معالم شرعية في تميّز أمتنا

السبت 09 جمادى الأولى1436//28 فبراير/شباط 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أسباب نجاة الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
وعد الله – تبارك وتعالى – هذه الأمة – إن هي قامت بأمره ، وحققت توحيده – أن يستخلفنهم في الأرض ، وذلك في قوله – تبارك وتعالى – ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [سورة النور : الآية 55] .
وإن مما لا شك فيه أن هناك أسبابا كثيرة يترتب عليها بقاء هذه الأمة واستمرارها ، وظهورها على أعدائها ، ونجاتها من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، فالله – تبارك وتعالى – هو الحكيم الخبير القوي العزيز ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومن أجل ذلك خلق الثقلين : الجن والإنس ، لحكمة عظيمة ، وهدف جليل ، خلقهم – تبارك وتعالى – ليعبدوه وحده لا شريك له ، قال – سبحانه – ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات : الآية 56] فحياة المسلم يجب أن تكون كلها لله – عز وجل – وعلى وفق شرع الله ، يقول – تبارك وتعالى – لنبيه – عليه الصلاة والسلام – والأمة تابعة له ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 162-163] .
ولن يكونوا أمة واحدة قوية متماسكة ما لم ينقادوا لأمر الله – عز وجل – ويحققوا توحيده ، ويطبقوا شرعه ، ويتآلفوا ويتحابوا ويتناصحوا ، فإذا اجتمع تحقيق التوحيد ، ووحدة الأمة ، كان ذلك من أعظم أسباب قوتهم ، ونجاتهم من عذاب الله ، ونصرهم على الأعداء ، وبقاء دولتهم .
التوحيد هو المطلب الأسمى
فتوحيد الله – عز وجل – وإخلاص العبادة له ، هو المطلب الأسمى ، والركن الأقوى ، والملجأ الأعظم للأنبياء والأتقياء من عباد الله ، في كل كرب وضائقة وشدة ، فهذا إبراهيم – عليه السلام – حين ألقي في النار قال : « حسبي الله ونعم الوكيل » ( 1) . وكذلك الرسول – عليه الصلاة والسلام – والصحابة الكرام – عليهم رضوان الله – قيل لهم ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 173] ، وهذا هو تحقيق التوحيد ، وهو صدق الالتجاء إلى الله – عز وجل – .
ولن تتأتى هذه العبادة ، ولن يتحقق التوحيد على الوجه الذي شرعه الله إلا بالاجتماع الذي شرعه الله ، وأمر به عباده ، قال – تعالى – ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [سورة المؤمنون : الآية 52] وفي الآية الأخرى ﴿ فَاعْبُدُونِ ﴾ [سورة الأنبياء : الآية 25] وقال – تعالى – ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [سورة آل عمران : الآية 103] .
كان أهل الجاهلية قبل مجيء الإسلام متفرقين في كل شئون حياتهم ، فكانوا في ضلال مبين ، كتابيّهم وأُميّهم ، إلا بقية قليلة من أهل الكتاب ، كما ذكر الله عنهم ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة المؤمنون : الآية 53] ، وكما ورد في الحديث : « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهم (2 ) عَرَبهم وعَجَمَهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب » (3 ) .
وكما أمرنا الله – تعالى – بالاجتماع ، فقد نهانا أن نسلك مسالك الأمم قبلنا ، وأن نحذو حذوهم في الاختلاف والتفرق ، فقال ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 105] ، فقد كان العالم قبل مبعث هذا النبي – عليه الصلاة والسلام – في ضلال وفساد ، في شتى صوره ، من كفر وإلحاد وضياع وتشتت وظلم وقهر وحروب مضنية ، تقوم لأتفه الأسباب ، فتدوم عشرات السنين ، ولم يزالوا كذلك ، قد استحكم عليهم الجهل ، وتفرقت بهم السبل ، حتى أذن الله ببعثة هذا النبي الكريم ، والرسول الأمين ، محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – خاتما به الرسالات السماوية السابقة ، وجعل رسالته عامة للناس ، عَرَبهم وعَجَمهم ، كما قال – سبحانه وتعالى – ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 158] وكما قال – تعالى – ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سورة سبأ : الآية 28] وهذا من عظيم نعمة الله ، وكمال رحمته ومنته ، وبالغ حكمته ، وتمام عزته – تبارك وتعالى – .
