استعيذوا بالله تعالى وحده (خطبة)

السبت 7 ذو القعدة 1436//22 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أحمد الجوهري عبد الجواد
استعيذوا بالله تعالى وحده
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فيا أيها الإخوة!
العبادة هي كمال الحب مع تمام الذل وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وقد عرفنا أن كل ما هو عبادة لله لا ينبغي صرفها لغير الله فمن صرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد أشرك.

ومن العبادات أيها الإخوة: الاستعاذة بالله تعالى فمن استعاذ بغير الله فقد أشرك وهذه عبادة يغفل عنها وعن قواعدها كثير من الناس، لذا تعالوا بنا نسلط الضوء عليها في هذا اللقاء، لنبين أهميتها وخطرها وكما تعودنا فسوف ننظم سلك هذا الموضوع في عناصر محددة:
أولاً: معنى الاستعاذة.
ثانياً: هل الاستعاذة عبادة؟
ثالثاً: حكم من استعاذ بغير الله.
رابعاً: عودوا إلى خير الهدي.

فأعيروني القلوب والأسماع – أيها الإخوة – والله أسأل أن يجعلنا ممن عمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.

أولاً: ما معنى الاستعاذة؟
أيها الإخوة: الاستعاذة لغة هي طلب الالتجاء والامتناع بالغير مما يخشاه فقولك أعوذ بالله أي ألجأ إليه – جل وعلا -. [1]

وشرعاً: هي الالتجاء والاعتصام بالله عز وجل؛ لأنه وحده هو ملاذ المستعيذ المجهود.[2]

فما معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟
قال الحافظ ابن كثير: معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يبعدنى عن فعل ما أُمِرت به أو يحثني على فعل ما نُهِيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله تعالى ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته، بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بطبعه ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه.

قال الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 199، 200].

وقال تعالى: “﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ *وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 96 – 98].

وقال تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].

فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموادة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27] وقد أقسم للوالد أنه لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال: “فبعزتك لأغوينهم”[3]

فالاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله والاعتصام به عز وجل وحده، لأنه هو ملاذ المستعيذ وملجأ من التجأ إليه.

وإذا ذكرت العياذة وهي تكون فيما يخشى ويحذر، ذكرت الَلّياَذَةُ وتكون فيما يُطلب ويؤمل كما قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله
ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره
ولا يهيضون عظماً أنت جابره

يقول: إذا كنت أطلب شيئاً لذت بك وإذا خشيت شيئاً عذت بك فأنت تجبر من شئت من الناس ولا يستطيعون كسره، وأنت تكسر من شئت منهم ولا يستطيعون جبره.

ومن لطيف ما قرأت – أيها الإخوة – ما ذكره الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية في ترجمة المتنبي فقد أورد له هذين البيتين وقد قالهما في سيف الدولة الحمداني، قال ابن كثير: وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان يُنكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى وأخبرني العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين – يعني شيخ الإسلام ابن تيمية – يقول:
ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع[4].

فالملاذ يكون بالله، والمعاذ يكون بالله فهو مفرج الكرب حبيب القلب شديد القرب “اللهُ: هو الاسم الجليلُ العظيمُ، هو أعرفُ المعارفِ، فيه معنىً لطيفٌ، قيل: هو مِنْ أَلهَ، وهو الذي تألهُهُ القلوبُ، وتحبُّه، وتسكنُ إليه، وترضى بهِ وتركنُ إليهِ، ولا يمكنُ للقلبِ أبداً أن يسكن أو يرتاح أو يطمئنَّ لغيرهِ سبحانه، ولذلك علّم – صلى الله عليه وسلم – فاطمة ابنتهُ دعاء الكرْبِ: “اللهُ، اللهُ ربي لا أشركُ به شيئاً”[5]. ﴿ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾، ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾، ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾، ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، ﴿ يوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ﴾ [6] أفرأيت هذه الآيات إنها تلقي جلال الله في القلوب حتى لا ترى سواه ولا تعرف إلاه ولا تستعيذ بمن عداه ولا تلوذ وتؤمل وترجوا خلاه.

هذا عن تعريف الاستعاذة – أيها الإخوة – وقبل أن ننتهي من هذا العنصر نذكر فائدة جميلة ذكرها ابن كثير في التفسير عن فوائد الاستعاذة قال رحمه الله:
“ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وتهيؤ لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله تعالى واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة ولا يداري بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].

وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيداً ومن قتله العدو الباطني كان طريداً ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالله الذي يراه ولا يراه الشيطان”[7]

ومن لطيف ما قرأت ما ذكره ابن الجوزي أن بعض الشيوخ المربين أراد أن يعرف تلميذاً له قدر عداوة الشيطان ويعلمه كيف يستعيذ ويحتمي منها ويدفعها فقال له الشيخ المربي: ماذا تفعل إذا مررت بغنم فنبحك كلبها؟ فقال التلميذ: أرميه بحجر، قال: فإن عاد ثانية؟ قال: أرميه بحجر قال الشيخ: فإن عاد؟ قال التلميذ: أرميه بحجر قال الشيخ: ذاك أمر يطول يا بني، قال: فماذا أصنع؟ قال: استعن برب الغنم يكف عنك كلبها، فيا أيها الحبيب: استعذ بالله يكفك شر الشيطان، لأنه لا حول لك ولا قوة على دفعه إلا بالله عز وجل.

بك أستجير ومن يجير سواك؟
فأجر ضعيفاً يحتمي بحماك
إني ضعيف أستعين على قوي
عجزي ومعصيتي ببعض قواك
أذنبت يا رب وقادتني ذنوب
ما لها من غافر إلاك
دنياي غرتني وعفوك شدني
ما حيلتي في هذه أو ذاك
لو أن قلبي لم يك مؤمناً
بكريم عفوك ما غوى وعصاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى
هذا الشذى الفواح نفح شذاك
يا مجري الأنهار ما جريانها
إلا استجابة قطرة لنِداك
رباه قلب تائب ناجاك أترده وترد
صادق توبتي حاشاك تفعل ذلك حاشاك
رباه ها أنا قد خلصت من الهوى
واستقبل القلب الخلي هداك
فليرض عني الناس أو فليسخطوا
أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

فهل الاستعاذة بهذه المعاني تكون عبادة أيها الإخوة؟
وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: هل الاستعاذة عبادة؟
والجواب بحول وعون الملك الوهاب: إن الاستعاذة عبادة من أجلّ العبادات وأرفعها، ولم لا؟ وهي تتضمن ثقة القلب ويقينه وأمنه وطمأنينته إلى أن المستعاذ به هو المعيذ والمعين والناصر وصاحب القوة التي لا تقهر والقدرة التي لا تغلب.

والأدلة على هذا من القرآن الكريم والسنة المطهرة والطبع أكثر من أن تحصر.

ذلك أن الله أمر في القرآن الكريم بالاستعاذة به تعالى دون غيره قال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، وقال: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾. [الناس: 1]، وقال: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾ [المؤمنون: 97]، وقال: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200].

ففي هذه الآيات وغيرها من القرآن الكريم كثير بين الله سبحانه وتعالى أن الاستعاذة إنما تكون به وحده، وكذا ورد في السنة المطهرة ما يدل على امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله هذا وإدراك النبي صلى الله عليه وسلم لأهمية الاستعاذة وارشاده لنا أن نتمسك بها يَبينُ ذلك وتظهر في كثير من الأحوال والمقامات التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم يحافظ فيها على الاستعاذة.

فمنها في دعاء استفتاح الصلاة كما في السنن عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ويقول لا إله إلا الله”، ثلاثاً ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه”.[8]

وليس ذلك في صلاة الليل فحسب بل في كل صلاة كان يقول ذلك رسول الله، يستعيذ بالله، كما في حديث جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال: الله أكبر كبيراً ثلاثاً، الحمد لله كثيراً ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه”.[9]

وكان صلى الله عليه وسلم يختم صلاته بالاستعاذة من أربع كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال”.[10]

ومن هذه الأحوال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ فيها على الاستعاذة: إذا نزل منزلاً ويرشد إلى ذلك فيقول كما في مسلم من حديث خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك”.[11]

وفيه أيضاً عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك”.[12]

ومن هذه الأحوال التي كان النبي يحافظ فيها على الاستعاذة في صباحه ومسائه وذلك في الأذكار في مواضع كثيرة فكان يقول كما روى الترمذي وأبو داود بسند حسن من حديث معاذ بن عبدالله بن خبيب عن أبيه قال: خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فأدركته فقال: قل فلم أقل شيئا ثم قال قل فلم أقل شيئًا قال قل فقلت: ما أقول؟ قال قل: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء.[13]

اقرأ أيضا  الضمير الحي في زمن الفتن

وكان يقول: “أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله، وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده وأعوذ بك من شر ما في هذا اليوم وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر”.[14]

وكان يقول: “اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”.[15]

وكان يقول: “اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت”.[16]

وغيرها من أذكار الصباح والمساء كثير وفيه يكثر النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله تعالى وحده.

