من خصائص الخطابة في الجاهلية والإسلام
الأحد،16جمادى الثانية1436//5أبريل/نيسان 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. محمد بن سعد الدبل
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود (3)
مِن أهمِّ الخصائص الفنية للخُطب الجاهلية شدة الأَسر، وفَخامة اللفظ، وإحكام الصنعة، والمحافظة على أصالة اللغة، والتراوح بين الطول والقِصَر على حسب المقامات التي تُساق فيها الخُطبة، وليس المقام هنا مقام تفصيل لدراسة الخطابة الجاهلية؛ إذ الدراسة خاصَّة بموضوعات الأدب الإسلامي الذي مِن أصوله جيِّد المنظوم والمنثور مِن كلام العرب.
غير أن هناك تشابهًا في موضوعات الخطابة عند العرب في جاهليتهم وفي إسلامهم منذ فجر الدعوة الإسلامية وإلى اليوم؛ فهناك من الموضوعات التي جمعت بين القِيم الإنسانية والقيم التعبيريَّة والإرشاد في العصرَين الجاهليِّ والإسلامي ما يلي:
• خُطب الوفود.
• خطب الاستِخلاف والولاية.
• خطب الحرب.
• خطب الزواج.
• خطب المناظَرة.
• الخطب الاجتماعية.
وكان مما اختصَّ الإسلام به مِن هذه الخُطب:
• خطب الفتوح.
• خطب الزواج.
• خطب الوعظ والإرشاد.
• الخطب السياسية.
• الخطب العِلمية.
وكانت موضوعات هذه الخطب عند العرب في جاهليتهم وفي إسلامهم ذات تشابُه تامٍّ في الخصائص الأسلوبية.
فمِن أبرز الخصائص الفنية في هذا اللون مِن ألوان الأدب – وبخاصة الأدب الإسلامي – أسلوب الإقناع بالدليل والحُجَّة الواضحة والموعظة الحسنة، مع الوضوح الذي يَكشِف عن قصد الخطيب في غير تعمية ولا تضليل، وأن تكون الخطبَة مِن أقرب الطرق مجازًا، وأبينها جوازًا، وسبيل الوضوح هو التعبير في سهولة وفي غير مغالَطة ولا تعقيد.
وأن يتجنَّب الخطيب التكلف في سوق الأفكار، فيَتحاشى التوعُّر في اختيار الألفاظ[1]، فمثل هذه الخصائص تسلم الخطيب إلى الإغراب الذي لا يَصل به المعنى إلى ذهن السامع إلا بكدِّ القرائح والفِطَر إمعانًا في فهم المعنى المراد، وحول هذه الخصوصية يقول أبو هلال العسكري: “إذا جمع الكلام العذوبة والجزالة، والسهولة والرصانة، مع السلاسة والنَّصاعة، واشتمل على الرَّونق والطلاوة، وسَلم مِن حَيف التأليف، وبَعُد عن سماجة التركيب قَبِلَه الفهم الثاقب ولم يردَّه، والفهم يأنس مِن الكلام بالمعروف، ويَسكُن إلى المألوف، ويُصغي إلى الصواب، ويَهرُب مِن المُحال، ويَنقبِض عن الوخَم، ويتأخَّر عن الجافي الغليظ، وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكد، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزَّة غليظة، وجاسيه غريبة، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلسًا عذبًا وسهلاً حُلوًا، ولم يَعلموا أن السهل أمنع جانبًا وأعز مطلبًا[2]، إنَّ تحقُّق هذه الخصائص مُجتمعة يغري بالمُضيِّ في الحديث عن الخَطابة الإسلامية، ذلك اللون الذي سبَق الشِّعر في الظهور والتأثير، وكان من أجمل فُنون الأدب الإسلامي.
