كيف نستقبل رمضان؟

الثلاثاء 24 شعبان 1437/ 31ماي/آيار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

الشيخ عائض بن عبدالله القرني
المصدر: موقع جمعية البر بالرياض

أيها النَّاس:

أظلَّكم شهرٌ كريمٌ، وضَيْفٌ عظيمٌ.

لِنَعِشْ هذه اللحظات مع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وكيف استقبل الشَّهر العظيم، وكيف احتفى بالضَّيْف الكريم؛ فإنه المعصوم – بأبي هو وأمِّي – الذي على أقواله تُقَاسُ الأقوال، وعلى أعماله توزَنُ الأعمال، وعلى أحواله تصحَّح الأحوال.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].

فلا إله إلا الله، ما أربح من اتَّبعه، واقتدى بسنَّته، واهتدى بسيرته .. ولا إله إلا الله، ماأعظم خسارة من تلفَّظ أقواله، ولم يتَّبعه على منواله، ولم يقتد بأحواله – عليه الصَّلاة والسَّلام.

في الحديث: أن الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان إذا رأى هلال رمضان قال: ((اللَّهم أَهِلَّهُ علينا باليُمْن والإيمان، والسَّلامة والسَّلام، هلالُ خيرٍ ورشدٍ، ربِّي وربُّكَ الله))؛ حديثٌ صحيحٌ.

وما أحسنَ نبضات التَّوْحيد، وما أحسنَ لمساتِ العقيدة في استقبال الشهر، يوم يقول للهلال في السماء: ((ربِّي وربُّكَ الله))! وكان المشركون يعبدونه من دون الله، كأنَّه يقول له: يا هلال، أنت مخلوقٌ كما أنا مخلوقٌ، وربِّي وربُّكَ الله يا هلال؛ فأنت لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا رزقًا ولاتدبيرًا، ولقد اخطأ خطأً عظيمًا، وغلط غلطًا بيِّنًا – مَنْ عَبَدَكَ من دون الله؛ فربِّي وربُّكَ الله. ثم يستهلُّ الشَّهر.

اقرأ أيضا  المبادرة السعودية لمحاربة تنظيم الدولة

ورمضان فرصةٌ ثمينةٌ لا تعوَّض، ولحظةٌ من اللحظات الذهبيَّة في حياة المسلم، يُعْتِقُ الله كل ليلةٍ مائة ألفٍ ممَّن استوجبوا النار، فإذا كان آخر ليلةٍ؛ أعْتَقَ الله بقدر ما أعْتَقَ في تلك الليالي جميعًا.

فهل بعد هذا الفَضْل من فَضْلٍ؟

إِنَّ  الْمُلُوكَ  إِذَا  شَابَتْ   عَبِيدُهُمُ        فِي  رِقِّهِمْ   عَتَقُوهُمْ   عِتْقَ   أَبْرَارِ
وَأَنْتَ يَا  خَالِقِي  أَوْلَى  بِذَا  كَرَمًا        قَدْ شِيتَ فِي الرِّقِ فَاعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ

يقول ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: “كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أجْوَدَ النَّاس، وكان أجْوَد ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل؛ فيُدارِسُه القرآن، ولقد كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أجْوَد بالخير من الرِّيح المُرْسَلَة.

والريح المرسلة: التي تهبُّ معطاءةً وكريمةً ورَخْوًا؛ فكان المصطفى – عليه الصَّلاة والسَّلام – أجودَ النَّاس في رمضان، ما سئل سؤالاً فقال: لا.

وفي رمضان: يُخَصَّصُ هذا الشَّهْر لقراءة القرآن، وقد فهم هذا علماء الأمَّة؛ فعطَّلوا الفُتْيَا، وحلْقاتِ العلم والتَّدْريس، والاتصالات الخارجيَّة بالنَّاس، وأخذوا المصحف؛ يتدارسونه، يضعون دواءَه على الجراحات، ويأخذون بَلْسَمَهُ على الأرض والأسقام؛ فيشفيهم ربُّ الأرض والسَّماء؛ لأنَّ هذا القرآن شفاءٌ، ونزل في الليل، وأتى في رمضان؛ ليحييَ الأمَّة المَيْتَة، التي ما عَرَفَتِ الحياة، ويُنِيرَ بصيرةَ الأمَّة التي ما عَرَفَتِ البصيرة، ويرفع رأس الأمَّة التي كانت في التُّراب.