وكان من عظيم نعمة الله ، وكمال رحمته ومنته ، وبالغ حكمته ، وتمام عزته – تبارك وتعالى – أن أنزل على هذا النبي الخاتم أعظم وأكمل كتاب ، بأيسر شريعة أيسرها ، وأوجب اتباعه على الناس جميعا ، عربهم وعجمهم ، أمّيهم وكتابيّهم ، إنسيّهم وجنهم ، قال – تعالى – ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 85] .
هذا الدين أبطل أمور الجاهلية
وأبطل الله بهذا الدين العظيم أمور الجاهلية ، شركها وجهلها وظلمها وتفرقها ، فلما التزموا بهذا الدين ، وجاهدوا من أجله ، أبدلهم الله – تعالى – بالكفر إيمانا ، وبالشرك توحيدا ، وبالجهل علما ، وبالظلم عدلا ، وبالتفرق اجتماعا وائتلافا ، وبالحروب سلما ، وبالخوف أمنا ، وبالذل عزا ، وبالقطيعة وصلا ، يقول – تعالى – ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [سورة البقرة : الآية 208] ، فإنهم إذا دخلوا في الإسلام ، وعملوا بجميع شرائعه ، وأدوا شعائره ، وحفظوا حدوده ما استطاعوا ، وضعوا السلاح عن بعضهم ، وأصبحوا إخوة في الدين ، يدا واحدة ، وبنيانا واحدا متراصا ضد من سواهم ، وقال – تعالى – ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [سورة النور : الآية 55] .
وفي الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – قال : « والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » (4 ) . ولقد حدث ذلك ، فأمنوا بعد الخوف ، واجتمعوا بعد الفرقة ، وعزّوا بعد الذلة ، وأصبحوا ملوك الأرض ، ودانت لهم الممالك ، وأخضعوها لدولة الإسلام ، وهذا هو المقصود الأعظم لشرعية الإسلام وشموله وعمومه ونفوذه ، وتنفيذ أحكامه ، وحمل الناس عليه ، والدفاع عنه .
وجوب لزوم جماعة المسلمين
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بوجوب لزوم جماعة المسلمين ، والنهي الأكيد ، والتحذير الشديد ، المقرون بالوعيد ، عن مفارقة الجماعة ، والشذوذ عنهم ، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – : « من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات مِيتَة جاهلية » ( 5) .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات مات مِيتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عِمّية ( 6) ، يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقِتْلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب بَرّها وفاجرها لا يتحاشى ( 7) من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد ، فليس مني ولست منه » ( 8) .
ومعنى ذلك أن موته كموت أهل الجاهلية على ضلالة ، لأن أهل الجاهلية كانوا يموتون على حال فوضى ، لا إمام لهم .
بالولاية تُحفظ بيضة الإسلام
فبالولاية تُحفظ بيضة الإسلام ، وتقام أصوله وفروعه ، وتحفظ حقوق الناس ، ويحكم بين المتشاجرين ، ويؤدب الظالم بأخذ الحق منه ، إذ لولا الولاية لأكل القوي الضعيف ، وسعى المفسدون في الأرض ، وقُطعت السبل ، وطمع أعداء الإسلام في دولته .
ولنا عبرة عظيمة فيمن حولنا ، ممن سيطر العدو عليهم ، وأفسد دولتهم ، فحصل من الفساد ، وسفك الدماء ، وانقطاع حبل الأمن ، فكم لله من حكمة باهرة في وجوب وحدة الأمة الإسلامية ، وإقامة ولاية عليهم ، إذ كيف تكون أمة الإسلام واحدة ، ما لم يكونوا منضوين تحت ولاية واحدة ، إذ لولا الولاية لتفرقوا طوائف وأحزابا ، كما كانوا في الجاهلية .
والله – تعالى – جاء بالإسلام ، وأوجبه على الناس كافة ، ليكونوا أمة واحدة ، يعبدون ربا واحدا ، يدينون بدين واحد ، هو دين الإسلام ، يأتمون بكتاب واحد ، هو القرآن ، ويستنّون بنبي واحد ، هو خاتم الأنبياء وإمامهم – عليه وعليهم الصلاة والسلام – يتوجهون إلى قبلة واحدة ، تحت راية واحدة ، يتولاها إمام واحد ، وهذا من أعظم مقاصد الدين الإسلامي ، وهذا من أسباب نجاة الأمة ونصرها .
