اغتنم حياتك قبل موتك
الثلاثاء 23 ربيع الثاني 1437//2 فبراير/شباط 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
نورا عبدالغني عيتاني
مررتُ بفترة ركود في الحياة جعلتني أرى الحياة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، كنتُ أظنُّ أن الإنسان في هذه الحياة مكتوب عليه أن يُعاني فقط، ولا مجال للسعادة أبدًا، لم أكن أعي أن للحياة بعدًا آخر أعمق، ولم أكن أبحث في الأصل عن أي بعد آخر غير هذا البعد المأساوي، نسبةً لحالة اليأس والإحباط التي ظلَّت تُحيط بي لفترة من الزمن، كنتُ أشعُر بالفراغ المُطلَق يُحاصرني، سواء في البيت أو العمل، وعلى الرغم من تتابُع النجاحات، كان الملل رفيق دربي.
إلى أن جاء اليوم الذي قررت أن أهرب فيه من حالة يأسي وإحباطي، وفراغي… نعم؛ قررتُ الهروب، ولم أفكِّر في الخروج من حالة اليأس يومًا؛ ظنًّا مني بأنه لا سبيل للخروج من حالة اليأس هذه إلا بالموت! وكنتُ بالفعل أنتظر الموت كل يوم؛ إذ إنني لم أكن أرى أي فرق ما بين الحياة والموت، تداخَل المفهومان عندي واختلَطا، فكنتُ كل يوم أعيش حالةً من الموت المستمر؛ لذا قررت الهروب قبل الموت الأخير، قرَّرت أن أعيشَ حالة موتٍ مؤقَّت قبل موتي الفِعلي..الأحلام لم تَعُدْ تؤثِّر فيَّ، ولم أعُدْ أثق بها، كل ما حلمتُ به خذَلني، ولم أعد أرى في الأحلام ملجأً للسعادة كما كنتُ أفعل في الصِّغر، فحاولتُ أن أعيش حالةً من العُزلة عن كلِّ شيء؛ كيلا أتألم مِن أيِّ شيء بعد ذلك.
الغريب أنَّني كنتُ كلَّما حاولت الهروب من شيء، فوجئتُ به يتبعني، ولم أكن أملك القدرة على مقاومة الأحلام على الرغم مِن علمي المُسبق بقِصَر عمرِها، ربما لحاجتي الماسة للحُلم، ولو كان مؤقَّتًا، حاولت الهروب من الأحلام، لكنَّ الأحلام ما فتئت تُطاردني، تُحاصرني، وكأنها مقدَّر لها دومًا أن تولد رغمًا عنِّي، لتموت من جديد، وتُميتني معها ميتةً أخرى جديدة!
حلم أخير طارَدَني، تحوَّل إلى كابوس، وكانت نهايته كالعادة موتًا آخر مأساويًّا، لكن، مِن هذا الحلم الأخير خاصة، تعلَّمتُ الكثير، وعرفت معنى الحياة، المعنى الأعمق إذا صح التعبير، قلتُ: لا بدَّ من وجود حكمة من وراء هذا الأمر، لا يُمكن أن تكون الحياة فقط عبارة عن مراحل مُتتالية من الموت المتكرِّر، لا ريب أنَّ هناك سرًّا في الموضوع، وبحثتُ عن العِبرة، فوجدت أن السر يَكمن في الحلم نفسه، وفي نظرتي الخاصة للحلم، وأبعاد الحلم.
عرفتُ أنَّ الحياة أعمق من مجرَّد حلم سطحي يولد ليموت؛ لأنه حلم ماديٌّ بحت لا استمرارية لوجودِه، وهكذا تكون الحياة المادية دومًا، مؤقَّتة، نهايتها قطعيَّة ومُحتمة.
توصَّلت إلى النتيجة: كل الأحلام لها نهاية، وكل حياة مادية ستواجه الموت لا محالة، لكن الذي يبقى هو روح الأشياء، ومثاليَّتها في التجرد إذا صح التعبير، فكلما كان الحلم أسمى، ودوافعه أجل، كان الأثر أبلغ، فإن مات يومًا ظل أثره باقيًا حتى بعد موته!
يُمكن قياس الأمر نفسه على الإنسان، فكما نلاحظ أنه إن أحببْنا إنسانًا ومات هذا الإنسان تظل ذكراه في أذهاننا وقلوبنا عالقة، ولا يُمكن أن يموت حبُّنا له بمجرد موته!
