خطبة المسجد النبوي

السبت 20 رمضان 1437/ 25 يونيو/ حزيران 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

الشيخ عبدالمحسن بن محمد القاسم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون:

خلق الله الخلقَ وأتقَنَه ودبَّر ما خلق فقدَّره، وفتَقَ السماء عن الأرض وزيَّنها، وجعل الليل والنهار آيتين، فمحا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، يغشي الليل النهار ويكور النهار على الليل بمقدار يعلمه، وجعل الليل بعد إدبار النهار آية من آيات الله الدالة على وحدانيته، قال – عز وجل -: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴾ [يس: 37].
أقسم الله بولوجه على النهار شيئاً فشيئاً من غير إفزاع للبشر فقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ [التكوير: 17]، وأقسم به إذا غشي الشمس حين تغيب: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 4]، وإذا غطى الخلائق بظلامه: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]، وأقسم به إذا سكن وأظلم: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 2]، وإذا جمع ظلامه وادلهمَّ: ﴿ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴾ [الانشقاق: 17]، وإذا كشف غطاءه عن الخلق فاستناروا ﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ [المدثر: 33].

وهو آيةٌ تُرى بالأبصار تدعو إلى تعظيم الله وإفراده: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.. ﴾ [لقمان: 29]، ورحمة من رحمته بعباده: ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ.. ﴾ [القصص: 73].

وتقليبُ الليل والنهار دليل على قوته وإحكام مُلكِه، وبيَّن عجز الخلق جميعًا على أن يحولوا الليل نهاراً: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء.. ﴾ [القصص: 71]، وتدبيره له بتقديرٍ يجهله البشر: ﴿ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ.. ﴾ [المزمل: 20].

والتفكُّر في تدبيره يدعو إلى عبادة الله وذكره وشكره: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [الفرقان: 62]، وهو مِنَّةٌ من الله أمر العباد أن يشكروه عليها: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61]، وهو داعٍ إلى إيمان العباد بربهم: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النمل: 86].

في الليل يتثاقل أهل النفاق عن الطاعة، فأثقل صلاة عليهم صلاة العشاء والفجر، وهو زمن التعبُّد النافلةُ فيه أفضلُ من نافلة النهار، قال – عليه الصلاة والسلام -: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم.

اقرأ أيضا  من خصائص الإعجاز القرآني

وتعلُّق القلوب فيه بالله أرجى فأمر الله رسوله بالإكثار من الصلاة والتسبيح فيه: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [المزمل: 2]، ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ [الإنسان: 26]، واقتفى الصالحون أَثَرَه فـ: ﴿ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ﴾ [الذاريات: 17].

وفيه صلاة الوتر، والله وتر محبُّ الوتر، وصلاة آخر الليل مشهودة، و ((من صلَّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله))، ((وفي الليل ساعة من مغيب الشمس لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه))؛ رواه مسلم، ((وفي الثلث الأخير منه ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).

وهو زمنٌ تُرجَى فيه توبةُ التائبين، نزلت توبةُ الذين خُلِّفوا في الثلث الأخير من الليل؛ رواه البخاري.

وفي صلاة الفجر تجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النهار، والقرآن نزل ليلاً: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]، وأفضل زمن لتلاوته هو الليل، قال – عز وجل -: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ [المزمل: 6].

وفيه ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، وأُسرِيَ بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ليلاً، وفي الليل تُطوَى الأرضُ للمسافر، والليل بظلامه مُفزِع، ((ومن قرأ آيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه – أي: من الشرور))؛ متفق عليه.

وفي أول الليل تنتشر الشياطين، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان جنح الليل – أي: أوله – بكفِّ الصبيان، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلُّوهم))؛ متفق عليه.

والنوم من نعم الله الجسيمة يحتاجه الغني والفقير، وبفضل من الله جعله يسيرًا في كل مكان ويناله كل مخلوق بلا ثمن، ليس بمتاع يحمله المسافر فيجهد، ولا بذي ثمن يفقد الفقير ثمنَهُ فيحزن، ولا ذي عَرَضٍ يعجز الضعيف والصغير عن نقله، تُغمَضُ العينان فترتفع الروح، فينالُ الجسدُ الراحة والسكون، قال – عز وجل -: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾ [النبأ: 9]، وهو من آيات الله العظيمة الدالة على قوته وجبروته، قال – جلَّ شأنه -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. ﴾ [الروم: 23]، يميت البشر بالنوم ثم يوقظهم متى شاء إذا شاء.

قضى – عز وجل – أن تكون نَومة أهل الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً فكان ما شاء، وهو – سبحانه – حيٌّ قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم: ﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل))؛ رواه مسلم.

اقرأ أيضا  الثقة بالله تعالى

والشيطان يتخبَّط العبد في منامه، ((من قرأ آية الكرسي قبل نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح))؛ رواه البخاري.

ولا تشريع بالمنامات، والرؤيا الصالحة في النوم من الله، والحلم من الشيطان، ((فمن رأى رؤيا صالحة فليحمد الله عليها وليُحدِّث بها من يحب، ومن رأى حلماً من الشيطان فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليتعوَّذ بالله من شرها، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، ولا يُحدِّث بها أحداً فإنها لا تضرُّه))؛ متفق عليه.

والنوم قسيمُ الموت ويُذكِّرُ به، قال – سبحانه -: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: 42]، وكم من نائمٍ مات في نومته، ومن دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – عند نومه: ((إن أمسكت نفسي فارحمها))؛ متفق عليه.

و((إذا نام العبد عقد الشيطان على قافِيَتِهِ ثلاثَ عُقَدٍ يضرِبُ على كل عُقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلَّت عُقدَة، فإن توضأ انحلَّت عُقدَة، فإن صلى انحلَّت عُقدَة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)).

والاستيقاظ بعد النوم نعمةٌ من الله تُشكَر، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا استيقظ قال: ((الحمد لله الذي أحيانا من بعد ما أماتنا وإليه النشور))، ودعوة المستيقظ من الليل مع الذكر مستجابة، وصلاته مقبولة، قال – عليه الصلاة والسلام-: ((من تَعارَّ من الليل – أي: استيقظ – فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استُجِيبَ له، فإن توضأ وصلى قُبِلت صلاتُه))؛ رواه البخاري.

ومن نام ولم يستيقظ للصلاة حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا قام من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسواك، ومن استيقظ من نومه فليذكر الله، وليغسل يديه ثلاثاً، وليستنثر ثلاثاً؛ فإن الشيطان يبيتُ على خيشومه.

والسعيد من تفكَّر في خلق الأرض والسماوات، واغتنم أنفس دهره بالقربات، ودخل في ليله وخرج منه بالأعمال الصالحات ومجانبة السيئات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 33- 34].

اقرأ أيضا  بلاغة القرآن

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً مزيداً.

أيها المسلمون:

عمر الإنسان ليله ونهاره ومنزلته في الآخرة بأعماله في الدنيا، وساعات الليل خير أزمان الأعمار، وولوج ليل كل يوم يُدنِي من الحساب، والبصير من سار إلى الخيرات وابتعد عن السيئات، والله مُطَّلِعٌ على عباده بالليل والنهار، يعلم سرهم وعلانيتهم وما اقترفوه من سيئات؛ فاجتهدوا في طاعة ربكم وتدبَّرُوا أحوال دهركم.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّهِ، فقال في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

ربنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا.

اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك ياذا الجلال والإكرام.

عباد الله:

﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونِعَمِهِ يزِدْكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

-الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.