وهذا ما دلت عليه نصوص الشريعة ، وقد فهم الصحابة – رضي الله عنهم – ذلك ، فأول شيء بدءوا به بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – تنصيب الخليفة ومبايعته قبل البدء بتجهيزه – عليه الصلاة والسلام – فكان ذلك إجماعا منهم على وجوب نصب الخليفة ، وعلى أهمية ذلك ، والمسارعة فيه ، وعدم احتمال الأمر بتأخيره ، وهذا من عمق فقههم – رضي الله عنهم – .
فعرف بذلك أن هذا الدين الذي أمر الله به جميع الثقلين بالدخول فيه ، والتمسك به لن يقوم على الوجه الشرعي إلا بإمام ، يجب السمع له والطاعة ، من جميع أفراد الرعية ، ويحرم الخروج عليه ، وهذا هو الذي أطبق عليه علماء السلف قديما وحديثا ، كما دلت عليه عمومات الشريعة ونصوصها .
ومن أدلة وجوب نصب إمام للمسلمين ووجوب طاعته بالمعروف قوله – تعالى – ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [سورة النساء : الآية 115] .
أسباب نجاة الأمة
تَقْوى الله في السر والعلن :
ومن الأسباب القوية والمؤثرة لنجاة الأمة من عقوبة الله في الدنيا والآخرة ، تَقْوى الله – عز وجل – في السر والعلن والمنشط والمكره ، فهذا من أهم الأسباب للخروج من الأزمات العامة والخاصة ، ومن السلامة من تسلط الأعداء ، واستجلاب الفرج والانتصار على النفس والشيطان ، فمن ضعف أمام نفسه ، ولم يكفّها عن غيّها ، فلن يستطيع النصر على عدوه ، يقول – تعالى – ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [سورة الطلاق : الآية 2-3] .
ولهذا فقد أوصى الله – تبارك وتعالى – الأولين والآخرين بأن يتقوه ، كما قال – سبحانه – ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [سورة النساء : الآية 131] ، وكذلك أمر الله المؤمنين بأن يتقوه ، قال – تعالى – ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 278] في آيات كثيرة من كتاب الله ، بل لقد أخبر الله – سبحانه – أنه لن ينجو من النار إلا الذين اتقوا الله ، فابتعدوا عن سخطه ، وتصديق ذلك في كتاب الله – عز وجل – حيث قال ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ ﴾ [سورة مريم : الآية 72] .
كما أخبر – تعالى – أنه إنما يتقبل أعمال المتقين ، فقال – سبحانه – ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [سورة المائدة : الآية 27] .
وتقوى الله – عز وجل – هي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره من الله ، من غضبه وعقابه ، وقاية تَقِيه ذلك ، ويَدخل في ذلك فِعل الواجبات ، وترك المحرمات وفعل المندوبات ، واجتناب المكروهات .
يقول بعض السلف : بلغت التقوى بالمتقين أن تركوا ما لا بأس به ، خشية مما فيه بأس (9 ) . فهكذا تكون التقوى ، ولعمر الله ، ما أُتي عبد إلا مِن قِبَل تقصيره في تقوى الله – عز وجل – يقول الله – تعالى – ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [سورة الشورى : الآية 30] ، وما يقع في هذا الكون ، من مصائب وبلايا وفتن وأمراض ، وغلاء أسعار ، ونزع بركات إلا بسبب ذنوب الناس ، وتقصيرهم في تقوى الله – عز وجل – قال – تعالى – ﴿ ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [سورة الروم : الآية 41] ، وانظر إلى قوله – تعالى – ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ ، فالله – تعالى – يعظ عباده ، وينبههم بتلك المصائب والكوارث والأمراض والضيق ، لعلهم يرجعون عن الذنوب والمعاصي .
وأنت ترى من الناس من هو مُعْرض عن الطاعة ، بعيدا عن الله – جل وعلا – فإذا أصيب بمرض ، أو ضيق رجع إلى الله – عز وجل – .
الاجتماع والاتفاق ، وتجنب الخلاف والشقاق :
ومن أسباب نجاة الأمة ، مما يحل بها من أزمات وفتن ، الاجتماع والاتفاق ، وتجنب الخلاف والشقاق ، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك يقول – تعالى – ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [سورة الأنفال : الآية 46] ، ويقول – سبحانه – بعد أن أمر بتقواه ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [سورة آل عمران : الآية 103] وما سلط الله على قوم عدوهم ، وما وقعت شرور وفتن وبدع ومنكرات في مجتمع ، حتى يفتحوا على أنفسهم باب خلاف وشقاق ، نعوذ بالله من ذلك .
