الاستشراق والإعجاز في القرآن الكريم (1 / 2)

الجمعة 16 ذو القعدة 1437/  19 أغسطس/ آب 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

أ. د. علي بن إبراهيم النملة

الاستشراق والإعجاز في القرآن الكريم (1 / 2)

د. علي بن إبراهيم النملة [*]

26/ 3/ 1428هـ – 14/ 4/ 2007

  • المدخل.
  • نقل المعلومة الشرعية.
  • العناية بكتاب الله تعالى.
  • الدافع لترجمة معاني القرآن.

المدخل:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محَمَّد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فهذه وقفات حول النقد الذاتي للاستشراق، تتمحور حول نظرات الأوائل من المستشرقين حول القرآن الكريم، من حيث كونُه كلامَ الله تعالى، منزَّلاً على رسوله محَمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -، من خلال وسيلة هي جبريل – عليه السلام-، ومحاولات طلائع المستشرقين إنكار أنْ يكونَ القرآن الكريم كتابًا منزَّلاً من عند الله تعالى، ومن ثمَّ إنكار أنْ يشتمل على أيِّ نوع من أنواع الإعجاز، بالإضافة إلى الادِّعاء بأنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد استعان، في “تأليف” هذا الكتاب المجيد، ببعض معاصريه من أهل الكتاب. وسعى هذا البحثُ إلى التركيز على ردِّ المستشرقين على المستشرقين، فيما يمكن أنْ يدخُل في مفهوم النقد الذاتي للاستشراق.

تأتي هذه الوقفاتُ استجابةً لدعوةٍ كريمةٍ مشكورة من الأستاذ الدكتور محَمَّد عبدالرحيم محَمَّد عميد كلِّية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربية، رئيس المؤتمر الدولي الثالث عن العلوم الإسلامية وقضايا الإعجاز في القرآن والسنَّة بين التراث والمعاصرة، الذي يُعقد في رحاب جامعة المنيا، كلِّية دار العلوم.

آمل أنْ أكون قد وفِّقت في إثارة هذا الموضوع، بما يفتح المجال إلى مزيد من التركيز، من قبَل الباحثين العرب والمسلمين، على نظرة المستشرقين المعاصرين لأسلافهم من طلائع المستشرقين، في مواقفهم من الإسلام والقرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة، وما طرأ على هذه النظرة من تطوُّر أملته الحالة الثقافية المعولمة، التي برزت في الزمن المعاصر، دون اللجوء إلى التعميم في الأحكام، الإيجابية أو السلبية، على الاستشراق،وبما يكْفُل قدرًا من الإنصاف والاعتدال، في ضوء هذا التلاقُح الثقافي والحضاري بين الأمم، مما يستدعي قدرًا غيرَ مستهانٍ به من التسامُح والعدل في الأحكام العلمية وصنوف التعامُل الأخرى.

نقل المعلومة الشرعية

من وسائل نشر المعلومة الشرعية نقلُها لغويًا، من اللغة العربية إلى لغات أخرى، يتحدَّثها من لا يتحدَّثون العربية، من المنتمين للإسلام، ومن غير المنتمين إلى الإسلام. وتسمَّى هذه الوسيلة بالنقل والترجمة[1].

وأوَّل ما يتبادر إلى الذهن في مسألة ترجمة المعلومة الشرعية ترجمة معاني القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى[2].

القرآن الكريم كلامُ الله تعالى، المنزَّلُ من عنده، بواسطة جبريل –عليه السلام- إلى محَمَّد بن عبدالله-صلى الله عليه وسلم- النبيِّ الأمِّيِّ، لا يرقى إليه كلامُ المخلوقين، من حيث الصياغةُ والمعنى والمدلولُ والديمومةُ، وفيه ألفاظ ودلالات لا مقابلَ لها في اللغات الأخرى، ولا تتهيَّأ ترجمته إلى أيِّ لغة أخرى ترجمةً حرفية غير ميسورة، مهما قامت المحاولات، قديمًا وحديثًا، ولذا كانت هناك محاولات للتعامُل مع هذه الاستحالة بتفسير القرآن الكريم بلغات أخرى، كما اصطلح المسلمون على محاولات الترجمة، خروجًا من هذا الحرج، بأنَّها تعامُلٌ مع المعنى. [3]

من سمات الإعجاز في القرآن الكريم إعجازه العلمي، بالمفهوم العلمي العام الذي لا يقتصر على العلوم التطبيقية والبحتة، إذ لا بُدَّ من التوكيد على توسيع رقعة المفهوم العلمي، من حيث كونُهإعجازًا قرآنيًا ليشمل السمات العلمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والتربوية، التي جاءت إشارات لها في كتاب الله تعالى، دون الاقتصار فقط على العلوم التطبيقية (التجريبية) والبحتة.

يختلف التفسير العلمي للقرآن الكريم عن الإعجاز العلمي لكتاب الله، إذ إنَّ التفسير العلمي “هو الكشف عن معاني الآية في ضوء ما ترجَّحت صحَّته من نظريات العلوم الكونية. أما الإعجاز العلمي: فهو إخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرًا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم -“[4].

تعالج هذه الصفحات موقفَ بعض المستشرقين من الإعجاز في القرآن الكريم، مع التركيز على نقد جهود المستشرقين في التعاطي مع القرآن الكريم بصفته وحيًا منزَّلاً على سيِّدنا رسول الله محَمَّد ابن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -، بما في ذلك نقد جهود هؤلاء المستشرقين في مصدرية القرآن الكريم، من حيث نزولُه وحيًا من عند الله تعالى، في مقابل كونه تأليفًا من رسول الله محَمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -، أعانه عليه قوم آخرون.

العناية بكتاب الله تعالى:

منذ أنْ ختم الله تعالى الأديان كلَّها بالإسلام، وختم الأنبياء والرسُل كلَّهم بمحَمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -، وختم الكتبَ السماويةَ كلَّها، بالقرآن الكريم، وهذا الكتاب المنزَّل هو محطُّ اهتمام المسلمين، وغير المسلمين، بالتفسير والتحليل،والسعي إلى فهمه وتمثُّله من المسلمين، والوقوف على أسرار تأثيره في النفوس من غير المسلمين[5].

تَعرَّفَ كثيرٌ من المستشرقين الأوائل على النصِّ القرآني من خلال ترجمة المستشرقين أنفسهم لمعانيه إلى اللغات الأوروبية، التي اعتمد لاحقها على سابقها، مما كان سببًا من أسباب الالتفات عن الإعجاز في القرآن الكريم. ويمكن القول إنَّه من تعرَّض لنصِّ القرآن الكريم، من المستشرقين والعلماء الغربيين، بلغته العربية كانت له مواقفُ أكثر نزاهةً ممَّن تعرَّضوا للنص القرآني مترجَمًا من مستشرقين.

الذين تعرَّضوا للقرآن الكريم من منطلق أدبي كانوا أكثر تركيزًا على إعجاز القرآن الكريم. ولا تكاد دراسات المستشرقين عن أدب العصر الجاهلي تخلو من التعرُّض للقرآن الكريم، على اعتبار أنَّ القرآن الكريم معجزٌ بلاغةً، كما أنَّه معجز من نواحٍ أخرى مختلفة[6].

