طبول الحرب الطائفية تدعونا للانتحار

الأربعاء – 26 رجب 1434 الموافق 5 يونيو/حزيران 2013

فهمي هويدي

أسوأ ما يمكن أن يحدث فى العالم العربى أن يتحول صراعه من أجل التقدم إلى صراع مذهبى يكرس التشرذم والتخلف.

(1)

أتحدث عن طبول الحرب المذهبية التى تدوى أصداؤها فى فضاء المشرق طوال الأسابيع الأخيرة، خصوصا حين أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر فى خطابه يوم ٢٥/٥ أن عناصر الحزب تقاتل إلى جانب النظام السورى فى بلدة «القصير»، التى كانت قوات الجيش الحر قد سيطرت عليها خلال العام الماضى. وجاءت تصريحاته تلك محملة بثلاث رسائل هى: أن شباب حزب الله المشارك فى الحكومة اللبنانية أصبحوا يقاتلون بأعداد كبيرة فى الصراع الدائر على الأرض السورية ــ إن تلك المشاركة لا تستهدف الدفاع عن قرى حدودية لبنانية ولا عن مقدسات دينية لدى الشيعة وإنما هو بمثابة دفاع عن النظام وإسهام فى قتل السوريين المتمردين الذين ثاروا على مظالمه ــ وأن دخول عناصر حزب الله إلى سوريا بمثابة اصطفاف من جانب الشيعة. أو القطاع الأكبر منهم، إلى جانب النظام وشبيحته الذين ينتمى أغلبهم إلى الطائفة العلوية.

هذه الخلفية بررت تصريحات مسئولى الجيش السورى الحر التى تحدثوا فيها عن القيام بعمليات من جانبهم على مواقع حزب الله داخل لبنان، ردا على دخول عناصر الحزب إلى الأراضى السورية. وهى خطوة إذا تمت فإنها ستعنى توسيع نطاق الحريق ومن ثم تسهم فى تفجير الوضع الداخلى للبنان، وقد تصل شرارة الحريق إلى العراق الملتهب الذى يحتشد فيه أهل السنة فى الأنبار ويتأهبون للثورة والانتفاض على النظام المذهبى القائم فى بغداد. ثم إن تدخل شيعة لبنان فى الصراع الدائر بسوريا يسوغ استنفار بعض جماعات أهل السنة واستدعاءهم إلى الساحة السورية لنصرة إخوانهم هناك.

لا نستطيع أن نحمل السيد حسن نصر الله وحده المسئولية عن إشعال نار الحرب المذهبية فى العالم العربى، بل أزعم أنه قاوم بشدة تلك النزعة طوال السنوات التى خلت، وعقد تحالفات عدة لتعزيز جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وإبعاد شبهة الاصطفاف الطائفى عنها، خصوصا فى مواجهة العدوان الإسرائيلى، إلا أن تلك الخلفية المبكرة لا تشفع ولا تبرر مشاركة حزب الله فى الدفاع عن نظام دمشق والاشتباك مع المقاومة السورية التى ثارت على النظام وإنما أقول بوضوح إن اندفاعه فى ذلك الاتجاه يعد خطأ سياسيا جسيما من جانبه سحب أغلب رصيده الإيجابى فى العالم العربى والإسلامى. فى الوقت ذاته فإنه بات متعذرا إقناعنا بأن انخراط حزب الله فى معركة القصير مقطوع الصلة بالتحيزات المذهبية.

اقرأ أيضا  رشيدة طليب: إسرائيل تستهدف الإعلام حتى لا يرى العالم جرائمها

(2)

منذ قامت الثورة الإسلامية فى إيران فى عام 1979، وتبنت موقفها المعادى للسياسة الأمريكية وإسرائيل، تذكر كثيرون أن الإيرانيين شيعة وأنهم فرس لبعضهم علاقة تاريخية بالمجوس، وأن دولتهم الصفوية خاضت حربا شرسة ضد الدولة العثمانية التى تزعمت عالم أهل السنة، كما تذكروا أن لإيران تطلعات وأطماعا فى منطقة الخليج الذى تعاركنا على اسمه، وهل هو فارسى أم عربى أم خليج إسلامى، كل تلك العناصر ظلت ساكنة وكامنة، فى ظل حكم أسرة بهلوى، الأمر الذى أنسانا أن الإيرانيين شيعة وأننا نختلف عنهم ونتقاطع معهم لأننا من أهل السنة، ذلك كله استيقظ وجرى تنشيطه وتأجيجه بعد الثورة. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن أسباب «الفتنة» المذهبية ظلت نائمة ومغيبة طوال الوقت، ولم يتم إيقاظها إلا بعد وقوع الزلزال السياسى المتمثل فى قيام الثورة وانقلابها على السياسات الشاهنشاهية.

