أذلة على المؤمنين.. أعزة على الكافرين

بسام ناصر (معراج) – عنوان المقال أعلاه يدور على بيان صفتين ذكرهما الله تعالى في سياق تبيانه لصفات أولئك القوم الذين سيأتي بهم عوضا عمن يرتد عن دينه، مضافة إليها جملة من الصفات الأخرى (مجموعها ستة) التي ذكرهم الله بها في الآية (54) من سورة المائدة.

الصفة الأولى تتضمن وصفا تكريما لمن يختارهم الله عوضا عن أولئك المرتدين، وهي مع باقي الصفات المذكورة في الآية الكريمة تظهر عظمة تلك الصفات التي يحبها الله، ويحب المتصفين بها، وهذا بمثابة تأسيس لما يجب أن يكون عليه أهل الصلاح والإيمان من خصال حميدة، وسلوكيات عملية، والتي منها بناء العلاقة بين أهل الإيمان والصلاح والتقوى على ركائز المودة والرحمة والشفقه، ونفع بعضهم بعضا.
فكيف يكون المؤمن ذليلا على أخيه المؤمن؟ وكيف يوصف الذل الذي هو بمعنى الهوان، أي ضد العز، ومنه قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة)، في هذا الموضع بما يفيد المدح والثناء والإشادة لمن يتصف بذلك؟ وما المراد بالتذلل ها هنا، وما دلالة استخدامه في هذا السياق؟.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور: «والذليل جمعه الأذلّة، والصفة الذل، (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة (الإسراء: 24)، ويُطلق الذل على لين الجانب والتواضع، وهو مجاز، ومنها ما في هذه الآية، فالمراد هنا الذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع، ولذلك علق به قوله (على المؤمنين)، ولتضمين أذلة معنى مشفقين حانين عدّي بعلى دون اللام، أو لمشاكلة «على» على الثانية في قوله: «على الكافرين».
أن يكون المؤمن ذليلا على أخيه المؤمن، فهذا يعني ابتداء تجذر الحب بينهما، فالمؤمنون كما وصفهم الرسول عليه الصلاة و السلام في قوله «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، هكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان فيما بينهم، جمعهم الإيمان على صعيد واحد، فجعلهم إخوة متحابين متعاضدين متعاونين متراحمين، يتناصحون بينهم بمحبة وشفقة، ويسعون في قضاء حوائج بعضهم بعضا، ويتنادون لإغاثة الملهوف منهم، وإعانة المحتاج وقضاء حاجته.
هذه الصفة (أذلة على المؤمنين) هي ذات الصفة التي ذكرها الله تعالى في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، يقول تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..»، وهكذا كان الجيل الأول الذي رباهم الرسول عليه الصلاة والسلام في التراحم والتعاطف والتوادد والتعاون على الخير.
في مقابلة تلك الصفة التي تحكم العلاقة بين المؤمنين، تأتي صفة (أعزة على الكافرين)، (أشداء على الكفار)، وأمر الله لأهل الإيمان بقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (التوبة: 123)، فالمؤمن الذي يتصف بالذل على إخوانه المؤمنين، بلين جانبه لهم، ورحمته بهم، وإشفاقه عليهم، هو ذات المؤمن الذي ينقلب إلى شديد غليظ على الكفار، فالرابطة هي رابطة الدين والإيمان، وهو يدور مع الإيمان حيث دار.
في خواطره التفسيرية يتلمس الشيخ الشعرواي وجوه اتصاف الإنسان المؤمن بالذليل والعزيز في آن واحد فيقول «وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلا وعزيزا في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعا للموقف، فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفا فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة، وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة».
ويزيد الشيخ الشعرواي الأمر وضوحا «وإن احتاج الموقف إلى الكرم، فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم، فالمسلم ينفعل انفعالا مناسبا لكل موقف، وليس مطبوعا على انفعال واحد، ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها، ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن لينا قادرا على مواجهة كل موقف بما يناسبه».
هكذا ينبغي أن يكون حال المؤمنين، في تعاملهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وكذلك في تعاملهم وعلاقتهم مع أعدائهم الكفار، لكن حال أهل الإسلام بما هم عليه في واقعهم، يبتعد كثيرا عن تلك التوصيفات، فكأنما جبلوا على حالة واحدة، وطبعوا على انفعال واحد تجاه الأحداث والوقائع المفجعة، فلم تعد الفواجع التي تقع للمسلمين هنا وهناك، والمصائب التي تصب على رؤوسهم صبا، تحرك انفعالاتهم الغاضبة ليقوموا بما يجب عليهم القيام به.
عرض أحوال المسلمين كما هم في واقعهم على تعاليم القرآن وإرشاداته وأحكامه، تكشف عن مظاهر الخلل الذي تفشى في صفوف غالب الأمة الإسلامية، والتي يأتي في مقدمتها فقر إيمانها، وضعف يقينها، إيمان شكلاني، وعبادات صورية، ومشاعر مزيفة، فلم يعد الإيمان يحركهم ويدفعهم إلى العمل والتضحية (إلا من رحم الله منهم).
إن الإيمان الحقيقي هو المنشيء والمكون لتلك الصفات في نفوس المؤمنين، فحينما ترى واقع المؤمنين كما وصفتهم الآيات (أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين)، (أشداء على الكفار رحماء بينهم)، فهي الشهادة بأنهم تحققوا بالإيمان الذي عليه تتحقق الوعود، وإن كانوا على خلاف ذلك فهم بحاجة إلى يقظة إيمانية، ونهضة روحانية، تعيدهم إلى سيرة أجدادهم الأولى في التحقق الإيماني والتخلق الإحساني

وكالة معراج للأنباء الإسلامية

اقرأ أيضا  واجبنا نحو القرآن الكريم
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.