ومن هذه الأحوال التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها يحافظ على الاستعاذة:
الدعاء فقد كان يعلمهم أن يدعو كما روى البخاري من حديث أبي هريرة فيقول:
“تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء”.[17]

ومن هذه الأحوال: الرقى التي كان يرقى بها نفسه وغيره صلى الله عليه وسلم فكان يرقي بالمعوذتين، فعن علي قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يصلي فوضع يده على الأرض فلدغته عقرب فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعله فقتلها فلما انصرف قال: “لعن الله العقرب ما تدع مصلياً ولا غيره أو نبيّاً وغيره” ثم دعا بملح وماء فجعله في إناء ثم جعل يصبه على إصبعه حيث لدغته ويمسحها ويُعَوِّذها بالمعوذتين.[18]

وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، تقول الصديقة الفطنة اللبيبة الأريبة: فلما اشتد وجعه أي الذي مات فيه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتها. [19]

وكان – صلى الله عليه وسلم – يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة[20] وكما أرشد الرجل الذي لدغ إلى أن يقول حين يمسي: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[21]فلا يضره شيء،ومن جميل اليقين فى هذا الحديث ما اطلعت عليه أن الإمام القرطبي قال في تفسيره: “وهذه العَوْذَةُ جربتها فلم أصب بأي ضرر في أي منزل نزلته، سوى مرة نزلت منزلًا فنسيتها فلدغتني عقرب”.

وروى مسلم من حديث عثمان بن أبي العاصي الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثاً. وقل: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأُحاذر”.[22]

ومن هذه الأحوال التي كان يحافظ النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الاستعاذة: عند دخول المسجد:
كما في أبي داود وغيره بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم “قال صلى الله عليه وسلم: فإذا قال – أى العبد- ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم”.[23]

ومن هذه الأحوال: دعاء الخروج من البيت: روى أبو داود بسند صحيح من حديث أم سلمة قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل أو أظلم أو أُظلم أو أجهل أو يجهل علي”.[24]

إلى غير هذا من الأحوال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ فيها على الاستعاذة وما استعاذ فيها جميعًا إلا بالله وحده ذلك أن الطبع بعد الشرع يدل على صحة ذلك التصرف وخطأ ما عداه.

لأن دفع الضرر ودفع الشرور لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى وكل ما لا يقدر عليه إلا الله فإنه لا يطلب إلا منه جل فى علاه.

ولهذا بين الله تعالى أن المشركين كانوا يستعيذون بغيره وأوضح لنا عظم جرمهم وقبح تصرفهم ذاك وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: حكم من استعاذ بغير الله.

أيها الإخوة:
إذا علمنا أن الاستعاذة عبادة لا يقدر عليها إلا الله ولا تُصرف إلا له سبحانه وتعالى كان صرفها والتوجه بها إلى غير الله شرك وقد قال الله عز وجل حاكياً عن حال المشركين في استعاذتهم بغير الله من الجن والشياطين قال سبحانه ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6] وقصة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الله عز وجل فردوه ردّاً قبيحاً وأغروا عبيدهم وسفهاءهم يرجمونه بالحجارة عليه الصلاة والسلام رجع إلى مكة وقد خرج من مكة على حالة شديدة، مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة التي كانت تؤانسه وكانت له نعم المعين على دعوته، ثم لما خرج إلى الطائف أصيب بهذا الرد القبيح، اشتدت به الحال صلى الله عليه وسلم جدّاً وبينما هو كذلك يسر الله له من الجن من استمع إلى القرآن وآمن به وذلك عند واد يقال له نخلة بين مكة والطائف قام صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر ويقرأ القرآن واستمع له الجن فأعجبوا بالقرآن كما قص الله علينا في سورة الأحقاف وفي سورة الجن.

قال تعالى: “﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 29 – 32].

وقال عز من قائل: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ﴾ [الجن: 1-7].

وفي هذه الآيات – أيها الإخوة -: ينتقد هؤلاء المؤمنون من الجن بعض أفعال العباد التي تخالف التوحيد فمن ذلك أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا.

قال المفسرون عكرمة والسدى وغيرهما: كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم المكان الذي ينزلون فيه من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير، ينزل الرجل بأهله في المكان فينادي: إنا نعوذ بعظيم هذا الوادي أو بسيد أهل هذا الوادي من سفهائه، قالوا: وكانت الجن إذا رأتهم أقبلوا هربت فلما فعلوا ذلك وسمعوا كلامهم عرفوا أن الإنس يخافون منهم كما يخاف الجن من الإنس فرجعوا إليهم وزادوهم خوفًا وأصابوهم بالخبل والجنون وتعبدوهم بشتى العبادات منها الاستعاذة ومنها الاستعانة وربما الذبح وغيرها فزادوهم إثمًا وكفرًا وطغيانًا. [25]