لا يتوسَّع هذا البحث للحديث عن الإعجاز نفسه، فمنذ أنْ درس المسلمون الإعجاز البياني في القرآن الكريم، منذ علي بن عيسى الرمَّاني الإخشيدي الورَّاق (276 ـ 384هـ) في كتابه: الجامع لعلم القرآن، وحمد بن محَمَّد بن إبراهيم بن الخطَّاب البُستي “الخطَّابي” (319 ـ 388هـ) في كتابه: إعجاز القرآن،ومحَمَّد بن الطيِّب بن محَمَّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاَّني (338 ـ 403هـ)، في كتابه: إعجاز القرآن، والإنتاج العلمي في هذا المجال يزداد مع الزمن[7].

يمكن القول، دون تعميم: إنَّ دراسات المستشرقين الأوائل حول المعلومة الشرعية لا تكاد تخلو من الخلل، إمَّا أن يكون غير مقصود، أو يكون متعمَّدًا. ذلك أنَّ هؤلاء الدارسين للمعلومة قد افتقدوا إلى عاملين مهمَّين:

أوَّلهما: الافتقار إلى الانتماء إلى هذه المعلومة، وما تمثِّله من ثقافة، ومن ثمَّ أعطاهم عدمُ الانتماء الجرأةَ في الحكم والتحليل،دون النظر إلى التأثير، ولو كان هذا التأثير سلبيًا.

العامل الثاني: هو افتقارهم إلى الإلمام باللغة التي جاءت بها المعلومة الشرعية، وهي، هنا، اللغة العربية، رغم محاولاتهم الجادَّة للسيطرة عليها[8].

هذا العامل الثاني أخفُّ بكثير من العامل الأوَّل، ولكنَّ تأثيرَه بدا واضحًا، من خلال اضطرار المستشرقين إلى الاستعانة بالضليعين باللغة العربية من العلماء والأدباء العرب، يقرأون لهم، وينسخون ما يكتبون. وقد حرصوا على أصحاب الخطوط الجميلة، في ضوء تعميم المطبعة ووسائل الاستنساخ الحديثة، ومن هؤلاء العلماء والأدباء (مرتَّبة أسماؤهم هجائيًا): إبراهيم شيُّوخ، وابن أبي شنب، وأحمد تيمور، وأحمد زكي، وأحمد عبيد، وإحسان عبَّاس،والقاضي إسماعيل الأكوع، وحسن حسني عبدالوهَّاب، وحمد الجاسر، وصلاح الدين المنجِّد، والشيخ طاهر الجزائري، والعابد الفاسي، وعبدالحيّ الكتَّاني، وفؤاد سيِّد، والفقيه التطواني،وقاسم الرجب، وكوركيس عوَّاد، ومحَمَّد إبراهيم الكتَّاني، ومحَمَّد رشاد عبدالمطلِّب، ومحَمَّد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي، ومحَمَّد المنوني، ومحَمَّد يوسف نجم، ومحمود محَمَّد الطناحي[9].

يقول رشيد رضا في كتابه: الوحي المحَمَّدي: “إنَّ ترجمات القرآن التي يعتمد عليها الإفرنج في فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤدِّيها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر. وهي إنما تؤدِّي بعض ما يفهمه المترجم له منهم، إنْ كان يريد بيان ما يفهمه. وإنَّه لمن الثابت عندنا أنَّ بعضهم تعمَّدوا تحريف كلمه عن مواضعه. على أنَّه قلَّما يكون فهمهم تامًّا صحيحًا. ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا، بل يجتمع لكلٍّ منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه وقصور لغته”[10].

يعترف المستشرق الفرنسي المعاصر جاك بيرك أنَّ محاولته ترجمة معاني القرآن الكريم “ليست غير محاولة لتفسير معاني القرآن الكريم؛ لأنَّ الترجمة الحقيقية للنصِّ القرآني مستحيلة،فألفاظ وعبارات القرآن الكريم لها مدلولات ومؤشِّرات عميقة، ولا تستطيع اللغة (القابلة) أنْ تنقلها بكلِّ ما تحتويه من معانٍ ظاهرة وخافية”[11].

يقول مصطفى عبدالغني: “إنَّ مراجعة ترجمة جاك بيرك، هنا،تشير إلى أنَّه ـ مثل عدد من المستشرقين ـ رغم استخدامه لعدد من المناهج الغربية الجديدة على النصِّ، فإنَّه ما زال يحمل رواسبَ تاريخيةً واجتماعيةً خاصَّةً في التفسير أكثر من محاولة صارمة في المنهج”[12].

اصطَلَح المسلمون على أنْ يطلقوا على عملية نقل القرآن الكريم، وترجمته من اللغة العربية إلى أيِّ لغة أخرى، ترجمة معاني القرآن الكريم[13]، ويتحرَّج المسلم العالِمُ من إطلاق الترجمة على القرآن الكريم، دون أن تكون مقيَّدةً بترجمة المعنى. [14]

كان هذا مخرَجًا حفِظَ للقرآن الكريم مكانته، بلغته العربية، ودفع كثيرين من غير العرب إلى تعلُّم اللغة العربية، ليستطيعوا تذوَّق القرآن الكريم، باللغة التي نزل بها. كما أنَّه كان مخرجًا لتعدُّد ترجمات المعاني في اللغة الواحدة، على أيدي أبنائها وغير أبنائها، بل ربَّما تعدَّدت ترجمة المعاني باللغة الواحدة على يد مترجم واحد، حيث يتبيَّن له دائمًا التقصير الذي يعتريه، مع كل ترجمة للمعاني. وهذا من طبع البشر. [15]

يقول عبدالله بن عبدالمحسن التركي في مقدِّمته للتفسير الميسَّر: “كان غير العرب ـ بمجرَّد دخولهم في الإسلام ـ يتعلَّمون لغة العرب، ليقرؤوا القرآن ويفهموه ويعملوا به. وحينما انحسر المدُّ الإسلامي، وضعُف المسلمون، وقلَّ الاهتمام بالعلوم الإسلامية ولغتها العربية، ظهرت الحاجة إلى ترجمة معاني كتاب الله لمن لا يتكلَّم اللغة العربية ولا يفهمها، إسهامًا في تبليغ رسالة الإسلام للناس كافَّة، ودعوةً لهم إلى هدي الله وصراطه المستقيم.

وتعدَّدت الترجمات، ودخل في الميدان من ليس أهلاً له، بل قام بذلك أناسٌ من غير المسلمين، ممَّا جعل الحاجة ملحَّةً إلى أنْ يعتني المسلمون بتوفير ترجمات صحيحة لمعاني كتاب الله،وبيان ما في بعض الترجمات من أخطاء وافتراء ودسٍّ على كتاب الله الكريم، ورسالة نبيِّنا محَمَّد – صلى الله عليه وسلم -“[16].