وهذا مما يوجب على الأمة أن تراجع نفسها ، وأن تدرس وضعها بكل جد ووضوح وصراحة ، مع التجرد من الأهواء ، قبل أن يستفحل الداء ، ويتعذر العلاج والدواء ، فالمرض إذا عولج من أوله سهل علاجه ، وسهل شفاؤه ، لكن إذا انتشر في الجسم ، وتمكن منه ، صار علاجه أصعب وأشق ، فإذا بادرت الأمة إلى إصلاح نفسها ، وإزالة الخلاف ، واجتماع كلمتها سهل عليها ذلك ، فيجب على الأمة أن تسارع إلى ذلك ، قبل أن يتعذر العلاج .
ومن أدلة الأمر بالاجتماع قوله – تبارك وتعالى – ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [سورة النساء : الآية 59] ، فالله – تعالى – يناديك باسم الإيمان ، لأن الإيمان هو أساس قبول الأعمال ، فلا يُقبل عمل إلا بإيمان ، ولا ينفع إيمان إلا بعمل ، فالله يناديك باسم الإيمان ، لعلك ترعوي ، فيحضر قلبك وسمعك إلى قول الله – عز وجل – .
فطاعة الله واتباع أمره ، وطاعة رسوله – عليه الصلاة والسلام – والانقياد له ، والاقتداء به ، مُؤذن بتآلف القلوب ، وتقارب الآراء ، وطاعة ولاة الأمر – الذين هم الأمراء القائمون بأمر سياسة الدولة ، في الداخل والخارج ، والعلماء الذين وُكِل إليهم أمر الفتوى ، والبت في الأمور الشرعية – مؤذن باجتماع الكلمة ، ووحدة الصف ، فإذا تآلفت قلوب الأمة ، وتقاربت آراؤها ، واجتمعت كلمتها ، تغلبت حينئذ على أزماتها ، وبذلك تنجو من تسلط الأعداء .
الدعوة إلى الله بالطرق الشرعية :
ومن أسباب نجاة الأمة الدعوة إلى الله – عز وجل – بالطرق الشرعية ، المعتمدة على الكتاب والسنة ، مع الصبر على الأذى في ذلك ، لأن الآمِرَ ، بالمعروف والناهيَ عن المنكر ، والداعي إلى الله ، لا بد أن يصيبه أذى وضيق ، ولذلك قال الله – تبارك وتعالى – ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ [سورة لقمان : الآية 17] ، وقال – ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [سورة وَالعصر : الآية 1-3] فالتواصي بالحق يحتاج إلى الصبر ، لأنك لو أمسكت إنسانا ، تريد أن توجهه إلى خير لتضايق منك ، لكن إذا وجهته ونصحته في أمر دنيوي ، فتح لك قلبه ، فلا بد لك أن تصبر على الأذى في ذلك لتطهير المجتمع من الرذائل والفساد ، فساد الرأي ، وفساد الأخلاق ، لأن الأمة لا تضعف إلا إذا فسدت أخلاقها ، وتفرقت آراؤها ، وتنافرت قلوبها ، وانغمست في الترف ، وشاع فيها الأهواء المضلة ، قال – تعالى – ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 104] وقال – سبحانه – ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 105] ويقول – سبحانه – ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [سورة لقمان : الآية 17] .
فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من أقوى الأسباب لنجاة الأمة من عواقب الذنوب ، وبهما يتطهر المجتمع من الفساد والرذيلة ، فهُما سفينة النجاة ، يقول – تعالى – عن أصحاب السبت ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 165] .
وفي الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – عن – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – قال : « مثل القائم على حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نُؤذ مَن فوقنا . فإن يتركوهم وما أرادوا ، هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعا » ( 10) . وفي هذا دليل على أن المصلحين هم عِلية القوم ، وهذا مأخوذ من قوله – صلى الله عليه وسلم – : « فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها » .
فأهل الفساد هم الأسفلون ، هم هؤلاء الذين يريدون أن يخرقوا سفينة النجاة ، وأهل الصلاح ، هم أهل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأهل الدعوة إلى الله ، هم أعلى الناس ، هم عِلية القوم .