ومن عجيب وجميل ما اطلعت عليه في هذا الموضع ما ذكر الحافظ ابن كثير عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملًا من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامرَ الوادي جارَك، فنادى منادٍ لا نراه يقول: يا سرحان أرسله، فأتى الحَمَل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6][26]

قال الحافظ اللبيب الأريب ابن كثير: وقد يكون الذئب الذي أخذ الحمل، وهو ولد الشاة، كان جنيًّا حتى يرهب الإنسىّ ويخاف منه، ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم [27]

﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ أي: زاد الجن الإنس باستعاذتهم بسادتهم رهقا: إثمًا وطغيانًا وشرًّا وغشيانًا لمحارم الله تعالى.

ولذا حكى الله – تبارك وتعالى – عبادة هؤلاء الإنس للجن في القرآن الكريم كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [سبأ: 40-42].

قال العلماء: كانت عبادتهم للجن استعاذتهم بهم.

أقول – أيها الإخوة -:
ولعل هذا هو السبب الرئيس في استكبار هؤلاء الجن وأمثالهم من الشياطين عن الإذعان والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإطاعته واتباعه لمًّا جاء بدعوة الله ورسالته إلى أهل الأرض لأنه سلبهم الزعامة التى كانوا يتبوءونها، كما استكبر ابن أبي بن سلول زعيم المنافقين عن الإيمان، لأنه كان سيصبح ملكًا على المدينة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إليها فلما فات عليه هذا المنصب بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم حمل العداوة للإسلام والمسلمين، أقول: وهذه حال المشركين من الجن والشياطين فمن أعجب ما قرأت في ذلك ما روي أنهم دبروا لمحاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وقتله بطريقة بشعة شنعة للغاية فقد روى الطبراني في الأوسط وصحح الحديث العلامة الألباني في الصحيحة عن جعفر بن سليمان الضبعي قال حدثنا أبو التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنبش التميمي وكان شيخًا كبيرًا: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: قلت: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية والشعاب وفيهم شيطان بيده شعلة من نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! قل، قلت: وما أقول: قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارق يطرق بخير يا رحمن، قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله -تبارك وتعالى-. [28]

وروى مسلم عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ “أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ”. ثُمَّ قَالَ “أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ”. ثَلاَثًا. وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِى الصَّلاَةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ. قَالَ “إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِى وَجْهِى فَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ وَاللَّهِ لَوْلاَ دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ”.[29]

اقرأ أيضا  رمضان والطاعات (خطبة)

إلى هذا الحد – أيها الإخوة – كان الحقد والغل والحسد متأصلًا في قلوب الجن والشياطين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم لا؟ وهو الذي عمل على هدم عروش كفرهم وعبادتهم في قلوب الإنس، ونفث في روعهم روح الإيمان فأخرجهم من العبادة والاستعاذة بالجان وعلمهم وعرفهم أن الاستعاذة لا تكون إلا بالرحيم الرحمن.

ولذلك بين السادة العلماء أن الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تجوز بل هي شرك فقد ذكر العلماء أن الاستعاذة قسمان:
• استعاذة جائزة وهي الاستعاذة بالعبد الحي الحاضر فيما يقدر عليه.

• واستعاذة جائرة يتعدى صاحبها على حق الله وهي شرك وهي الاستعاذة التي لا يقدر عليها مخلوق بل هي من خصائص الله تعالى كدفع الضر وجلب الخير ونحو ذلك فمن استعاذ بغير الله تعالى من ولي أو نبي أو صالح أو صاحب ضريح أو قبر أو مشهد في شيء مما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر بالله تعالى.