الاهتمام بالقرآن الكريم من قبل الغربيين أدَّى إلى ترجمتهم لمعانيه إلى لغاتهم، وهم غربيون، بمفهوم أنَّهم غير مسلمين. ورغم كثرتها إلا أنَّ أبرزها ترجمة المستشرق الإنجليزي جورج سيل (1697 ـ 1736م) إلى اللغة الإنجليزية، التي وضع لها مقدِّمة، قرَّر فيها أنَّ سيِّدنا محَمَّد بنَ عبدالله – صلى الله عليه وسلم – هو الذي ألَّف القرآن الكريم ـ كما سيأتي ذكره ـ وإنْ كان لم يستبعد أنْ يكونَ قد عاونه أحد من حكماء عصره، من بني قومه، أو من اليهود والنصارى![17] ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [ النحل: 103].

أعقب ذلك نقولٌ أخرى عن هذه الترجمة. وكان هذا التأثير سلبيًا، ولعلَّه كان مقصودًا؛ لصرف الآخر عن التعلُّق بالإسلام، من خلال تقديم المعلومة الشرعية الصحيحة، بالترجمة الدقيقة للمصدر الأوَّل لهذه المعلومة. هذا في ضوء غياب جهود المسلمين القادرين على تقديم المعلومة الصحيحة، من خلال الترجمة الدقيقة لمعاني القرآن الكريم، وانشغال المسلمين، في حينها،بالنظر في مشروعية النقل والترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى.

لا شكَّ في أنَّ هذا الموقف من المعلومة الشرعية كان له، في مجتمع هؤلاء الدارسين، تأثيره السلبي عليها، إذ أسهم هذا الأسلوب في إبعاد الناس عن المعلومة الشرعية الصحيحة، بما في ذلك الالتفات إلى الوقفات العلمية الكونية القائمة وقت نزول الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أو تلك الحقائق العلمية التي تحقَّق بعضها بعد نزول الوحي، أو تلك التي لا تزال تخضع للاكتشاف المتواصل مع التقدُّم العلمي والتقاني.

هذا الالتفات عن هذا الجانب الحيوي في كتاب الله تعالى أسهم في ضعف فهم الإسلام، أو في سوء فهمه من قبل الغربيين، مما كان له تأثيره على الإقبال على هذا الدين، الذي يقوم على المعلومة الشرعية الصحيحة.

التركيز، هنا، مخصَّص لمحاولات فهم الجانب الإعجازي في القرآن الكريم من أولئك الذين لا ينتمون إليه، ولا يتحدَّثون لغته العربية، ممَّا أدَّى إلى قيام محاولات لترجمة معانيه إلى لغاتهم،تعود إلى القرن السادس الهجري (سنة 536هـ)، الثاني عشر الميلادي (سنة 1141م)، حينما بدأ بطرس المحترم الكلوني هذا الجهد، وتولَّى الترجمة له الراهب الإنجليزي روبرت (روبرتوس كيتينيسيس) الكلوني، وكان، هو والراهب الآخر هيرمان الدالماتي، الذي ترجم النبذة المختصرة، ملمِّين باللغة العربية،وكانت هذه الترجمة “تزخر بأخطاء جسيمة، سواءٌ في المعنى أو في المبنى، ولم يكن أمينًا، إذ أغفل ترجمة العديد من المفردات،كما لم يتقيَّد بأصل السياق، ولم يُقم وزنًا لخصوصيات الأدب”، كما يقول يوهان فوك[18].

اقرأ أيضا  يخادعون الله والذين آمنوا

يُضيف عبدالرحمن بدوي إليهما كلاًّ من روبرت كينت، وعربي مسلم يُدعى محَمَّدا،”ولا يُعرف له لقب ولا كنية ولا اسم آخر”[19]. ويذكر محَمَّد عبدالواحد العسري أنَّ من التراجمة أحدَ المسلمين المنقلبين عن دينهم الأصلي إلى النصرانية[20]. كما يذكر محَمَّد عوني عبدالرؤوف “أنَّ أحد المغاربة من المتفقِّهين في التفسير والدين كان يمُدُّ له يدَ المساعدة دائمًا”[21].

ومع هذا فلم تكن هذه الترجمة أمينةً،”فقد كانت تعاني من نقص شديد في مواطنَ كثيرةٍ، فهي شرح للقرآن أكثر من كونها ترجمةً. لم يُعنَ بأمانة الترجمة ولا بتركيب الجملة، ولم يُعِر البيانَ القرآنيَّ أيَّ التفات، بل اجتهد في ترجمة معاني السور وتلخيصها، بصرف النظر عن موضوع الآيات التي تعبِّر عن هذه المعاني بالسورة نفسها”[22].

إلا أنَّ هذه الترجمة لم يتمّ طبعها إلا بعد أربع مئة سنة من ترجمتها، أي في منتصف القرن العاشر الهجري، (سنة 950هـ)،منتصف القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1543م)، حيث طبعت في بازل بسويسرا، إذ تولَّد جدل لدى رجال الدين في الكنيسة حول جواز نشر القرآن الكريم بين رعايا الكنيسة، ومدى تأثيره على مشروع حماية النصارى من الإسلام[23]. ثمَّ صدرت الطبعة الثانية منها، في بازل بسويسرا، كذلك، سنة 957هـ/ 1550م[24]. تلاها، مباشرة، محاولة ترجمة معاني القرآن الكريمإلى اللاتينية، وقام بها جمعٌ من رهبان ريتينا. وقيل إنَّ هذه الترجمة قد أُحرقت[25].

تعاقبت الترجمات، مستندة إلى ترجمة روبرتوس الكلوني، وعلى أيدي المستشرقين، فقد صدرت أقدمُ ترجمة إلى الإيطالية سنة 954هـ/1547م، ثم صدرت عن الترجمة الإيطالية ترجمة ألمانية سنة 1025هـ/1616م، على يد سالومون شفايجر، وعن الألمانية صدرت ترجمة إلى الهولندية سنة 1051هـ/1641م، غير معلومة اسم المترجم، ثم إلى الفرنسية، حيث ترجمها رير سنة 1057هـ/1647م[26]. وكلُّها كانت عالةً على ترجمة روبرتوس،حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ/1698م،”التي لا سبيل إلى مقارنتها، من حيث صحَّتُها،مع أيِّ ترجمة أخرى قبلها”[27].

الدافع لترجمة معاني القرآن:

يُعيد الدارسون ترجمةَ معاني القرآن الكريم، المتقدِّمة تاريخيًا،إلى دوافع تنصيرية بالدرجة الأولى، وهذا مبني على القول بأنَّ الاستشراقَ قد انطلق من الدافع التنصيري، والديني بصورة أعمَّ.

يقول ريجي بلاشير عن بوادر ترجمة معاني القرآن الكريم التي انطلقت من بطرس المحترم سنة 536 ـ 538هـ/1141 ـ 1143م:”كانت المبادرة قد انبثقت عن ذهنية الحروب الصليبية. هذا ما تثبته الرسالة التي وجَّهها بطرس المحترم إلى القدِّيس برنار،مرفقةً بنسخة من الترجمة التي كانت قد أُعِدَّت، كما انبثقت في الوقت ذاته عن الرغبة الشديدة لإزالة كل أثر للإيمان الأول، من أذهان المسلمين المهتدين. وفي رأينا أنَّ الأهميَّة التي اتَّخذها القرآن في هذا المجال قد تجلَّت في الروح العسكرية التي استمرَّت حميَّتها حتَّى بداية القرن الرابع عشر، دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون لول المتوفَّى في بورجي سنة 1315م”[28].