وقال – تبارك وتعالى – مبينا خطورة ترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [سورة المائدة : الآية 78-79] ، ومن مآثر هذه الأمة اتخاذها من العلماء والدعاة ، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله – عز وجل – قياما بأمر الله ، وردعا للمفسدين .
عدم تصديق الشائعات :
ومن أسباب نجاة الأمة عدم تصديق الشائعات ، لأن الشائعات تُوهن عضد الأمة ، وهي سلاح فتاك بيد العدو ، فإذا ردها المجتمع ، ولم يلتفت إليها لم تَرُج بين أفراده ، يقول – تعالى – مبينا حال المنافقين الذين ينشرون الشائعات والفتن بين المسلمين ، وما يترتب على ذلك من الشرور ، ويبين حال الذين يتلقفون أخبارهم وينشرونها ، من غير تمحيص ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [سورة التوبة : الآية 47] .
كما نهى – سبحانه – عن تصديق خبر الفاسق ، حتى يتبين أمره ، قال – تعالى – ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [سورة الحجرات : الآية 6] ، فبعض الناس يعاني من ضعف مناعة في الجسم ، فإذا كان كذلك كان قابلا للأمراض ، وكذلك القلب إذا كان يعاني من ضعف المناعة ، أثر فيه أي خطر ، لكن القلب إذا كان قويا ، فلن يصدق كل خبر يأتيه .
كانت الأبدان والأجسام قبل زمننا هذا لها قوة مناعة ، لا تؤثر فيهم الأمراض بسرعة ، والآن انظروا إلى ضعف مناعة الأبدان ، فكذلك كانت القلوب ، كان عندها قوة مناعة ، فما كانوا يصدقون كل شيء ، ولا يأخذون العلم عن كل أحد ، ممن نصبوا لأنفسهم منابر للفتوى ، في بعض الشبكات العنكبوتية ونحوها ، يدعون الناس إلى أن يستفتوهم ، وهذا ليس من العلم في شيء ، فقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يبتعدون عن الفتوى ، فيحيل أحدهم السائل إلى صحابي آخر ، وهكذا حتى يرجع السائل إلى الصحابي الأول الذي سأله .
التضرع وكثرة الدعاء :
ومن أسباب نجاة الأمة الالتجاء إلى الله – عز وجل – والتضرع إليه بكثرة دعائه وسؤاله ، والإلحاح عليه – سبحانه – قال – تعالى – ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 55-56 ] ، فالدعاء مشروع في العسر واليسر والسعة والضيق ، والله – تعالى – يحب من عباده أن يدعوه ويسألوه ، ويلتجئوا إليه ، ويرفعوا إليه حاجاتهم ، وفي الحديث : « الدعاء هو العبادة » ( 11) . وهذا من رحمته وجُودِه وكرمه – جل وعلا – .
ملازمة ذكر الله :
ومن أسباب نجاة الأمة ، ملازمتهم لذكر الله – عز وجل – في كل أحوالهم ، فذكر الله من أفضل الطاعات ، وأجَلّ القُربات ، وهو حصن حصين للعبد من شياطين الإنس والجن ، ومن كيد الأعداء ، يقول – تعالى – ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [سورة الأحزاب : الآية 41-42] ، ويقول ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [سورة الأنفال : الآية 45] ، كما أنه – تعالى – أمر كَلِيمَه موسى ، وأخاه هارون – عليهما السلام – بكثرة ذكره ، فقال ﴿ وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ [سورة طه : الآية 42] .
وذكر الله – عز وجل – مما يقرب العبيد إلى ربهم ، فيكتسبون مَعِيَّته لهم ، بالحفظ والعناية والنصر والفرج ، والنجاة من الشدائد ، كل ذلك مع إحسان الظن بالله – عز وجل – ففي الحديث المتفق عليه أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – قال : « يقول الله – تعالى – أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ، ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إليّ شبرا ، تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة » (12 ) .
التوبة إلى الله :
ومن أسباب نجاة الأمة التوبة إلى الله – عز وجل – فيجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله ، وأن يقفوا مع أنفسهم وقفة صادقة ، وأن يطهروا أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم من وسائل الفساد والرذائل ، وأن يترفعوا عن كل وسائل الفساد ، وأن يتوبوا إلى الله توبة صادقة ، تنبع من قلوب مؤمنة بالله – عز وجل – نادمة على ما سلف منها ، عازمة عزما صادقا على عدم العودة إلى ما صدر منها من ذنوب وخطايا ، معرضة عن المظالم ، وإلا فهي معرَّضة لعذاب الله ونقمته – إن هي استمرت على أمرها – يبين ذلك ويوضحه قول رب العزة ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 42-44] .