السبب في ذلك أننا قد أحببنا هذا الجزء المجرَّد فيه، الأبعد من حدود المادة الضيقة.. صدقه في التعامل معَنا، طيبته، روعته… إلخ، باختصار أحببْنا الجانب الروحي فيه، وأعماله التي علق أثرها الحسي فينا إلى ما بعد انتهائها وزوالها المادي.
هذه بالتحديد هي الحياة؛ فقيمة الحياة تتجلَّى فيما لها من أثر حسي مجرَّد يبقى بعد زوال الحياة نفسها، هي مرحلة مؤقتة زائلة لا شكَّ في الأمر، لكن بزوالها لا يزول كل شيء، بل زوالها هذا هو الذي يؤدي إلى اكتشاف روعة كل شيء، والوصول إلى الجمال المطلق الكامل اللامتناهي، فلولا معرفتنا لمعنى القليل لما عرفنا قيمة الكثير، ولولا تجربتنا للمؤقت لما توصلْنا إلى روحية الأبدي المستمر الدائم.
الحياة والموت إذًا لا يَنفصِلان، ولا يَنبغي أبدًا أن نفصل أنفسنا عن الحياة حتى لو كُنا مُدركين لأحقيَّة الموت وحتميته، بل يجب علينا اغتنام هذه الفترة المؤقَّتة قدر استطاعتنا، واستخدامها للاكتشاف والتعلُّم والترقي كل يوم.
يجب أن تكون الحياة حالةً من التعلم المستمر والبناء المستمر الذي يمهِّد للحياة الأبدية الآتية بعد الموت، ويحدِّد مسارها، والأهم من ذلك كله، يجب أن نجعل من الحياة وسيلةً لا غاية، تؤدِّي بنا للوصول إلى الله، والحقيقة المُطلَقة، والسعادة الأبدية الحقيقية.
لا يعني هذا أن سعادتنا لن تتحقَّق إلا بعد موتنا، بل إن السعادة ستُرافقنا في رحلة الحياة الأبدية منذ ولادتنا إلى حين موتنا، وحتى بعد موتنا إن شاء الله لنا ذلك.
علينا أن نربط حياتنا بالله فحسب؛ لنرتقي بأحلامنا إلى أسمى المراتب، فإن أحببْنا أحبَبْنا في الله، وإن عمِلْنا عملنا لله، وإن تحدَّثنا تحدَّثْنا عن الله، وإن عِشْنا عِشْنا لنَعبُد الله ونُرضي الإله، وهذا هو سرُّ الوجود، ومنبع السعادة الأبدية الدائمة!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يَعِظه: ((اغتنم خمسًا قبْل خمس؛ شبابك قبل هَرَمِك، وصحَّتك قبل سقَمك، وغناءَك قبل فَقرك، وفراغَكَ قبْل شُغلِك، وحياتَك قبْل موتِك))؛ صحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
إذا اكتفينا فقط بالجزئية الأخيرة من الحديث الشريف: ((اغتنم حياتك قبل موتك)) ماذا نتعلَّم؟ وكيف السبيل إلى اغتنام هذه الحياة قبل الموت؟
((اغتنم حياتك قبل موتك))؛ أي: استفدْ مِن حياتك قدر المستطاع، وأيقِظْ هِمَّتك، وأَوقِد حماستك، وتعلم من الحياة الدنيا الأولى معنى الحياة الخالدة الأخرى، وابنِ دعائم الآخرة على دعائم متينة أسسْتَها هنا في هذه اللحظة خاصة.
اليوم أُدرك أن الحياة على الرغم مِن قصرها ليست لا شيء، بل هي كل شيء، إذا ما نحن أحسنا استغلالها؛ فهي طويلة بقدر ما نبذل فيها من أعمال، وما نشحذ فيها مِن هِمَمٍ!