يقول يوهان فوك، حول هذا الارتباط، أيضًا: “ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية. فكلَّما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوَّة السلاح، بدا واضحًا أنَّ احتلال البقاع المقدَّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدَّى إلى عكس ذلك، وهو تأثُّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر”[29].

تنطلق ترجمة معاني القرآن الكريم، بعد أفول حملات الفرنجة (الصليبيين)، وبالتحديد من دير كلوني، بأمر من رئيس الدير بطرس المحترم/الموقَّر، كما مرَّ ذكره[30]. ويؤكِّد محَمَّد ياسين عريبي في كتابه: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، ارتباط ترجمات معاني القرآن الكريم بالتنصير. كما [31]يؤيِّده في هذا محَمَّد عوني عبدالرؤوف في أنَّ “الفكرة من الترجمة إذًا قد كانت من الكنيسة بعد أنْ اقتنعت أنَّ النصر لن يكون بالسلاح”[32].

يؤكِّده، كذلك، الباحثُ الدكتور محَمَّد بن حمَّادي الفقير التمسماني، في بحث له بعنوان: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها. حيث يجعل “حملات التبشير النصرانية، أحد أسباب بداية نشأة الاستشراق”[33].

يؤيِّده على هذا التوجُّه الأستاذ الدكتور محَمَّد مهر علي، في بحث له بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية ، حيث يؤكِّد الأستاذ الباحث أنَّ ترجمات معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين لم تلقَ إقبالاً إلا لدى الدوائر التنصيرية[34].

يؤيِّدهما، كذلك، الدكتور عبد الراضي بن محَمَّد عبدالمحسن في بحث له بعنوان: مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، الذي يرى أنَّ التنصيرَ كان وراء ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث انطلقت الترجمة في رحلتها الأولى والثانية من الأديرة، وعلى أيادي القسُس، وأنَّ فكرة التنصير كانت وراء ترجمة معاني القرآن الكريم[35].

هذا يؤكِّد أهمية اضطلاع المسلمين أنفسِهم بمهمَّة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما قام به بعض أبناء هذه الأُمَّة مؤخَّرًا، وكما تقوم به مؤسَّسات علمية عربية وإسلامية، لها اعتباراتها المرجعية، ومنها، على سبيل المثال، الأزهر الشريف ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة،حيث وصلت ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة عن هذا المجمَّع إلى أكثر من أربعين لغة. وهذا جهد يذكر ويشكر.

الأصل أنْ تكون هناك ترجمة واحدة، قابلة للمراجعة ومعتمدة،لمعاني القرآن الكريم لكلِّ لغة، قصدًا إلى الحيلولة دون الاختلاف في المعنى باختلاف اللفظ، يأتي هذا في ضوء وجود أكثر من مئة وعشرين (120) ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، بعضها مكرَّر في لغة واحدة، قام بها عدد من المستشرقين، وبعض المسلمين، كالإنجليزية، التي زادت عدد الترجمات بها عن 80 ترجمة[36]. وصلت طبعاتُها سنة 1423هـ/2002م إلى ما يزيد عن 890 طبعة، بعد أنْ كانت قد وصلت سنة 1400هـ/1980م إلى ما يزيد عن 269 طبعة،”سجَّلت تفاصيلَها المرجعيةَ بدقَّة الببليوجرافيا العالميةُ لترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة”[37].

ثم تتركَّز الترجمة في اللغة الواحدة بترجمة واحدة، بفضل من الله تعالى، الذي تكفَّل بحفظ هذا الذكر العظيم؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. ثمَّ إلى هذه الثُّلَّة من علماء المسلمين، مدعومين من الحكومات العربية والإسلامية، ومن المعنيين بالشأن العلمي والثقافي والفكري ممن أقاموا مراكز الدراسات والبحوث الإسلامية؛ خدمةً لهذا الدين الحنيف.

[*] أستاذ المعلومات والمكتبات.

[1] انظر في مناقشة قضية النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية: علي بن إبراهيم النملة. النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية. ـ ط 3. ـ الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية،1427هـ/2006م. ـ 204 ص.

[2] انظر في مناقشة هذه القضية: إبراهيم بن صالح الحميدان. مواصفات الترجمة المعدَّة للاستعمال في مجال الدعوة. ـ 69 ص.

في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل. ـ المدينة المنورة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423هـ/ 2002م.

[3] انظر، مثلاً: عُبادة بن أيُّوب الكبيسي. إمعان النظر في فواتح السوَر. ـ مجلَّة الدراسات الإسلامية. ـ مج 25 ع 2 (1410هـ). ـ ص 5 ـ 42. وانظر، أيضًا: عبد الفتاح عطية يونس. سر إعجاز القرآن الكريم في فواتح السور. ـ منار الإسلام. ـ مج 5 (5/ 1409هـ ـ 12/ 1988م). ـ ص 6 ـ 15.

[4] انظر: عبدالله بن الزبير بن عبدالرحمن. تفسير القرآن الكريم: مصادره واتِّجاهاته. ـ مكَّة المكرَّمة: رابطة العالم الإسلامي،1423هـ. ـ ص 139. ـ (سلسلة دعوة الحقِّ؛ 202).

[5] تتَّكئ هذه الوقفات، في أصلها ومقدِّمتها، على دراسة للباحث حول القرآن الكريم والمستشرقين، تنشرها مجلَّة البحوث والدراسات القرآنية الصادرة عن مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة. ـ ع 3 (محرَّم 1428هـ ـ فبراير 2007م).

[6] انظر: عبدالرحمن بدوي. دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي. ـ ط 2. ـ بيروت: دار العلم للملايين، 1986م. ـ 327 ص. وتعرَّض مرجليوث للإعجاز البياني في مقالته: أصول الشعر العربي، كما تعرَّض له جوستاف فون جرونباوم في: دراسات في الأدب العربي، وله، كذلك، نقد الشعر في إعجازالقرآن للباقلاَّني، وأنجليكا نويفرت في مقالتها: طريقة الباقلاَّني في إظهار إعجاز القرآن.

[7] انظر مقدِّمة المحقِّق السيِّد أحمد صقر. ـ ص 5 ـ 95.

في: الباقلاَّني، أبو بكر محَمَّد بن الطيِّب. إعجاز القرآن/ تحقيق السيِّد أحمد صقر. ـ ط 5. ـ القاهرة: دار المعارف، 1981م. ــ 395 ص.

[8] انظر مناقشة البعد اللغوي لترجمةٍ من آخر ما ظهر لمعاني القرآن الكريم لدى: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ ع 49 (شتاء 2001م ـ 1421/1422هـ). ـ ص 129 ـ 135.

[9] انظر: محمود محَمَّد الطناحي. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي مع محاضرة عن التصحيف والتحريف. ـ القاهرة: مكتبة الخانجي، 1405هـ/1984م. ـ ص 223 ـ 224.

[10] انظر: محَمَّد رشيد رضا. الوحي المحَمَّدي. ـ ط 6. ـ القاهرة: مطبعة نهضة مصر، 1375هـ/1956م. ـ ص 24.