ولا أرى ما يدعو إلى دراسة تاريخ هذا اللون في الأدب؛ فإنه صاحَب ظهور الدعوة الإسلامية على يد محمد – صلى الله عليه وسلم – وظل مُرافقًا للعطاء الأدبي طوال نشر الدعوة الإسلامية على يَدِ القادة الفاتحين مِن رعيل الصحابة والتابعين والخلفاء والولاة الذين صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه، ولم يزل هذا اللون يُساير النهضَة الأدبيَّة الحديثة عند طائفة كبيرة مِن المُفكِّرين والأدباء والمُصلِحين إلى اليوم.
وإذا أردنا أن نَقف على خصائص هذا اللون الأدبي، ونَدرُسه دراسة نقديَّة مِن منظور إسلامي، فإن في نصوصه عبر تاريخ الأدب العربي ما يُدلِّل على عطاء الأدب الإسلامي، ويُبرهِن على وجود أدب مُتميِّز مُلتزِم غائي نبيل هادِف.
وإذا كان مِن أجود ما يُجلي الخصائص الفنية للعمل الأدبيِّ الوقوف على شيء مِن النصوص التي خلَّفها الرعيل الأول مِن المسلمين، فإن في أدب الدعوة الإسلامية مِن النصوص الخطابية ما يَنهض بدراسة أدبيَّة نقدية كامِلة.
وإذا كان الأدباء يَتفاضَلون في أعمالهم الأدبية شِعرًا ونثرًا، فإن إمام الفضل والفضيلة في الأدب الإسلامية هو رسول الأمة ونبيها محمد – صلى الله عليه وسلم – لأن أدبه هو ذلك الكلام الرفيع الذي لم يُدرك شأوه بليغٌ ولا فصيح، فلنقف على شيء مِن كلامه الشريف ضِمنَ كلمات ليسَت مِن بَوح الخاطر، وليسَت في الإبداع هواجس شاعِر، ولا هي مِن تكلُّف المُتفاصِحين، ولا مِن مأثور البُلغاء والبلاغيِّين، وإنما هي عقود مُشذَّرة تعدُّ واسطة العقد في الكلام، وجواهِره في المعاني الساميَة الشريفة؛ لصدورها عن إمام العلم والحِكمة، ونبيِّ الهدى والرحمة، ساق منها العلماء في آثارهم، واقتبَس منها الأدباء في عطائهم وأورَدها علماء اللغة والبيان شواهد على قواعدهم وأمثلتهم؛ فهي مدد فيَّاض لا يَنضب أبد الدهر.
أورَد العالِم الأديب يَحيى بن حمزة العلوي، في كتابه: “الطراز المتضمِّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز” ما لا يملُّ إذا أعيد:
فلننتقل إلى شيء مما ذكره العلوي من كلام الصحابة الأجلاء، وليكن ذلك مما أورده مِن كلام الإمام عليٍّ – كرم الله وجهه – يقول العلوي: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه -: “نحن أمراء الكلام، وفينا تشبَّثت عروقه، وعلينا تهدَّلت أغصانه”، قال العلوي: ومِن كلامه – كرَّم الله وجهَه – في معنى بدء الخليقة: “فطر الله الخلائق بقدرته، ودبَّرها بحكمته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه”، ثم قال: “أول الدِّين معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده التصديق به، وكمال التصديق به الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي صفات النقائص عنه”.
ومِن النوادر في الحِكَم والآداب قوله – رضي الله عنه -: “قيمة كل امرئ ما يُحسن”، فهذه اللفظة: لا يُوازيها حِكمة، ولا تقوم أمامها جملة، وقوله: “المرء مخبوء تحت لسانه، والسعيد مَن وُعظ بغيره، والمغبوط مَن سلم له دِينه، مَصارِع العقول تحت بُروق الأطماع، بالبرِّ يُستعبَد الحُرُّ، الطمع رقٌّ مؤبَّد، التفريط ثمرته الندامة”[3].