قال قتادة ( 13) : بَغَتَ القومَ أمرُ الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغِرّتهم ونعيمهم فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون .
فلا تظن أن هذه النعمة رحمة بك ، أو أنها كرامة لك ، فقد تكون ابتلاء ، ولا تظن أن المصائب نقمة ، فقد تكون موعظة لك ، وقد تكون رحمة لك ، لتتقرب إلى الله – عز وجل – .
يجب علينا أن نتقي الله – عز وجل – وأن نجله ونعظمه ، وأن نخشى أن تكون هذه النعم استدراجا لنا ، لأننا في الحقيقة ما حفظناها حقا ، ولم نستعملها استعمالا نرجوا أن يرضى الله بها عنا .
فأسأل الله أن يتوب علينا ، وأن يصلح شأننا ، إنه الله – تعالى – رحيم بالعباد ، عليم بهم ، ينعم عليهم ، لا يعاجلهم بالعقوبة على ذنوبهم ، لعلهم يرجعون إليه ، فإن رجعوا وتابوا ، قبل منهم ، وإن تمادوا في غيهم ، واغتروا بما أوتوا أنزل الله فيهم نقمته – نعوذ بالله من نقمته – كما قال – سبحانه – ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 182-183] .
ومن رحمة الله – تعالى – وسعة مغفرته أنه – تعالى – مع غناه عن العباد ، ومع فقر العباد إليه ، وحاجتهم إليه ، أنه يفرح بتوبة عبده إذا تاب وأناب إليه ، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – قال : « لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة ( 14) مهلكة ، معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام فاستيقظ ، وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت . فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده » (15 ) .
فالله – تعالى – يفرح بتوبتك إذا تبت إليه ، وذلك مع قدرته عليك ، وغناه عنك ، ومع فقرك إليه ، فهلا سارعت إلى التوبة ، وأنت تعلم أن الله – تعالى – يفرح بتوبتك ، ويخاطبك بقوله ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [سورة الزمر : الآية 53] .
فالتمس رحمة الله – عز وجل – واسأله قبول توبتك ، ومغفرة ذنبك ، فقد قص الله علينا من قصص السابقين ، وما جرى للعصاة المكذبين من العقوبات والنكال ، لا لنتسلى بذلك ، ولكن لنعتبر أن يصيبنا ما أصابهم ، قال – تعالى – ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [سورة يوسف : الآية 111] ، أي لذوي العقول ، الذين يتفكرون ويتدبرون ، يقول – تبارك وتعالى – بعد ذكره ما فعل بالمكذبين ، وما آل إليه أمرهم ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [سورة الفجر : الآية 14] ، كما أخبر – سبحانه – أن مكر أهل الباطل ، إنما يحيق بهم ، فهو يمكر بهم من حيث لا يشعرون ، يقول – تعالى – ﴿ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [سورة فاطر : الآية 43] ، وقال ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [سورة فاطر : الآية 43] .
إن الذي يتدبر النصوص الشرعية ، يتبين له أن العاقبة والنصر لهذا الدين وأهله ، وأن ذلك إنما هو بالأخذ بأسباب النصر ، والتمسك بها ، والدفاع عن هذا الدين ، كما قال – سبحانه – ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 128] ، فكم مر على الأمة من أزمات واعتداءات ، وتسلط الأعداء ، في عصور التتر ، والحروب الصليبية الظالمة ، ثم كانت العاقبة لهذا الدين ، يقول – تعالى – ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [سورة الحجج : الآية 40] ، ويقول – سبحانه – ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 139] ، ويقول – عز وجل – ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [سورة الصافات : الآية 171-173] .
التوسط في الأمور :
ومن أسباب نجاة الأمة ، التوسط في الأمور كلها ، فكما أن الغلو مذموم – لما ينتج عنه من مفاسد عظيمة – فالتفريط والتساهل في أمور الدين ، والاستخفاف بأحكامه ، وانتهاك حرماته ، وتعدي حدوده ، والولوغ في المعاصي من الزنا واللواط ، وشرب المسكرات والمخدرات ، وأكل الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وظلم الناس ، وانتهاك أعراضهم ، وسلب أموالهم ، والتحايل على ذلك ، بطرق ماكرة ، وأساليب خبيثة ، وظلم اليتامى ، وقطيعة الأرحام ، والاستخفاف بالعبادات ، والمجاهرة بالمنكرات ، كل هذا محرم وخطير ، ضار بالأمة مُفضٍ إلى دروب خطيرة ، ومهاوٍ مُظلمة ، يستجلب غضب الجبار ومقته .