[11] انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ مرجع سابق ـ ص 115 ـ 137. والنصُّ من ص 119، نقلاً عن: سعيد اللاوندي. محاكمة جاك بيرك: إشكالية ترجمة معاني القرآن الكريم. ـ مخطوطة.

[12] انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ مرجع سابق. ـ ص 129.

[13] انظر: مصطفى صبري. مسألة ترجمة القرآن. ـ القاهرة: المطبعة السلفية، 1351هـ.

[14] انظر: محَمَّد سليمان. كتاب حدث الأحداث في الإسلام: الإقدام على ترجمة القرآن. ـ القاهرة: مطبعة جريدة مصر الحرَّة، 1355هـ.

[15] انظر: محَمَّد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم: عرض موجز بالمستندات لمواقف وآراء وفتاوى بشأن ترجمة القرآن الكريم مع نماذج لترجمة تفسير معاني الفاتحة في ستِّ وثلاثين لغة شرقية وغربية. ـ ط 2. ـ بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1403هـ/ 1983م. ـ 338 ص.

[16] انظر: عبدالله بن عبد المحسن التركي، مشرف. التفسير الميسَّر/ تأليف نخبة من العلماء. ـ المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1418هـ. ـ ص و.

[17] انظر: عبدالحكيم فرحات. إشكالية تأثُّر القرآن الكريمبالأناجيل في الفكر الاستشراقي الحديث. ـ 23 ص.

في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 ـ 18/10/1427هـ الموافق 7 ـ 9/11/2006م. ـ المدينة المنوَّرة: المجمَّع، 1427هـ/2006م.

[18] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّا حتَّى بداية القرن العشرين/ تعريب عمر لطفي العالم.ـ ط 2.ـ دمشق: دار قتيبة، 1417هـ/1997م.ـ ص 18.

[19] انظر: انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين.ـ ط 4.ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2003م.ـ ص 441.

[20] انظر: محَمَّد عبدالواحد العسري. الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني. ـ مرجع سابق. ـ ص 122.

[21] انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ ط 2. ـ القاهرة: مكتبة الآداب، 2006م. ـ ص 67.

[22] انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ المرجع السابق. ـ ص 67.

[23] انظر: قاسم السامرَّائي. الطباعة العربية في أوروبا. ـ ص 45 ـ 108.

في: ندوة تاريخ الطباعة العربية حتَّى انتهاء القرن التاسع عشر،28 ـ 29 جمادى الأولى 1416هـ/22 ـ 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1995م. ـ أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1996م.

[24] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 15 ـ 20.

[25] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. ـ مرجع سابق. ـ ص 438 ـ 445.

[26] انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ مرجع سابق. ـ ص 67.

[27] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 20. وانظر : ص 97 ـ 98.

[28] انظر: بلاشير. القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره/ نقله إلى العربية رضا سعادة، أشرف على الترجمة الأب فريد جبر،حقَّقه وراجعه محَمَّد علي الزعبي. ـ بيروت: دار الكتاب اللبناني،1974م. ـ ص 15.

اقرأ أيضا  بين السمع والبصر في القرآن الكريم

[29] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 16 ـ 17.

[30] انظر: معلوف، أمين. الحروب الصليبية كما رآها العرب/ ترجمة عفيف دمشقية. ــ الجزائر: المؤسَّسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، 2001م. ــ 352 ص.

[31] انظر: محَمَّد ياسين عريبي. الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي. ـ الرباط: المركز القومي للثقافة،1411هـ/1991م. ـ ص 144 ـ 148.

[32] انظر: عبدالرؤوف، محَمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي.. ـ مرجع سابق. ـ ص 67.

[33] انظر: محَمَّد حمَّادي الفقير التمسماني. تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها. ـ 51 ص.

في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل. ـ مرجع سابق.

[34] انظر: محَمَّد مهر علي. ترجمة معاني القرآن الكريموالمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية. ـ 50 ص.

في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.

[35] انظر: عبدالراضي بن محَمَّد عبد المحسن. مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية. ـ 64 ص.

في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.

[36] انظر: عادل بن محَمَّد عطا إلياس. تجربتي مع تقويم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية. ـ 28 ص.

في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.

[37] انظر: عبدالرحيم القدوائي. مقدِّمة في الاتِّجاهات المعاصرة في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية/ ترجمة وليد بن بليهش العمْري. ـ مجلَّة البحوث والدراسات القرآنية. ـ مج 1 ع 1 (1/1427هـ ـ 2/2006م). ـ ص 217 ـ 229. والنصُّ من ص 218.

الاستشراق والإعجاز في القرآن الكريم (2 / 2)

  • محَمَّد – صلى الله عليه وسلم – والقرآن الكريم.
  • إدراك الإعجاز.
  • الخاتمة: الخلاصة والنتيجة.

محَمَّد – صلى الله عليه وسلم – والقرآن الكريم:

توالت ترجمات معاني القرآن الكريم، دون تدخُّل مباشر، بالضرورة، من الأديرة والكنائس والمنصِّرين، ولكن بقدر من الإيحاء الذي أملته العودة إلى الترجمات السابقة. حتى يأتي جورج سيل سنة 1149هـ/ 1734م، الذي وصف، لاهتمامه البالغ بالإسلام، بأنَّه «نصف مسلم»،[1] حيث أثنى على القرآن الكريم، وترجم معانيه إلى اللغة الإنجليزية، لكنه نفى أنْ يكون وحيًا من عند الله، بل أكَّد على أنَّه من صنع محَمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -، حيث يقول: «أمَا أنَّ محَمَّدا كان، في الحقيقة، مؤلِّف القرآن المخترع الرئيسي له، فأمرٌ لا يقبل الجدل، وإنْ كان المرجَّح – مع ذلك – أن المعاونة التي حصل عليها من غيره، في خطَّته هذه، لم تكُن معاونةً يسيرة. وهذا واضح في أنَّ مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك»[2].

وفي نصٍّ آخر للترجمة ينقله علي علي علي شاهين في كتابه: الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام: «ومما لا شكَّ فيه ولا ينبغي أنْ يختلف فيه اثنان أن محَمَّدا هو في الحقيقة مصنِّف القرآن وأوَّل واضعيه. وإنْ كان لا يبعد أنْ غيره أعانه عليه كما اتَّهمته العرب، لكنَّهم لشدَّة اختلافهم في تعيين الأشخاص الذين زعموا أنهم كانوا يعينونه وَهَتْ حجَّتهم، وعجزوا عن إثبات دعواهم. ولعلَّ ذلك لأنَّ محَمَّدا كان أشدَّ احتياطًا من أن يترك سبيلاً لكشف الأمر».[3] ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: ١٠٣].

يقول نجيب العقيقي عن هذه الترجمة: «وقد نجح في ترجمته، فذكرها فولتير في القاموس الفلسفي. وأُعيد طبعها مرارًا، إلاَّ أنَّها اشتملت على شروح وحواشٍ ومقدِّمة مسهبة، هي في الحقيقة بمثابة مقالة إضافية عن الدين الإسلامي عامَّة حشاها بالإفك واللغو والتجريح».[4] وجاءت ترجمات معاني القرآن الكريم التالية له، في معظمها، عالةً عليه، متأثِّرة به، بحيث نظر الآخرون إلى القرآن الكريم بعد جورج سيل بعينيه، ولم ينظروا إليه بعيونهم.

