة نصوحـًا، عسى اللَّه أن يقبل منك إذا علم صدقك وإخلاصك، ثم اعلم أن اللَّه يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.. ﴾ [التوبة: 104]، وقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
واللَّه سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر – يعني: لم تصل روحه إلى الحلقوم – وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، كما ثبت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم.
وتقبل التوبة قبل الغرغرة
كما أتى في الشرعة المطهرة كذلك لا يكون سد بابها قبل طلوع الشمس من مغربها |
واعلم أيها المسلم أن اللَّه يقبل التوبة عن عباده مهما كانت ذنوبهم، حتى الإشراك باللَّه.
قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
قال أحد العلماء: إن رجلاً قد أطاع اللَّه عشرين سنة، ثم عصاه عشرين أخرى، وفي يوم من الأيام نظر إلى وجهه في المرآة، فرأى الشيب وبكى، فسمع صوتـًا من بعيد يقول له: أطعتنا فشكرناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك. اهـ.
واعلم أيها الحاج الكريم أن للتوبة شروطـًا ذكرها أهل العلم، وهي أربعة، ثلاثة منها تشترط فيما إذا كانت المعصية بين العاصي وبين اللَّه وهي:
الأول: الإقلاع عن الذنب.
الثاني: الندم على ما مضى من الذنوب.
الثالث: العزم على ألا يعود لمثلها.
أما إذا كانت المعصية بينه وبين أحد من المخلوقين، فإنه يزاد شرط رابع من الشروط الثلاثة الماضية، وهو:
الرابع: أن يرد الحق إلى صاحبه أو يطلب منه المسامحة.
وجمع بعضهم هذه الشروط في شعر فقال:
شروط توبتهم إن شئت عدتها
ثلاث رتبت فافهم على مهل إقلاعه ندم وعزمه أبدا ألا يعود لما منه جرى وقل إن كان توبته من ظلم صاحبه لا بد من رده الحق في عجل |
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.
المصدر: مجلة التوحيد، عدد ذي الحجة 1420 هـ، صفحة 50
-الألوكة