مَن عرف كلام البلغاء في خُطبهم ومواعظهم بعده – كرم الله وجهه – إلى يومنا هذا (غير كلام الله – تعالى – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم) علم قطعًا لا شك فيه، أنهم قد أسفُّوا في البلاغة وحلَّق، وقصَّروا في الفصاحة وسبق، والعجب من علماء البيان والجماهير من حذاق المعاني؛ حيث عولوا في أودية البلاغة، وأحكام الفصاحة، بعد كلام الله تعالى وكلام رسوله، علىدواوين العرب، وكلماتهم في خطبهم، وأمثالهم وأعرضوا عن كلامه مع علمهم بأنه الغاية التي لا رتبة فوقها ومنتهى كل مطلب، وغاية كل مقصد في جميع ما يطلبونه من الاستعارة والتمثيل والكناية، وغير ذلك من المجازات الرشيقة والمعاني اللطيفة الدقيقة[4].
ويؤيد توافر هذه الخصائص في النصوص ما أورده الجاحظ من الخطب لعليٍّ ولغيره من خطباء الإسلام من ذلك خطبته – كرم الله وجهه – في الحثِّ على الجهاد؛ فقد قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:
أما بعد، فإن الجهاد باب مِن أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلِّ، وشمله البلاء، ولزمه الصَّغار، وسيم الخسف، ومُنع النصَف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهارًا، وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يَغزوكم، فوالله ما غُزي قوم – قطُّ – في عقر دارهم إلا ذلُّوا، فتواكلتُم وتخاذَلتُم، وثَقُل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظِهريًّا، حتى شُنَّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد ورَدت خيله الأنبار، وقتَل حسان – أو ابن حسان – البكري، وأزال خيلكم عن مسالِحها، وقتل منكم رجالاً صالِحين، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهَدة فيَنزع حَجْلها وقلبها ورِعاثها، ثم انصرفوا وافرين، ما كُلم رجلٌ منهم كلمًا، فلو أن رجلاً مسلمًا مات مِن بعد هذا أسفًا ما كان عندي به ملومًا، بل كان به عندي جديرًا، فيا عجبًا مِن جدِّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشَلِكم عن حقِّكم، فقُبحًا لكم وترحًا، حين صِرتُم هدفًا يُرمى وفيئًا يُنتهَب، يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويُعصى الله وترضَون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحرِّ قلتم: حمارة القيظ، أمهلْنا يَنسلخ عَنا الحرُّ، وإذا أمرتكم بالسير في البرد، قلتم: أمهلنا ينسلخ عنا القُرُّ، كل ذا فرارًا مِن الحرِّ والقرِّ، فإذا كنتم مِن الحر والقر تفرون، فأنتم – والله – من السيف أفرُّ، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحِجال، وددتُ أن الله أخرجني مِن بين ظهرانَيْكم، وقبَضني إلى رحمته مِن بينكم، والله لوددتُ أني لم أرَكم ولم أعرفكم، معرفة – والله – جرَّت ندمًا، قد ورَيتُم صدري غيظًا، وجرَّعتموني الموت أنفاسًا، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعِصيان والخِذلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شُجاع ولكن لا علم له بالحرب، للهِ أبوهم، وهل منهم أشد لها مراسًا، أو أطول لهما تجربة مني؟ لقد مارستها وما بلغتُ العِشرين، فهأنَذا قد نيفتُ على الستِّين، ولكن لا رأيَ لمَن لا يُطاع [5].
وقبل أن نتحدث عن خصائص هذه الخطبة الإسلامية، هناك أمر يَحسن التنبيه عليه فيما يتعلق بصحة نسبة ما دُوِّن مِن الخطب إلى علي – كرم الله وجهه – أقول فيما قيل: لقد حَفظت كتب التراجم والسير وأمهات مصادر البلاغة والنقد والأدب عددًا كبيرًا مِن خُطب الإمام علي – كرَّم الله وجهَه – غير أن أغلب هذه الخطب ليس مِن نَسجِ كلامه، ولا مِن مكنون مُراده، وإنما هو مِن قَبيل الكلام المصنوع المدخول عليه، وبخاصة ما كان الخطب التي بين دفَّتي كتاب “نهج البلاغة”؛ فقد أشار إلى ذلك كثير من العلماء، واختلفوا هل هو مِن عمل الشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ، أو من عمل أخيه الشريف الرضي المتوفى سنه 406هـ.