ومن جميل ما قرأت عن سلفنا – ونعم السلف كانوا – ما ذكر القاضي عياض ترتيب المدارك وتقريب المسالك وهو يترجم للإمام الشافعي قال:قال الفضل بن الربيع: بعث إلي الرشيد في وقت لم يكن يبعث إلي فيه، فدخلت عليه في مجلس خاصته وبين يديه سيف وقد أزبد وجهه. فقال لي يا فضل أذهب إلى الحجازي محمد بن إدريس فأتني به، فإن لم تأتني به أنزلت بك ما أريد به، فأتيته وهو في مسجد بيته يصلي، فانتقل من صلاته، فقلت له: أجب أمير المؤمنين فقال: بسم الله وحرّك شفتيه ثم نهضت أمامه وهو يفنوني حتى أتيت القصر، وأنا أرجو أنه قد قام فإذا هو جالس. فقال ما فعل الرجل؟ قلت بالباب قال لعلك روعته قلت لا قال: أدخله.فلما دخل تزحزح له عن مجلسه وتهلل وجهه، وضحك إليه وصافحه وعانقه وقال له: يا أبا عبد الله لم يكن لنا عليك من الحق أن تأتينا إلا برسول، فاعتذر بعذر لطيف. فقال إن أمرنا لك بأربعة آلاف دينار وفي رواية بعشرة آلاف. فقال لا أقبلها. فقال: عزمت عليك لتأخذها. يا فضل، احملها معه. قال الفضل: فلما انصرف قلت: بالذي أنجاك منه وأبدل لك رضاه من سخطه، ما قلت في إقبالك إليه ودخولك عليه. قال نعم. قلت: شهد الله أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم رب العرش العظيم. اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وبركة جلالك، من كل آفة أو عاهة أو طارق، إلا طارقاً يطرق بخير يا أرحم الراحمين. اللهم أنت عياذي، فبك أعوذ وأنت ملاذي فبك ألوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وخضعت له مقاليد الفراعنة، أعوذ بكرمك من غضبك ومن نسيان ذكرك، ومن أن تخزني أو تكشف ستري، أنا في كنفك في ليلي ونهاري، وظعني وأسفاري ونومي وقراري.

فاجعل ثناءك دثاري وذكرك شعاري، لا إله غيرك، تنزيهاً لوجهك وتعظيماً لسحبات قدسك. أجرني من عقوبتك وسخطك، واضرب علي سراقات حفظك، وأعطني من خير ما أحاط به علمك. واصرف عني شر ما أحاط به علمك. وأمن روعاتي يوم القيامة يا راحم الراحمين. قال الفضل: فما دخلت على سلطان فدعوت بالدعاء إلا ضحك في وجهي وضمني وأكرمني.

هذا هو حكم الاستعاذة بغير الله عز وجل ويعرض لنا – أيها الإخوة – هنا سؤال لا يصح أن نتجاوز هذه النقطة إلا أن نجيب عنه ألا وهو:
ما حكم الالتجاء إلى المشركين والدخول في حمايتهم وهو نوع من الاستعاذة؟
وهذا سؤال مهم يدخل في صميم حديثنا بلا شك ونحن نتحدث عن الاحتماء والالتجاء والاستعاذة بالله تعالى وحده والجواب – أيها الإخوة – نتعرف إليه بعد جلسة الاستراحة أسأل الله لي ولكم المغفرة.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا أيها الإخوة! ما هو حكم الالتجاء إلى المشركين والدخول في حمايتهم؟
والجواب – أيها الإخوة – فيه تفصيل:
فمن التجأ إلى المشركين يطلب الحماية عن اختيار وقصد يريد متابعتهم ومناصرتهم مفتتنًا بما هم عليه فهذه بلا شك ردة عن الإسلام وخروج عن دائرته الرحبة وهذه مهما كانت المبررات – الموالاة التي نهى الله عنها حيث قال: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ كما حدث ويحدث للأسف من كثير من المنتسبين الى الإسلام زورًا وبهتانًا الخارجين عليه بدعوى حرية الفكر وما هي إلا حرية الكفر فترى الواحد منهم يؤلف ويتكلم فى حقائق الدين ويقينياته الثابتة يزلزل الثوابت ويهدم الأصول ويحرك الرمال الناعمة فإذا علت الأصوات ضده ولم يستطع الإجابة عن تساؤلاتهم وهى تدينه لأنها على حق وهو على باطل ورأى نفسه وقع فى الحفرة التى حفرها ليدفن الإسلام فيها فإذا هو الذى سيدفن فيها خرج فارًّا هاربًا بكفره إلى إخوانه فى بلاد الغرب والشرق يلوذ بهم ويعوذ، ومن هؤلاء رشاد خليفة وأحمد منصور اللذان كانا أستاذين في جامعة الأزهر، ومنهم نصر حامد أبو زيد الذي كان أستاذًا بآداب القاهرة، ومنهم سلمان رشدي أو “مكسور غوي” الذي ليس له من اسمه أي نصيب صاحب كتاب “آيات شيطانية” والمأفون الآخر الذى ألف كتاب أو رواية “وليمة لأعشاب البحر” فهؤلاء بلا شك مرتدون، أما من التجأ إلى بلاد المشركين يحتمي بهم مكرهًا مضطرا لإيذاء وقع عليه في دار الإسلام من تهديد أو وعيد وقد وصل إلى حد الإكراه فعلًا ولم يجد ناصرًا من المسلمين، والأمن في بلاد المشركين له متحقق ويضمن دينه، فلا بأس وقتئذ من الالتجاء إليهم فهذا التجاء بالبدن لا بالقلب، ومثل هذا أن يكون المسلم في بلاد الكافرين ويخشى بعضهم فأيضًا يجوز له أن يحتمي في البعض الآخر.