كون القرآن الكريم من تأليف رسول الله محَمَّد بن عبد الله، سواء أعانه على تأليفه نفرٌ من اليهود والنصارى والحنيفيين المعاصرين له أم لم يعاونه عليه أحدٌ، أدَّى إلى المزيد من الصدِّ والالتفات عن الجانب الإعجازي في القرآن الكريم؛ إذ لا يتوقَّع القائلون بأنَّ هذا من تأليف ذلك العبقري العربي، الذي عاش في القرنين السادس والسابع الميلاديين، أنْ تكون له نظرات علمية، سواء أكانت متحقِّقةً في زمانه أم أنَّها داخلةٌ في نطاق ما يأتي من الزمان، وهو الناشئ في بيئة أمِّية، وهو نفسه كان أمِّيًّا. فلم تساعد هذه النظرة إلى كتاب الله تعالى على مجرَّد التفكير بأنَّه كتاب معجز[5].

الادِّعاء أن القرآن الكريم من تأليف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي فرية استشراقية قديمة في إطلاقها، ولكنها أثَّرت كثيرًا على تأثير القرآن الكريم على قرَّاء ترجمة المعاني باللغة الإنجليزية، دون شكٍّ. بل إنَّ التأثير قد امتدَّ إلى قرَّاء ترجمة المعاني باللغة الفرنسية، عندما تبنَّى المستشرق البولوني ألبر كازميرسكي (1216 – 1295هـ/ 1801 – 1887م) نقل ترجمة المعاني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية (سنة 1256هـ/ 1840 – 1841م)، بالأسلوب الذي ترجمها به جورج سيل، حيث «تعوزها بعض الأمانة العلمية»، كما يقول نجيب العقيقي[6].

يقول محَمَّد خليفة حسن: «أدَّت وفرة الترجمات الاستشراقية في اللغات الأوروبية إلى نتيجة سلبية في الدراسات القرآنية عند المستشرقين، وهي أنَّ معظم هذه الدراسات اعتمدت على الترجمات، ولم تعتمد على النصِّ العربي للقرآن الكريم»[7].

على أيِّ حال فالبحث في تأريخ الترجمات، التي قام بها الرهبان، ثم الرهبانُ المستشرقون، ثم المستشرقون من غير الرهبان، بحثٌ شائق، وليس هذا مجال التوسُّع فيه، إلا أنَّه غلب على ترجمات معاني القرآن الكريم، من قِبل غير أهله، أنَّها ترجمات اتَّسمت بالنظرة السلبية تجاه الوحي، وتجاه من نزل عليه الوحي، سيِّدنا محَمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم -.

هذه النظرة التي قال عنها واحد منهم، وهو روم لاندو: «إنَّنا لم نعرف إلى وقت قريب ترجمةً جيَّدة استطاعت أنْ تتلقَّف من روح الوحي. والواقع أنَّ كثيرًا من المترجمين الأوائل لم يعجزوا عن الاحتفاظ بجمال الأصل فحسب، بل كانوا إلى ذلك مُفعمين بالحقد على الإسلام، إلى درجة جعلت ترجماتهم تنوء بالتحامُل والتغرُّض. ولكن حتَّى أفضل ترجمة ممكنة للقرآن في شكل مكتوب لا تستطيع أنْ تحتفظ بإيقاع السور الموسيقي الآسر على الوجه الذي يرتِّلها به المسلم. ولا يستطيع الغربي أنْ يدرك شيئًا من روعة كلمات القرآن وقوَّتها إلا عندما يسمع مقاطعَ منه مرتَّلةً بلغته الأصلية»[8].

يعلِّق مصطفى نصر المسلاَّتي على هذا النصِّ بقوله: «إنَّ اعتراف روم لاندو R. Landau لَيعطي فهمًا مبدئيًّا بأنَّ بعضًا من المستشرقين عندما حاولوا ترجمة القرآن، في أفضل ترجمة ممكنة، أفقدوا القرآن روعته، وأساؤوا إليه، سواء عن قصد أو عن غير قصد.

إنَّنا نشير هنا إلى أنَّ جولدزيهر Goldziher قد تمسَّك بروايات شاذَّة جاء بها دليلاً وبرهانًا على أنَّ القراءات السبع عندما نشأت كانت أصلاً عن طريق الكتابة وعدم نطقها. وقد علم المسلم – بما لا يدع مجالاً للشكِّ – أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان قد أقرأ صحابته بعدَّة وجوه، وليس بوجه واحد»[9].

الوقفات النقدية لرؤى جولزيهر في القراءات خاصَّةً من خلال كتابه: مذاهب التفسير الإسلامي كثيرة، يُرجع منها إلى مناقشات عبدالفتَّاح عبدالغني قاضي، (رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف الأسبق)، في مجلَّة الأزهر في أعداد متواليةً، من العدد 9 المجلد 42 إلى العدد 1 من المجلد 45 (11/ 1390هـ – 1/ 1393هـ الموافق 1/ 1971 – 2/ 1973م)، ثم جمعها في كتاب، طُبَع طبعاتٍ عدَّة[10].

إدراك الإعجاز:

تنطلق هذه الوقفة من الإيمان المطلق بأنَّ هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأنَّ هذا الكون الفسيح بمخلوقاته وبماضيه وبحاضره وبمستقبله هو خلق الله، ومن ثمَّ فمن المتحقِّق أن يكون هذا الكتاب العزيز شاهدٌ من شواهد الإعجاز في هذا الكون.

من هذا المنطلق تتلمَّس هذه الوقفة ردود المستشرقين والعلماء الأوروبيين المعاصرين على المستشرقين الأوائل في قولهم بأنَّ القرآن الكريم من تأليف محَمَّد – صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ تفضي هذه الردود إلى الالتفات إلى الجوانب الإعجازية في كتاب الله تعالى[11]، فيقول المستشرق شيبس: «يعتقد بعض العلماء أنَّ القرآن كلام محَمَّد، وهذا هو الخطأ المحضُ، فالقرآن هو كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محَمَّد. وليس في استطاعة محَمَّد، ذلك الرجل الأمِّي في تلك العصور الغابرة أنْ يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء ويهدي به الناسَ من الظلمات إلى النور. وربَّما تعجبون من اعتراف رجلٍ أوروبِّي بهذه الحقيقة، لا تعجبوا فإنِّي درستُ القرآن فوجدتُ فيه تلك المعاني العالية والنظم المحكمة. وتلك البلاغة التي لم أرَ مثلها قطُّ، فجملة واحدةٌ تغني عن مؤلَّفات»[12].

وهذه لورا فيشيا فاغليري تقول في كتابها: دفاع عن الإسلام: «كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محَمَّد وهو العربي الأمِّي الذي لم ينظم طوال حياته غير بيتين أو ثلاثة أبيات لا ينمُّ منها عن أدنى موهبة شعرية؟

وعلى الرغم أنَّ محَمَّدا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، أو على الأقلِّ بسورةٍ من مثل سُوَره ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]. وعلى الرغم من أنَّ أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب، فإنَّ أحدًا لم يتمكَّن من أنْ يأتي بأيِّ أثر يضاهي القرآن. لقد قاتلوا النبيَّ بالأسلحة، ولكنَّهم عجزوا عن مضاهاة السموِّ القرآني»[13].