فى أثناء الحرب العراقية ــ الإيرانية التى بدأت فى العام التالى مباشرة لقيام الثورة واستمرت تسع سنوات، استخدمت فى الصراع كل الأسلحة المتاحة، وكانت المسألة الطائفية ضمن تلك الأسلحة. تزامن ذلك مع صدور سيل من الدراسات والتقارير الأمريكية التى ركزت على الخلافات بين السنة والشيعة، ولم تر فى العرب أمة تتسم هويتها بالثراء والتعدد، ولكنها تحدثت عنهم بحسبانهم مذاهب وفرقا وجماعات متساكنة. وجاء احتلال العراق فى عام 2003 لكى يجسد تلك الفكرة، ذلك أن المجلس الانتقالى الذى تشكل بعد سقوط النظام البعثى لم ينطلق من النظر إلى العراقيين باعتبارهم شعبا واحدا، ولكنه حرص على تمثيلهم فى المجلس باعتبارهم فرقا وشراذم تتوزع بين الشيعة والسنة والأكراد وبعض الأقليات الأخرى.

وفى أجواء الفراغ المخيم على العالم العربى استقرت تلك الصيغة حتى تبلورت فى تقسيم للعراق إلى ثلاثة أقاليم بين الشيعة والسنة والأكراد، الأمر الذى يمهد لاندثار الدولة العراقية بمضى الوقت.

فى هذا السياق لا نستطيع أن نتجاهل الصراع التاريخى بين الوهابيين والشيعة الذى تمتد جذوره إلى بدايات القرن التاسع عشر. وللطرفين معارك شرسة وطويلة ظلت تدور فى فلك الكتابات والانتقادات التى تبادلها الجانبان. وهذه الكتابات هى التى شكلت الخلفية الثقافية لجماعات السلفيين وأجيالهم المتتابعة. والمتابع لتاريخ ذلك الصراع يلاحظ أن تلك المعارك ظلت هامشية ولم تتجاوز الساحة الثقافية والفكرية طوال السنوات التى سبقت قيام الثورة الإيرانية. ولكنها وظفت سياسيا وانتعشت بعد الثورة وتعالت مؤشراتها طوال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وحين برز دور الجماعات السلفية عقب الربيع العربى فإنها ظلت على عدائها للشيعة. ورأينا تجليات واضحة لذلك العداء فى مصر خلال العام الأخير، حين اتجهت القاهرة إلى محاولة تطبيع العلاقات مع إيران، الأمر الذى قاومه السلفيون بشدة ونددت به أبواقهم المختلفة، حتى أنهم تظاهروا أمام مقر القائم بالأعمال الإيرانى فى القاهرة. وهددوا بمحاصرة مطار القاهرة إذا ما جاء السياح الإيرانيون إليها. وفى حملتهم تلك فإن بعضهم وجه سهامه إلى عقائد الشيعة وتعاليم مذهبهم، ومنهم من شكك فى مقاصدهم وحذر من نشر مذهبهم فى أوساط أهل السنة.

اقرأ أيضا  السديس: طرق الكترونية وميدانية ذكية لمراقبة مشروع سقيا زمزم في البيت الحرام

(3)

لا نستطيع أن نبرئ ساحة الطرف الإيرانى ونعفيه من المسئولية عن تأجيج الصراع الطائفى مع أهل السنة. ذلك أن موقف إيران من العراق مسكون بشبهة التحيز الطائفى الذى يتعذر إنكاره. والشواهد والقرائن اليومية تدل على أن وجود إيران هناك يتجاوز بكثير متطلبات الدفاع عن أمنها القومى، ولا يدع مجالا للشك فى أن له بعده الطائفى وتحيزه المذهبى، الذى أوقع بأهل السنة مظالم كثيرة ودفعهم فى الوقت الراهن إلى التعلق بفكرة الاحتماء بإقليم خاص بهم يجنبهم ويلات تلك المظالم. لا أنكر أن قلة من القيادات الشيعية تحارب المنظومة الطائفية فى العراق وفى لبنان إلا أن ذلك لم يغير من واقع الحال، الذى يغذى الصراع الطائفى ويؤججه.

صحيح أيضا أن الدولة الإيرانية أيدت ودعمت بصور عدة المقاومة الفلسطينية ولها موقفها المشرف من القضية الفلسطينية، كما أنها رحبت بتجليات الربيع العربى بصورة أو أخرى، وتلك كلها تفاعلات شهدتها مجتمعات أهل السنة، وهو ما يحسب لها، لكنه لا يلغى الممارسات الأخرى السابق الإشارة إليها، التى ينبغى أن تحسب عليها.