“فعندما يكون المسلمون في حالة الضعف، في مرحلة الدعوة، وعندما يشتد عليهم أذى المشركين وتنزل بهم المحن والخطوب، فليس أمامهم إلا تحمل الآلام والمشقة، أو الدخول في جوار أحد من الناس، أو الهجرة إلى مكان آمن، وقد خرج جماعة من الصحابة فراراً بدينهم – ومن بينهم رجال من كبار الصحابة -، مصطحبين معهم النساء والأبناء، حيث قصدوا أرض الحبشة ونزلوا مطمئنين بجوار ملكها العادل – وذلك قبل أن يدخل النجاشي الإسلام -، ومن المشهور عن الصحابة أنهم لم يتنازلوا من أجل الحماية والأمان عن أي شيء من أمر دينهم، ولم يبدلوا من سلوكهم أو مواقفهم لقاء هذه الحماية، وكان الدخول بالجوار دون قيد أو شرط يحول بين المسلم ودينه، ولا يشترط في عقد الجوار أن يكون صريحاً من إيجاب وقبول، فقد يكون من طرف واحد يعلن حمايته لهذا الرجل، وذلك من أجل قرابة أو حباً في مواقف الشرف، وقد يكون الجوار على شكل بلاد مفتوحة أمام المهاجرين، بحيث يستطيع الإنسان أن يقيم فيها دون الالتزام بقيود في مجال الاعتقاد، وإنما يعتمد على قوانين تلك البلاد التي لا تتعرض للأحوال الشخصية للناس، كما هو الحال في بعض البلاد الأوربية وغيرها”.

وهذا ظاهر من سنة النبي وسيرته صلى الله عليه وسلم فقد احتمى النبي بعمه أبي طالب من صناديد المشركين ولطالما وقف أبو طالب حائط سد وصد تتكسر عليه سيوف ورماح وسهام أهل الباطل دفاعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.[30]

ودخل النبي يوم الطائف دخل مكة في جوار المطعم بن عدي. [31]

ودخل في الجوار أيضًا أبو بكر دخل جوار ابن الدغنة لما أراد أن يخرج مهاجرًا قِبَل الحبشة والحديث أخرجه البخاري عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجَ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ، إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ – وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ – فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِى قَوْمِى فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ، فَطَافَ فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ، وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ.

وهكذا جائز للمسلم أن يدخل في جوار المشرك وحمايته إذا لم يكن له من المسلمين ناصر ولم يكن ذلك على حساب شيء من دينه، أما إذا كان غير ذلك فلا. [32]

كما في بقية هذه القصة قالت عائشة: فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى، فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. [33]

وهذه العزة من أبي بكر – رضي الله عنه – تذكر بعزة الصحابي الجليل عثمان بن مظعون – رضي الله عنه – فقد قال ابن إسحق يذكر مهاجرى الحبشة الأولين لما رجعوا ظانين أن أهل مكة أسلموا ولم تكن حقيقة فرجع بعضهم إلى الهجرة ودخل بعضهم في جوار وجهاء مشركين يقول: وكان ممن دخل منهم بجوار: [فيما سمى لنا] عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبى طالب، فإن أمه برة بنت عبدالمطلب، فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف حدثنى عمن حدثه عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى، ورواحى في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، قال: لم يا ابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية، قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد على جواري، قال: صدق، قد وجدته وفيًّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان رضى الله عنه، ولبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:
ألا كل شئ ما خلا اللهَ باطلُ
فقال عثمان: صدقت.

اقرأ أيضا  الانتماء إلى الأوطان في ظل الإسلام

فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟!
فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.

فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.

فقال له عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله! وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد.
قال: لا.

فقال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه:
فإن تك عيني في رضا الرب نالها
يدا ملحد في الدين ليس بمهتد
فقد عوض الرحمنُ منها ثوابه
ومن يُرْضِهِ الرحمنُ يا قومِ يسعدِ
فإني وإن قلتم غوى مضلل
سفيه على دين الرسول محمدِ
أريد بذاك الله والحق ديننا
على رغم من يبغي علينا ويعتدي

وقال علي بن أبي طالب عليه السلام فيما أصيب من عين عثمان بن مظعون رضي الله عنهما:
أمن تذكر دهر غير مأمون
أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون
أمن تذكر أقوام ذوي سفه
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا
والغدر فيهم سبيل غير مأمون
ألا ترون – أقل الله خيرهم –
أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
إذ يلطمون ولا يخشون مقلته
طعنًا دراكاً وضرباً غير مأفون
فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلًا
كيلًا بكيل جزاء غير مغبون

فهذه من المآثر التي خلفها لنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

الخلاصة أنه يجوز للمسلم أن يدخل في جوار المشرك وحمايته إذا لم يكن له من المسلمين ناصر ولم يكن ذلك على حساب شيء من دينه، أما إذا كان غير ذلك فلا، ولا يتعارض ذلك مع حرمة الاستعاذة بغير الله فإنه إذا كان معنى الإجارة يلتقي مع الاستعاذة، في أن كلًا منهما يطلب خلاله الحماية والمنعة، فإن الاستعاذة لا تكون إلا بالله، بينما تكون الإجارة في الدنيا من الناس.