الحياة دار العمل، وهي دار الاختبار الذي سيوصِّلنا، إذا ما اجتهدنا، إلى أعلى المراتب والدرجات، لكن بدايةً علينا أن نؤمن بأهمية الحياة وجدواها، وأن نَنظر لها من أبعاد أخرى جديدة، نرقى بها فينا وترقى بنا معها، لنَصِل عبرها، بأعمالنا الجليلة السرمديَّة، نحو أعلى المراتب والقمم، وننجو؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، فمَن عرف الحق وتبع الإشارات واتَّبع شرعة الله التي ارتضاها أفلَحَ، وجعَلَ الله له نورًا في الدنيا وبصيرةً، ونورًا في الآخرة ونجاةً؛ ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
نعم، قد يتعرض الإنسان مِنا في الحياة إلى مواقف أو لحظات تؤثر في نفسه، وقد تكون هذه المواقف هي نقطة التحول في حياته، ومَن مِنا لم يمر بمواقف أو لحظات من الحزن والصدمات والعثرات؟ مَن مِنا لم يتلطَّخ بِوَحَلِ الحُفَر التي تتخلل الطرقات، قبل أن يَصل إلى الطريق المعبد الخالي من الحفر؟ كلُّنا مررْنا بمواقف أثرت في نفوسنا، فالحياة عبارة عن دروس متتالية، أغلبها محبوك بالألم، لكننا لا نرى إلا وجهها الظاهري المؤلم، ولا نكلِّف أنفسنا عناء التفكير بحكمة الألم هذه!
الألم يعلمنا الأمل، ويدفعنا نحو التغير دفعًا، يُشعرنا بحالة من التحدي، تحدٍّ للذات قبل كل شيء، وتحدٍّ للظروف وللمواقف بعد ذلك، وكذلك تحدٍّ للأشخاص المتسرِّبين إلى ثغراتنا المولودة بين ظروف ومواقف، المواقف تعلمنا أن نسدَّ الثغرات التي ولدتها المواقف ذاتها، والظروف تُعلِّمنا التأقلم مع كل أنواع الظروف، حتى نَصل إلى تخطِّي كل الظروف، والعيش بتجرُّد لا قيود فيه.
الألم يُعلِّمنا التحرر من الخوف؛ لأنَّنا جرَّبناه، وخبرنا طعمه، والحزن يذكِّرنا دومًا بحقيقة كوننا بشرًا، نمتلك كل أنواع المشاعر المتناقضة المتضادة، وهذا بالتحديد ما نحتاج إليه لكي نكتمل ونتعادل ونتوازن شعوريًّا.
المشاعر كما في الرياضيات، تَختزل بعضها بعضًا، ليكون الإنسان سويًّا، مُتواضِعًا، قنوعًا، راضيًا بكل ما حباه مولاه وأعطاه، فإنْ أعطاه الله شكر، فضمِن استمرارية النِّعم بشُكره لها، وإن منَعَه الله تفكَّر، وأيقن أن في منعه هذا حكمة إلهية بالغة، وعدالة ربانية متوازِنة، فيها الخير الكثير، وإن لم يكن ذلك ظاهرًا للعيان!
فكل منْع أو حرمان غالبًا ما تكون في طياته رسالة دعوة من الله، يدعونا فيها للعودة والإنابة إليه، وتخصيصه وحده بالعبودية التامَّة المطلقة دون سواه، فلا نربط حياتنا أبدًا بشيء مادي زائل، ولا نترك لأنفسنا الحبل على الغارب، فتتعلق بالأوهام أو الأشخاص أو الماديات الزائلة التي لا تَملك لنا نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله.
اليوم أُحاول قدر استطاعتي أن أكون بالفعل مستحقَّةً لهذه النعمة التي مَنَّ الله بها عليَّ، نعمة الإسلام، ونعمة الحياة لأجل خدمة هذا الدين، اليوم أحاول ألا أفعل أي شيء يُغضِب الله، ولو كان بسيطًا في نظري ونظر البعض، الآن أملي في الله بات أكبر، وطموحاتي لا حصر لها، وإيماني بالله أشد وأكبر، ويقيني بالله لا حدود له.
اليوم أصبحت أبحث عن الحكمة في كل شيء يمر بي، مهما كان قاسيًا عليَّ أو لا يناسب هواي، وأحمد الله على كل شيء أعطانيه أو حرمني منه.
اليوم بتُّ أشعر حقًّا بمعنى الرضا، وقيمة الرضا، وروعة الرضا بالله، الذي لا يوصل إلا إلى الرضا المُطلَق، وحسبي قول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام: ((مَن رضي، فله الرضا)).
اليوم ما عدتُ أبحث عن الأُنسِ بين الناس، ولا عاد يَعنيني رضاهم أو سلوكُهم تِجاهي، اليوم أتعامل مع رب الناس، وذلك يكفيني!
أسلِّم أموري كلها لله، وأتوكَّل عليه، وأنا مُدركة تمام الإدراك أن الله لن يَخذلني يومًا كما يفعل البشر، وفي توكلي هذا أمان وطمأنينة وراحة بال.
-الألوكة-