لما أتى عليه الصلاة والسلام – قال لأمَّته في أوَّل رمضان ما قاله الله تبارك وتعالى: ((كلُّ عمل ابن آدم له، إلا الصِّيام؛ فإنَّه لي، وأنا أجزئ به))؛ لأنه سرٌّ بينكَ وبين الله، لا يطَّلِع على صيامِكَ إلا الله، ولا يعلم أنَّكَ صائمٌ إلا الله. بإمكانك أن تأكل وراء الجدران، وأن تشرب وراء الحيطان، ولكن: مَنِ الذي يعلم السرَّ وأخفى إلاَّ الله؟

اقرأ أيضا  هل تكون الانتفاضة سببًا في تحقيق المصالحة؟

مَنِ الذي يعلم أنَّك أكلتَ أو شربتَ أو تمتَّعْتَ إلا الله؟

هو ربُّ الظَّلام وربُّ الضِّياء.

فالصلاة تُصلَّى بمجمعٍ مِنَ النَّاس، والزكاة تزكَّى بمجمعٍ مِنَ النَّاس، والحجُّ يُحَجُّ بمجمعٍ مِنَ النَّاس، أما الصِّيامُ – فيا سبحان الله -: قد تختفي في الظلام، وتأكلُ وتشربُ، ويظنُّ النَّاسُ أنَّك صائمٌ، ولكنَّ الله يدري أنَّك لست بصائمٍ .. هو سرٌّ بينكَ وبين الله!

ثم انظر للتلطُّف في لفظ الحديث القدسي، يوم يقول الله تعالى: ((يَدَعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي)). يقول الله: ((ولخُلُوفُ فمِ الصَّائم أَطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك))؛ حديثٌ صحيحٌ.
يوم تهب رائحة الصَّوْم، ويتأذَّى منها النَّاس؛ تَنْبَعِثُ شذًا وعبيرًا، فتسبِّح عبر الأثير إلى الحي القيوم، فتكون كالمِسْك الخالص.

كل عمل ابن آدم له: الحسنة بمثلها، أو بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصِّيام؛ فلا يعلم ثوابه إلا الله.

وخصَّص الله للصَّائمين بابًا في الجنَّة، بابًا واسعًا، يدخل منه الصُّوَّام يوم القيامة، يناديهم الله بصوته إذا دخلوا: كلوا يا مَنْ لم يأكلوا، واشربوا يا مَنْ لم يشربوا، وتمتَّعوا يامن لم يتمتَّعوا.

وفي الحديث: ((إنَّ في الجنَّة بابًا يسمَّى الرَّيَّان، يدخل منه الصَّائمون، لايدخل منه غيرهم، فإذا دخلوا أُغْلِقَ الباب، فلا يدخل منه غيرهم))، وقال: ((مَنْ صام يومًا في سبيل الله؛ باعد الله وجهه عنِ النَّار سبعينَ خريفًا)).

اقرأ أيضا  أدب الوصايا والمواعظ

فيا أيُّها المسلمون:

يا مَنْ وُلِدْتُم على لا إله إلا الله، ويا مَنْ شَبَبْتُم على لا إله إلا الله؛ جاءكم شهر رمضان، وأصبح منكم قابَ قوسَيْن أو أدنى؛ فالله الله، لا يخرجْ رمضان منكم وقد خاب الكثير؛ فإنه التَّوْبة، وإنَّه القَبُول منَ الله.

أكثروا فيه من الذِّكْر بآيات الله البيِّنات، واهجروا الأغانيَ الماجنات الخليعات السَّافلات السخيفات، التي أغوتِ القلوب عن ربِّها سبحانه.

فاغتنموه: أن تُعْتَقَ رقابُكم منَ النَّار، وأن تبيضَّ وجوهكم يوم تعرضون على الواحد القهَّار.

طوبى لبطونٍ جاعت في سبيل الله، هنيئًا لأكبادٍ ظمئت لمرضاة الله، هنيئًا لكم يوم أدرككم الشهر، تصومونه إيمانًا واحتسابًا، ويباهي بكم الملائكة من فوق سبع سموات.

فيا أيتها الأمَّة الخالدة، يا أيتها الأمَّة التي رضيَ الله عنها بمحسنها: كفِّروا عن سيِّائتكم في هذا الشهر، وجدِّدوا توبتكم مع الله.

فحياك الله يا رمضان؛ لتحطَّ عنها – بفضل الله – كلَّ خطيئةٍ وخسرانٍ، ولوردنا الحَوْضَ المورودَ، نشرب منه بإذن الله شربةً لانظمأ بعدها أبدًا.

بتصرُّف من كتاب “دورس المسجد في رمضان”، للشيخ: عائض القرني، صـ 90.

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.