ومن علت همته فأبى إلا الصبر وعدم الدخول في جوار مشرك فالله له وهو ناصره ومؤيده، وله فيمن ذكرنا الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة.

هذا يا عباد الله دين ربنا وهذه شرعة نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم فإن المسلم يطلب الجنة ومن طلب الغالي تكبد ثمنه غاليًا”ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”.[34]

وفي النهاية أهمس في أذنك: أي حبيبي في الله لا تستعن إلا بالله ولا تستغث إلا بالله، ولا تستعذ إلا بالله،”إذا نزلتْ بك النوازلُ، وألَمَََََّتْ بك الخطوبُ فالْهجْ بذكرِهِ، واهتفْ باسمِهِ، واطلبْ مددهُ واسألْه فتْحهُ ونصْرَهُ، مرِّغِ الجبين لتقديسِ اسمِهِ، لتحصل على تاج الحريَّةِ، وأرغم الأنْف في طين عبوديتِهِ لتحوز وِسام النجاةِ، مدَّ يديْك، ارفع كفَّيْكَ، أطلقْ لسانك، أكثرْ من طلبِهِ، بالغْ في سؤالِهِ، ألحَّ عليه، الزمْ بابهُ، انتظرْ لُطْفُه، ترقبْ فتْحهُ، أشْدُ باسمِهِ، أحسنْ ظنَّك فيه، انقطعْ إليه، تبتَّلْ إليه تبتيلاً حتى تسعد وتُفْلِحَ”.[35]

فاستعذ أُخَيَّ بالله تعالى وحده فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه واعتبر بهذه القصة التي يذكرها الحافظ ابن عساكر في كتابه العظيم الجليل: تاريخ دمشق يقول: كان بدمشق رجل له بغل يكريه من دمشق إلى تل يسمى الزبداني ويحمل عليه الناس، فذكر أنه أكرى بغله مرة رجل يحمل عليه متاعًا له بأجرة معلومة فلما صار خارج الدرب لقيه رجل وسأله أن يحمله على رأس الحمل ويأخذ منه أجرته قال فرغبت في الكراء وحمله فوق الحمل ولزمت المحجة قال: فلما صرنا ببعض الطريق قال لي هل لك أن تأخذ بنا هذا الطريق فإنه مختصر ويجئ عند مفرق طريقين قال: فقلت له: أنا لا أخبر هذا الطريق ولا أعرفه فقال: أنا أعرفه وقد سلكته مرارا كثيرة قال: فأخذت في ذلك الطريق فأشرفت على موضع وعر وحش، وواد عظيم هائل واستوحشت وجعلت أنظر يمنة ويسرة ولا أرى أحدًا ولا أرى أي إنسان فبينا أنا كذلك إذا به يقول لي: امسك برأس البغل حتى أنزل فقلت له أيش تنزل وقد أشرفت في هذا الموضع مر بنا نلحق البلد بوقت فقال: خذ ويلك برأس البغل حتى أنزل وقد أشرفت على واد عظيم يخايل لي أن فيه أقوامًا موتى فأمسكت برأس البغل حتى نزل ثم شد على نفسه ثيابه وأخرج سكينًا عظيمًا من وسطه وقصدني به ليقتلني فعدوت من بين يديه وأنا أقول: يا هذا خذ البغل وما عليه فقال هذا هو لي وإنما أريد أن أقتلك، فخوفته بالله عز وجل وتضرعت إليه وبكيت وحذرته من عقوبة تلحقه فأبى وقال: ليس بد من قتلك فاستسلمت في يده وقلت دعني أصلي ركعتين ثم افعل ما بدا لك، فقال: افعل ولا تطول فابتدأت بالتكبير وأرتج علي القراءة حتى لم أذكر من القرآن حرفًا واحدًا وأنا واقف متحير وهو جالس بحذائي يقول: هيه أفرغ فأجرى الله على لساني بعد وقت فقرأت “أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء” فإذا أنا بفارس قد أقبل من نحو الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده وخر صريعًا فتعلقت بالفارس وهو منصرف وقلت له بالله من أنت الذي من الله بحياتي بظهورك فقال: أنا رسول” من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء” قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت إلى دمشق سالمًا. [36]

فسبحان من لا يسلم أولياءه لأعدائه أبدًا حين يعلم منهم أن قلوبهم ونفوسهم وآمالهم معه به يلوذون وبه يعوذون.