لا يقف تأثير ذلك الصراع الطائفى البائس عند حدود تمزيق الأمة وإضعافها فى مواجهة تحديات وخصوص تهدد الطرفين ولا تفرق بين سنى وشيعى، بل تتمنى لهما أن يتقاتلا حتى يفنى كل منهما الآخر. وإنما هناك أثر آخر لا يقل خطورة يتمثل فى أن احتراب الأشقاء يلهيهم عن أعدائهم الحقيقيين وعن معاركهم المصيرية.

لقد تحدث تقرير لمعهد «بروكينجز» الأمريكى صدر فى شهر ابريل الماضى عن أن الصراع بين السنة والشيعة أصبح يحتل مكانة متقدمة على صراع العرب والمسلمين ضد الهيمنة الغربية، بل إنه أصبح متقدما أيضا على أولوية القضية الفلسطينية، التى لم يعد كثيرون فى العالم العربى يهتمون بها. وهذا كلام صحيح بصورة نسبية، بمعنى أنه ينطبق على خطاب النخب فى العالم العربى الذى تروج له المنابر الإعلامية المعبرة عنهم. وقد رأينا أخيرا فى مصر كيف أن السلفيين أعلنوا غضبهم واحتجاجهم على السماح للسياح الإيرانيين بزيارة مصر، فى حين لم نسمع لهم صوتا احتج على السياحة الإسرائيلية، إلا أننا نلاحظ أيضا أن القضية الفلسطينية لم تعد تحتل موقعها المركزى لا فى خطاب النخب ولا فى السياسات العربية، ولا أستثنى ذلك دول الربيع العربى، ومصر فى المقدمة منها.

اقرأ أيضا  لجنة الإنقاذ الطبية الطارئة تواصل توزيع المساعدات الغذائية للاجئين الفلسطينيين في جنوب غزة

(4)

لا أجد حلا لتلك المشكلة إلا بالدعوة إلى فك الارتباط بين ما هو سياسى وما هو مذهبى. حيث لا أرى غضاضة فى الاشتباك مع السياسة الإيرانية أو العراقية أو السورية أو غيرها. حيث أزعم أن نقد تلك السياسات والدعوة إلى تغييرها واجب لأن أخطاءها وحساباتها هى التى توردنا موارد التهلكة. لكن ذلك ينبغى ألا يورطنا فى تجريح المذهب الذى لا سبيل إلى تغييره، ومن المفارقات أننا فعلنا ذلك مع إسرائيل، حين فرقنا بين اليهودية من حيث إنها ديانة، واستمرت إدانتنا للحركة الصهيونية من حيث إنها سياسة. وقد بحت أصواتنا ونحن نقول إننا عمليا وتاريخيا ليس لدينا مشكلة مع الديانة التى تعايشنا معها، لكن مشكلتنا ومعركتنا الأساسية كانت ومازالت مع السياسة الصهيونية التى سوغت اغتصاب فلسطين وأقامت الدولة العبرية على أنقاضها.

لماذا لا نقول صراحة إن معركتنا ضد سياسات نرفضها سواء من جانب إيران أو حزب الله أو حكومة المالكى فى العراق، كما أننا ضد استبداد نظام الأسد وجرائمه، لكننا لسنا ضد الشيعة أو العلويين. وحتى إذا حاولت بعض الأنظمة استخدام المذهب أو الطائفة فى تحقيق أهدافها، فإن الوعى بتلك التفرقة ينبغى أن يظل حاضرا فى الأذهان طول الوقت. فنحن نظلم الشيعة العرب مثلا إذا حاسبناهم على حسابات السياسة الإيرانية فى العراق أو أوزار حزب الله التى يرتكبها فى سوريا. حتى إذا أيد البعض منهم تلك السياسات أو انخرط فى الأوزار، فإن الإدانة ينبغى أن تلحق اختياره السياسى وليس انتماءه المذهبى.

قد يرى البعض أن التفرقة بين ما هو سياسى وما هو مذهبى صعبة فى حالات كثيرة، لكنى أزعم أنها ضرورية ولا بديل عنها، لأن المعارك مع السياسات محدودة الأجل، أما المعارك ضد المذاهب والانتماءات العقيدية فهى عبثية وبلا نهاية، ناهيك عن أنها وصفة تقليدية ومضمونة المفعول للانتحار.

المصدر: وكالة معراج للأنباء-مينا

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.