يقول ابن خلكان في ترجمة أورَدها له بكتابه: “وفيات الأعيان”:
“قد اختلفت الناس في كتاب “نهج البلاغة” المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – هل هو جَمعُه أو جمْع أخيه الرضي، وقد قيل: إنه ليس مِن كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه”[6]، ويردِّد هذا الكلام اليافعي في مرآة الجِنان، وابن العماد في شذرات الذهب، ويؤكد الذهبي في ميزان الاعتدال أن الشريف المُرتضى هو الذي وضعه، ويذهب مذهبه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان؛ حيث يقول:
“مَن طالع نهج البلاغة جزم أنه مكذوب على أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – ففيه السبُّ الصراح، والحطُّ على السيدين: أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – وفيه مِن التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنفس القُرشيِّين الصحابة، وبنفس غيرهم ممَّن بعدهم مِن المتأخِّرين جزم بأن الكتاب كله باطل”.
وذهب النجاشي (ت450هـ) في كتابه “الرجال” إلى أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي، وما ذهب إليه النجاشي هو الصحيح بشهادة الرضي نفسه وشهادة شراح كتابه؛ فقد ذكر في الجزء الخامس المطبوع من تفسيره أنه هو الذي ألَّفه ووسمه باسمه “البلاغة”، كما ذكر ذلك في كتاب “مجازات الآثار النبوية”، ويُشير ابن أبي الحديد (ت 655هـ) في شرحه للكتاب يَعترف بأن خطبته مِن عمل الشريف الرضي، ويذهب ابن هيثم البحراني في شرحه عليه إلى أنه مِن تأليف الشريف.
وعلى هذا فالكتاب مِن صنعِ الشريف الرضي، وظهر أنه ليس مِن عمله جميعًا؛ فقد أضاف إليه عدد كبير مِن أرباب الهوى خطبًا كثيرة، ودليل هذه الإضافات ما ذكره المسعودي في “مروج الذهب”؛ إذ يقول: “الذي حفظ الناس عن علي مِن خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً، وكأن الشريف الرضي وجد مدة صاغ منها كتابه”، وهي مادة بُنيت على السجع، وفي ذلك ما يدلُّ على كذب نسبتها إلى عليٍّ؛ إذ ليس من الطبيعي أن يسجع علي في خطابته، بينما ينهى الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – عن السجع، ويتحاشاه أبو بكر وعمر وعثمان في خطبهم – رضي الله عنهم.
ومعنى هذا أنه لا يصح الاعتماد على هذا الكتاب؛ أعني: “نهج البلاغة” في تصور خَطابة علي – رضي الله عنه – وأنه ينبغي الرجوع إلى المصادر الأولى؛ مثل: “البيان والتبيين” للجاحظ؛ فقد روى طرفًا مِن خطبه وكلامه ومواعظه، وقد دفعته حروبه مع طلحة والزبير وعائشة ثم معاوية إلى أن يُكثر من دعوة جنوده إلى جهاد أعدائه وحثِّهم على القتال في سبيل مبدئهم وفكرتهم[7].
ونقول حول هذه القضية: إن ما ذكره شوقي ضيف نقلاً عن عدد من المصادر التاريخية والعلمية بشأن نسبة كتاب “نهج البلاغة” إلى الإمام علي، ومدى صحة هذه النسبة مِن كذبها كلام موثَّق لا يحتمل الشك، غير أن ما علل به مِن حيث إن المادة العِلمية في كتاب “نهج البلاغة” تعتمد على السجع، وعلي – رضي الله عنه – لا يسجع في خطابته؛ لنَهي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن السجع، ولتحاشي أبي بكر وعمر عثمان فن السجع في كلامهم، ولهذا السبب يعدُّ الكِتاب من صنع الشريف الرضي.