فالغلو تطرف ، والتفريط تطرف ، كلاهما مفسد ، أما الدين الحق ، فهو التوسط في الأمور ، والسبيل الأقوم بين هذا وذاك ، وسط بين الغالي والجافي ، وسط بين التشدد والتساهل ، وسط بين العنف والتميع ، عدل بين جَوْرين ، يقول – تعالى – ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [سورة البقرة : الآية 143] ، أي عُدولا خيارا .
الاستعداد بالقوة المعنوية :
ومن أسباب نجاة الأمة ، وانتصارها على أعدائها ، الاستعداد بالقوة المعنوية ، بالنية الصادقة في الدفاع عن هذا الدين ، وحفظ حدوده بالقوة المادية ، قال – تعالى – ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [سورة الأنفال : الآية 60] .
ينبغي أن يُعلم أن كل ما مضى ذكره من الأخذ بأسباب النجاة ، يجب أن يبنى ويؤسس على العلم ، وهو فهم كتاب الله ، وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام – فهما صحيحا ، فما انتشر الإسلام في ربوع الأرض ، وما انتصر الصحابة – رضي الله عنهم – إلا لما حققوا هذا الجانب .
فيجب على الأمة التي تبتغي النجاة لنفسها ، أن تأخذ بأسباب القوة المادية ، وأن تسلك مسلك العلم الشرعي ، من كتاب الله وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام – وألا يؤخذ ذلك إلا عن أهله ، الذين هم أهل الفتوى ، ممن رسخت أقدامهم في العلم ، وأخذوه عن مشايخهم ، يقول – تعالى – في الحث على طلب العلم ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [سورة محمد : الآية 19] .
العلم هو أساس العقيدة
فالعلم هو أساس العقيدة ، وهو أساس العمل ، لا يقبل عمل إلا بعلم ، ولا ينفع علم إلا بعمل ، والذي يعلم ، ولا يعمل ، كان فيه شبه باليهود – عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة – الذين ضلوا عن علم ، فهم مغضوب عليهم ، ولذلك بوب البخاري – رحمه الله – قال باب العلم قبل القول والعمل .
فكما أن الله – جل وعلا – لا يقبل العمَل إلا بالعلم ، فكذلك لا ينفع العِلم إلا بالعمل ، فالنصارى – عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة – ضالون ، لأنهم ضلوا عن جهل ، وفيهم مغضوب عليهم ، لكن يغلب عليهم أنهم أمة ضلال ، كما أن اليهود أمة الغضب .
فيجب على المسلم أن يعرف دليل عمَله ، وأن يعمل بعِلمه ، حتى لا يكون العلم وبالا عليه ، ولذلك قال موسى – عليه السلام- ﴿ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 67] وقال – تعالى – ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 35] ، وقال ﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ [سورة هود : الآية 46] .
فتعوذ بالله من الجهل ، واسأل الله أن يعلمك العلم النافع ، لأن العلم بدون عمل وبال على صاحبه .
أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يهدي شبابهم ، وأن يردهم إلى الحق والصواب ، وأن يؤلف بين قلوبهم ، وأن يُعيذهم من الفُرقة والشقاق ، اللهم أَبْرِم لهذه الأمة أمْر رُشْد ، يُعَزّ فيه أهل طاعتك ، ويُهدى فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، اللهم اكبت أعداء دينك ، وأذل قلوبهم ، اللهم أبطل كيدهم ، وأفسد مكرهم ، واكشف أمرهم ، اللهم اجتث أصولهم ، اللهم وابتر فروعهم ، اللهم وفّق ولاة أمورنا للهدى والرشاد ، والعمل بما يرضيك ، اللهم انصر بهم دينك ، واحم بهم حرماتك ، وأقم بهم حدودك ، اللهم صَلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
رابط الموضوع :
أسباب نجاة الأمة
———————–
الكاتب:فضيلة الشيخ أحمد بن عثمان المنيعي

اقرأ أيضا  ناقصات أعزكم الله
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.