وهذه ديبرا بوتر، الصحفية الأمريكية التي اعتنقت الإسلام سنة 1400هـ/ 1980م تقول: «كيف استطاع محَمَّد الرجل الأمِّي الذي نشأ في بيئة جاهلية أنْ يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتَّى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لا بُدَّ إذنْ أنْ يكون هذا الكلام هو كلام الله عزَّ وجلَّ»[14].

واشتهر الطبيب الفرنسي موريس بوكاي بوقفاته الموضوعية العلمية مع الكتب السماوية، وخرج من دراسته هذه بعدد من النتائج ضمَّنها كتابه المشهور القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، أو دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة، إذ يقول: «كيف يمكن لإنسان – كان في بداية أمره أُمّيًّا – ثمَّ أصبح فضلاً عن ذلك سيِّد الأدب العربي على الإطلاق، أنْ يصرِّح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أيِّ إنسان في ذلك العصر أنْ يكونها، وذلك دون أنْ يكشف تصريحه عن أقلِّ خطأ من هذه الوجهة؟»[15].

وكتب المستشرق الفرنسي إميل درمنغم عن حياة محَمَّد – صلى الله عليه وسلم -، وقال: «كان محَمَّد، وهو البعيد من إنشاء القرآن وتأليفه ينتظر نزول الوحي أحيانًا على غير جدوى، فيألم من ذلك، كما رأينا في فصل آخر، ويودُّ لو يأتيه المَلَكُ متواترًا»[16].

وتقول يوجينا غيانة ستشيجفسكا، الباحثة البولونية المعاصرة في كتابها: تاريخ الدولة الإسلامية: «إنَّ القرآن الكريم مع أنَّه أُنزل على رجل عربي أمِّي نشأ في أمَّة أمِّية، فقد جاء بقوانين لا يمكن أنْ يتعلَّمها الإنسان إلا في أرقى الجامعات. كما نجدُ في القرآن حقائقَ علميةً لم يعرفها العالم إلاَّ بعد قرون طويلة»[17].

وهذه الليدي إفيلين كوبولد، النبيلة الإنجليزية التي أسلمت، تقول في كتابها: الحجُّ إلى مكَّة، أو البحث عن الله: «وذكرتُ أيضًا ما جاء في القرآن عن خلق العالم وكيف أنَّ الله قد خلق من كلِّ نوعٍ زوجين، وكيف أنَّ العلم الحديث قد ذهب يؤيِّد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدَّت أجيالاً عديدة»[18].

اقرأ أيضا  تفسير الجزء الرابع عشر 15- تفسير سورة الحجرعدد آياتها 99 ( آية 1-25 ) وهي مكية

وهذا القس المستشرق المعاصر مونتوجمري واط يعود عن أقواله السابقة التي ضمَّنها كتابَه: محَمَّد النبي ورجل الدولة من أنَّ «الوحي لم يكن من عند الله، ولكنه كان من الخيال المبدع. وكانت الأفكار مختزنة في اللاوعي عند محَمَّد، وهي أفكارٌ حصَّلها من المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه قبل البعثة. ولم يكن جبريل إلا خيالاً نقل الأفكار من اللاوعي إلى الوعي. وكان محَمَّد يسمِّي ذلك وحيًا»[19].

يرجع مونتجمري واط عن قوله هذا، فيقول عن القرآن الكريم في كتابه المتأخِّر: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر: «إنَّ القرآن ليس بأيِّ حال من الأحوال كلامَ محَمَّد، ولا هو نتاج تفكيره، إنَّما هو كلام الله وحده، قصد به مخاطبة محَمَّد ومعاصريه، ومن هنا فإنَّ محَمَّدا ليس أكثرَ من «رسول» اختاره الله لحمل هذه الرسالة إلى أهل مكَّة أوَّلاً، ثمَّ لكلِّ العرب، ومن هنا فهو قرآن عربي مبين. وهناك إشارات في القرآن إلى أنَّه موجَّهٌ للجنس البشري قاطبةً. وقد تأكَّد ذلك عمليًّا بانتشار الإسلام في العالم كلِّه، وقبله بشرٌ من كلِّ الأجناس تقريبًا»[20]. ويمضي مونتوجمري واط في توكيد ذلك في أكثرَ من موضع من كتابه سالف الذكر[21].

يذكر وحيد الدين خان في كتابه: الإسلام يتحدَّى أنَّ الآية الكريمة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: ٢٨]، قرئت على الأستاذ جيمس جينز أستاذ الفلك في جامعة كامبردج، «فصرخ السير جيمس قائلاً: ماذا قلت؟ إنَّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؟ مدهش! وغريب، وعجيب جدًّا! إنَّ الأمر الذي كشفتْ عنه دراسة ومشاهدة استمرَّت خمسين سنةٍ من أنبأ محَمَّدا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة منِّي أنَّ القرآن كتاب موحى من عند الله. ويستطرد السير جيمس جينز قائلاً: لقد كان محَمَّد أمِّيًّا، ولا يمكنه أنْ يكشف عن هذا السرِّ بنفسه، ولكن «الله» هو الذي أخبره بهذا السر. مدهش! وغريب، وعجيبٌ جدًّا»[22].

يقول إبراهيم خليل أحمد، وكان قِسًّا عمل على تنصير المسلمين فاهتدى: «القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كلِّ مناحيه: من طبٍّ وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ… ففي أيامنا هذه استطاع العلم أنْ يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف»[23].

وهذا ميلر بروز، أستاذ الفقه الديني الإنجيلي بجامعة ييل يقول: «إنَّه ليس هناك شيء لا ديني في تزايُد سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية، هناك آيَّة في القرآن يمكن أن يستنتج منها أنَّه لعلَّ من أهداف خلق المجموعة الشمسية لفت نظر الإنسان لكي يدرس علم الفلك ويستخدمه في حياته: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]. وكثيرًا ما يشير القرآن إلى إخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره إحدى الآيات التي تبعث على الشكر والإيمان: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 12، 13]. ويذكر القرآن – لا تسخير الحيوان واستخدامه فحسب – ولكن يذكر السفُن أيضًا. فإذا كان الجمل والسفينة من نعم الله العظيمة، أفلا يصدُق هذا أكثر على سكَّة الحديد والسيَّارة والطائرة؟»[24].

الخاتمة: الخلاصة والنتيجة:

يمكن تلخيص الوقفات الخمس التي وردت في هذا البحث في النقاط الآتية:

  1. تأخَّر المسلمون في نقل المعلومة الشرعية، ومنها تقديم القرآن الكريمإلى الأقوام الأخرى، عن طريق ترجمة معانيه. وكان هناك جدلٌ بين علماء المسلمين حول مشروعية ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى غير اللغة العربية.

  1. تردَّد رجال الكنيسة في قبول ترجمة معاني القرآن الكريم، خوفًا من انتشار الإسلام، وحُبست أوَّل ترجمة لمعانيه في الكنيسة لأربعة قرون (536 – 950هـ/ 1411 – 1543م)، وأُحرقت بعض الترجمات، لاسيَّما المحاولة الثانية التي قام بها جمع من رهبان ريتينا.