إن هذا التعليل تنقصه النظرة العِلمية الدقيقة؛ فنهيُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما هو نهي عن السجع المتكلَّف الذي يُعدُّ مِن قَبيل سجع الكُهان؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم – : ((أسجعًا كَسجْعِ الكُهان؟)).
فلو قال شوقي ضيف: إن اعتماد المادة العلمية لكتاب “نهج البلاغة” على السجع المتكلَّف خطابته، أنه من صنع الشريف الرضي؛ لأنه من الطبيعي أن عليًّا – رضي الله عنه – لا يسجع في خطاباته، وقد نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن السجع المتكلف وتحاشاه أبو بكر وعمر وعثمان، لو قال ذلك لكان تعليله أقرب إلى الصحة والقبول؛ لأننا نجد في كلام كثير مِن الخلفاء والصحابة سجعًا مقبولاً غير متكلَّف.
أما الخصائص الفنية التي اشتمل عليها نصُّ خطبة الإمام علي – رضي الله عنه – في الحثِّ على الجهاد، فإن أول ما يُطالعنا تلك الخصوصية التي هي مِن شأن كل خُطبة إسلامية منذ أن تعلم المسلمون طرائق التعبير على يد محمد – صلى الله عليه وسلم – تلك الخصوصية هي بدء هذه الخطبة بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله.
ويُمكن أن نستوضح الخصائص الفنية الأخرى لهذه الخطبة مِن خلال السمات التالية:
• حسن الافتِتاح.
• تقسيم الخِطاب.
• التفنُّن في الأسلوب.
• الخِتام.
أما حسْنُ الافتِتاح فيتبيَّن مِن بَدءِ الخطبة؛ حيث تدخُل في الغرض دون مقدِّمات وعرض واستدلال، ودليل ذلك قوله – رضي الله عنه – :”أما بعد، فإن الجهاد باب مِن أبواب الجنة، فمَن تركه رغبة ألبسَه الله ثوب الذل..” إلى قوله: “ومنع النصف”، فالأسلوب التعبيري في الافتتاح جاء في غاية الإحكام؛ حيث اعتمد على الأسلوب الإخباري في جُمل تتراوح بين الطول والقِصر.
أما تقسيم الخطاب فقد جاء وفق تقسيمات تتناسَب مع أحوال السامعين، أولئك الذين كان يأمرهم بالجهاد، ولكنهم يتباطؤون في الخروج، ويَعدون بالنفير في وقت غير الذي قيل لهم، وأول هذا التقسيم قوله – رضي الله عنه -:
“ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً و نهارًا وسرًّا وإعلانا”، ثم التأكيد في طلب الخروج إلى القتال مِن قوله:
“وقلتُ لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، والله ما غُزي قوم قطُّ في عقر دارهم إلا ذلوا”، ثم بيان نتيجة هذا الحث والطلب مِن قوله: “فتواكلتم وتخاذلتم، وثَقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظِهريًّا”، ثم بيان ما ترتب على العصيان والتأخُّر عن القتال من قوله: “حتى شُنَّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردَت خيله الأنبار، وقتل حسان – أو ابن حسان – البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالاً صالحين، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهَدة فينزع حَجْلها ورِعاثها”.
ثم يلتفت بأسلوب الخِطاب إلى لون تعبيري آخَر يَحمل في ثناياه عددًا من جمل التقريع واللوم؛ حيث يقول:
“فيا عجبًا مِن جدِّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم، فقبحًا لكم وترحًا حين صِرتُم هدفًا يُرمى، وفيئًا يُنتهب”، ويلي هذه العبارات جمل تتَّسم بالقِصر والسجع الحسَن غير المتكلَّف مِن قوله: “يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصى الله وترضون”.