فاسلكوا – أيها الإخوة – الصراط المستقيم طريق رب العالمين وسنة سيد المرسلين وكونوا على خير الهدي وهو هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهذا يستلزم منك تعلم الطريق والتعرف عليه فالزم العلماء وكن معهم وإن يتيسر لك فلا تخط على الطريق خطوة إلا بعد مشاورتهم واسترشادهم، أسأل الله لي ولكم النجاة والنجاح، اللهم أعذنا من شر أنفسنا وأعذنا من شر خلقك.

اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء وسوء القضاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك منك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك عظم جاهك وجل وعلا سلطانك ولا إله غيرك أعذنا بفضلك من النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال….. الدعاء.

________________________________________
[1] لسان العرب – (3 / 498) لابن منظور، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة (عَوَذَ).
[2] عون العلي الحميد (1/ 260).
[3] تفسير ابن كثير 1/ 82، 83.
[4] البداية والنهاية (11/ 259).
[5] انظر صحيح ابن ماجه 2 / 335 وصحيح الترمذي 4 / 196، وصحيح الترغيب والترهيب (1824)، وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع أهل بيته فيقول: “إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل: الله، الله ربي لا أشرك به شيئا”، وهو في الصحيحة – (6 / 254)، وقال: أخرجه ابن حبان في”صحيحه” (2369 – موارد) و الطبراني في”المعجم الأوسط” (2 / 22 / 2 / 5423).
[6] لا تحزن.
[7] تفسير ابن كثير (1/ 114).
[8] أخرجه أبو داود (1/ 124)، والنسائي (1/ 143)، والترمذي (2/ 9 – 10)، والدارمي (1/ 282)، وابن ماجه (1/ 268)، وحسنه الألباني انظر: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم – (1 / 252).
[9] أخرجه أبو داود (1/ 122)، وابن ماجه (1/ 269)، والحاكم (1/ 235)، وقال الألباني في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم – (1 / 273): مثله في الشواهد لا بأس به إن شاء الله تعالى.
[10] أخرجه مسلم (588)، عن أبي هريرة و (590)، عن ابن عباس.
[11] أخرجه مسلم (7053).
[12] أخرجه مسلم (7055).
[13] أخرجه أبو داود (5082)، والترمذي (3575)، وحسنه الألباني في التعليق الرغيب (1 / 224).
[14] أخرجه مسلم (7082).
[15] أخرجه البخاري (6306).
[16] أخرجه أبو داود (5090)، وقال الألباني: حسن الإسناد.
[17] أخرجه البخاري (6347).
[18] أخرجه الطبراني في “المعجم الصغير” (ص 117) وأبو نعيم في “أخبار أصبهان” (2 / 223) وأبو محمد الخلال في”فضائل قل هو الله أحد”(ق 202 / 1) انظر: “السلسلة الصحيحة”2 / 80.
[19] أخرجه البخاري 5016، ومسلم 5844.
[20] أخرجه البخاري (3371)، واللامة: العين اللامة التى تصيب بسوء، والهَامة: بتشديد الميم واحدة الهوام وهى الحيات وكل ذى سم يقتل سمه.
[21] أخرجه مسلم (7055).
[22] أخرجه مسلم (5867).
[23] أخرجه أبو داود (466)، قال الألباني: وإسناده صحيح انظر: الثمر المستطاب (ص / 603).
[24] أخرجه أبو داود (94 50)، وابن ماجه (3884)، وانظر صحيح الترمذي 3 / 152 وصحيح ابن ماجه 2 / 336.
[25] تفسير ابن كثير (8 / 239).
[26] نفسه (8 / 240).
[27] نفسه (8 / 240).
[28] أخرجه الطبراني في”الأوسط”(2 / 31 / 5547)، وهو في الصحيحة (2738).
[29] أخرجه مسلم (1239).
[30] انظر مجلة البيان، العدد (30) ص (15).
[31] انظر زاد المعاد (1 / 94).
[32] انظر في تفصيل ذلك عون العلي الحميد (1/ 263- 268).
[33] أخرجه البخاري 2297.
[34] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8 / 377)، والحاكم (4 / 308)، وهو في الصحيحة 954.
[35] لا تحزن.
[36] تاريخ دمشق – (68 / 252).
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.