  1. رغبةً في الحدِّ من انتشار الإسلام بين النصارى على حساب العقيدة النصرانية، انطلقت ترجمات معاني القرآن الكريممن الكنائس والأديرة، ولم تكن الدوافع لهذه الترجمات، بالضرورة، علمية أو موضوعية.

  1. اتَّسمت الترجمات الأولى لمعاني القرآن الكريمالتي قام بها المستشرقون بالطعون في كتاب الله تعالى، وفي كونه كتابًا منزَّلاً على نبي مرسل، ومن ثمَّ فقد ظهر الزعم بأنَّ هذا الكتاب الكريم من تأليف محَمَّد –-، أعانه عليه قوم آخرون، من معاصريه من اليهود والنصارى والحنيفيين.

  1. كان لهذا الزعم بأنَّ القرآن الكريممن تأليف محَمَّد –- أثرُه في التعامي عن الجوانب المعجزة من كتاب الله تعالى، تستوي في ذلك الجوانب الإعجازية في العلوم التطبيقية والبحتة والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، مما يعني عدم التركيز في الجوانب الإعجازية من كتاب الله تعالى على العلوم التطبيقية والبحتة فقط.

  1. منطلق النظرة إلىإعجاز القرآن الكريم قائم على القاعدة بأن القرآن الكريم من كلام الله والكون كلُّه من خلق الله، فكان من المنتظر أنْ يكون الإعجاز من سمات هذا الكتاب الكريم المنزَّل على رسول الله محَمَّد بن عبدالله -، الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: ٤٢].

  1. الذين تلقَّوا القرآن الكريم، من غير المسلمين، مترجمًا مباشرة عن طريق المسلمين كانوا أكثر تأثُّرًا به، وبإعجازه، ممن تلقَّوه عن طريق ترجمات المستشرقين الأولى، ومن ثمَّ انبرى مستشرقون وعلماء أوروبِّيون متأخِّرون إلى إنصاف كتاب الله تعالى بما احتوى عليه من جوانبإعجازية، ومن ثمَّ استبعاد أنْ يكون هذا القرآن الكريم من صنع البشر.

  1. يحتِّم هذا اضطلاع المسلمين بنقل المعلومة الشرعية من منطلق انتمائي، بما في ذلك نشر ترجمات معاني القرآن الكريمالتي يُعدُّها المسلمون أنفسهم، واضطلاع مراكز علمية وبحثية بذلك، على غرار ما يقوم به الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة بالمملكة العربية السعودية، وغيرهما من المراكز الموثوقة في العالم الإسلامي، بل في بلاد العالم بأسره، حيث انتفت الجِهوية لهذا الدين الحنيف.

والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.

[1] انظر: محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. – الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1405هـ/ 1985م. – ص 83. – (سلسلة كتاب الأمَّة؛ 5).

[2] انظر: إبراهيم اللبَّان. المستشرقون والإسلام. – القاهرة: مجلَّة الأزهر، 1390هـ/ 1970م. – ص 44. – (ملحق مجلَّة الأزهر).

[3] انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام. – القاهرة: المؤلِّف، 1418هـ/ 1998م. – ص 189.

[4] انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون: موسوعة في تراث العرب، مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتَّى اليوم. – 3 مج. – ط 4. – القاهرة: دار المعارف، 1980م. – 2: 47.

[5] للوقوف على ردٍّ مستفيض لمزاعم جورج سيل المتعدِّدة انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام. – مرجع سابق. – ص 159 – 591. وسمَّاه جرجس سال.

[6] انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون. – مرجع سابق. – 2: 498 – 499.

[7] انظر: محَمَّد خليفة حسن. دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدَّس. – 66 ص. والنصُّ من ص 45.

في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 – 18/ 10/ 1427هـ الموافق 7 – 9/ 11/ 2006م. – مرجع سابق.

[8] انظر: روم لاندو. الإسلام والعرب/ نقله عن الإنجليزية منير البعلبكي. – ط 2. – بيروت: دار العلم للملايين، 1977. – ص 36 – 37.

[9] انظر: مصطفى نصر المسلاتي. الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين. – طرابلس: إقرأ، 1986م. – ص 58.

[10] انظر: عبدالفتَّاح عبدالغني القاضي. القراءات في نظر المستشرقين والملحدين. – القاهرة: دار السلام، 1426هـ/ 2005م. – 174 ص.

[11] الاستشهاد بالأقوال الإيجابية للمستشرقين والأوروبيين حول طبيعة القرآن الكريم لا يتنافى مع ما صدر عن هؤلاء المستشرقين والعلماء الأوروبيين من وقفات سلبية للمستشرق أو العالِم الأوروبي نفسه تجاه كتاب الله تعالى وسنة رسوله محَمَّد بن عبدالله –- ودين الله الإسلام. كما لا يتنافى مع الملحوظات على النصِّ المنقول نفسه، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ معظم النقول جاءت عمَّن لا يؤمنون بهذا الدين، فلا تتوقَّع منهم الإيجابية التامَّة.

[12] انظر: محَمَّد أمين حسن محَمَّد بني عامر. المستشرقون والقرآن الكريم. – إربد: دار الأمل، 2004م. – ص 223. – نقلاً عن محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. سيرة سيِّد المرسلين. – القاهرة: دار نهضة مصر،. – ص 18 – 19.

[13] انظر: لورا فيشيا فاغليري. دفاع عن الإسلام/ نقله إلى العربية منير البعلبكي. – ط 5. – بيروت: دار العلم للملايين، 1981هـ. – ص 57 – 58.

[14] نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. – الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412هـ/ 1992م. – ص 55.

[15] انظر: موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة. ط 4. – القاهرة: دار المعارف، 1977م. – ص 150.

[16] انظر: إميل درمنغم. حياة محَمَّد/ نقله إلى العربية عادل زعيتر. – ط 2. – بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 1988م. – ص 277.

[17] نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. – مرجع سابق. – ص 68.

[18] نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. – المرجع السابق. – ص 81.

[19] انظر: رجب البنَّا. المنصفون للإسلام في الغرب. – القاهرة: دار المعارف، 2005. – ص 79.

[20] انظر: محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء. – القاهرة: دار الشروق، 1425هـ/ 2005م. – ص 162.

[21] انظر: مونتجمري وات. الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر/ ترجمة عبدالرحمن عبدالله الشيخ. – القاهرة: مكتبة الأسرة (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 2001م. – نقلاً عن محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية. – مرجع سابق. – ص 159 – 178.

[22] انظر: وحيد الدين خان. الإسلام يتحدَّى/ ترجمة ظفر الإسلام خان، مراجعة وتقديم عبدالصبور شاهين. – ط 8. – القاهرة: المختار الإسلامي، 1984م. – ص 133 – 134.

[23] انظر: إبراهيم خليل أحمد. محَمَّد في التوراة والإنجيل والقرآن. – ط 2. – القاهرة: مكتبة الوعي العربي، 1965م. – ص 47 – 48.

[24] انظر: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. – مرجع سابق. – ص 51.

-الألوكة-

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.