ثم يَنتقل التقسيم في الخطاب إلى أسلوب حواري تقريعي تتوالى في ثناياه عدد مِن المؤكِّدات؛ كصيغة الأمر، والقسَم، والجمل الاسمية من قوله: “فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا ينسلخ هذا القر..” إلى قوله – رضي الله عنه -: فأنتم والله من السيف أفرُّ، والله لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة – والله – جرَّت ندمًا”.
أما خصوصية التفنُّن في الأسلوب فتكاد تكون هذه الخطبة مِن نسج الحقيقة الصرفة التي لم يُمازجها أسلوب خيالي مِن استعارة أو فنٍّ كنائي إلا ما جاء من الاستعارة في قوله: “ألبسَه الله ثوب الذلَّ”؛ فقد جعل للذل ثوبًا ليكون أشمل في عقاب الله وأخذه.
ونلحظ أنماطًا مِن المقابلات البديعة في قوله: “سرًّا وإعلانًا، وليلاً ونهارًا”، و”باطلهم وحقكم”، و”الحر والبرد”، وقد حفل إطار الخطبة هنا بألوان من الألفاظ المتخيَّرة المُنتقاة التي تلائم الجملة والتركيب، وتُضفي على المعنى جلالة ومهابة وروعة، وبخاصة أن موضوع هذه الخطبة موضوع يتحدَّث عن الجهاد وعن فئة تباطَأت في الخروج إليه، وقد صحب قوة ألفاظ الخطبة ووضوحها وجمالها وسلاستها وبُعدها عن الغرابة عمقُ المعنى ووضوحه وشرفه واقتضاء المقام له، والشأن في ذلك ما قاله أبو هلال العسكري: “ومَن أراد معنى كريمًا فليَلتمِس له لفظًا كريمًا؛ فإن حق المعنى الشريف في اللفظ الشريف، ومِن حقِّهما أن تصونهما عما يُدنِّسهما ويفسدهما ويهجنهما”[8].
وأما أسلوب الخاتمة فقد جاء ملائمًا لما أثير في الخطبة مِن معاني اللَّوم والتقريع، والحث على الجهاد، ونتائج التباطؤ في النفير، وما يلزم الرعية من طاعة أولي الأمر، جاء الختام ملائمًا؛ حيث انقطع صوت الغضب بجملة واحده قد لا تتجاوز خمس كلمات من قوله: “ولكن لا رأي لمَن لا يُطاع”.
ختام يَحمل مِن أسلوب اللوم والتقريع ما يَتناسب مع البناء الشعوري الذي نسجَت خيوطه وأحكمت لبناته عاطفة صادقة حرَّى تتقطَّع أسفًا وحزنًا وغضبًا على ركون هذه الفئة وإخلادها إلى الأرض عاجزةً عن قتال عدوِّها.
ولا يَعذُب التَّكرار في كلام عذوبته في تكرار شيء مِن كلام الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكلام صحابته – رضي الله عنهم أجمعين.
________________________________________
[1] الخطب والمواعظ ص 52، دار المعارف مصر.
[2] الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 63، 66، تحقيق: علي محمد البجاوي وأبي الفضل إبراهيم.
[3] المصدر السابق، ص 168.
[4] المصدر السابق، ص 167.
[5] البيان والتبيين للجاحظ جـ2 ص53 وما بعدها تحقيق وشرح عبدالسلام هارون، والعقد الفريد لابن عبد ربه جـ4 ص136 وما بعدها، تحقيق: محمد سعيد العريان.
[6] انظر وفيات الأعيان لابن خلكان، جـ3 ص 313، تحقيق: الدكتور إحسان عباس – دار صادر، بيروت.
[7] الفن ومذاهبه في النثر الفني؛ د/ شوقي ضيف، ص 61 وما بعدها، ط الخامسة، دار المعارف، مصر.
[8] الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 140.
الألوكة