نعيم الجنة

الجمعة،13صفر1436 الموافق5ديسمبر/كانون الأول2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بقلم الدكتور صالح بن محمد آل طالب
الخطبـــــــــــــــــــــــــــــــــة الـــــــأولــــــــــــــــــــــــــــى

الحمد لله ذي الفضل والعطايا، له وافر الحمد وأزكى التحايا، وهو المؤمَّل لمغفرة الذنوب والخطايا، أَوْعَد ووَعَد، وجعل العاقبة الحسنى لمن آمن به ورشد ومن استقام واهتدى ولم يشرك بربه أحدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، بشَّر أمته بالجنة وأنذرهم بالنار، وتجافى عن هذه الدار طمعًا في دار القرار، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد، أيها المسلمون:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي عُدَّة هذه الحياة للوصول إلى عِدَةِ الإله، ولا تُلهينَّكم الحياة الدنيا؛ فإنَّ الحياة دولابٌ عما قليل سوف يقف، ونفوس إلى آجالها تدنو وتزدلف، ثم يصير الخلق كلهم بعد ذلك إلى وعد الله أو وعيده، ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) ﴾ .

فالمُوفَقُ من جدَّ وشمِّر، وفي مواطن الخيرات سعى وبها استبشر؛ ليحظى بالجنة وبالجنة يظفر.

أيها الصائمون، أيها المتعبدون، أيها الأوابون الأواهون:
بُشَارةُ الله لكم جنَّة الخلد دار السلام، ووُعْدُه لكم أعالي الجنان﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) ﴾ .

الحديثُ عن الجنَّة – أيها المؤمنون – فرياقٌ وسلوان وتشويق وإيمان، وعند العمل الصالح تهفو القلوب إلى موْعودِها، وترتجي الجنات من ربها ومعبودها، فالجنة مَوْعُود رب العالمين، وجائزته للمتقين العاملين، هي سلوى الصابرين ومحط رحال العابدين، هي منازل الأنبياء وسُكْنَى الأصفياء السعداء ومستقر الأولياء.

الجنَّة وما فيها منتهى أمل الآملين، وغاية طموح الطامحين، الحديث عن الجنة هو حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمقصود منه شحذ الهمم وترقيق القلوب وتذكير النفوس وبشارة أهل الإيمان والسنة بما أعدَّ الله لهم في الجنَّة؛ فإنهم المستحقون للبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (25) ﴾ . ﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (23) ﴾ ، ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) ﴾ .

الجنَّة: هي الميعاد، ونعيمها يفوق الوصف والخيال، في الصحيحين: ” مَوْضِعُ سَوْطٍفِيالْجَنَّةِ خَيْرٌمِنَالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا “.

يستقبل أهل الجنة بالأمن والبشارة والخلود، ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) ﴾ .

في الصحيحين أن النبي – صلَّى الله عليه وسَلَّم – قال: ” إِنَّأَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَعَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْعَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً ، لايَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَتَمَخَّطُونَ ،أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ ، وَمُجَامِرُهُمُالأَلُوَّةُ ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورِ الْعَيْنِ ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍوَاحِدٍ ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِيالسَّمَاءِ “.

أيها المسلمون:
في الجنَّة يُلقِي المؤمنُ عنه العناء، ويستريح من الوعثاء، ويحمد الله على هذا المستقر﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) ﴾ .

الجنَّةُ منزَّهةٌ عن كل المنغِّصات، ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) ﴾ .

اقرأ أيضا  خطبة المسجد النبوي - اغتنم حياتك للآخر

اسمعوا – أيها المتقون – إنكم أنتم الوارثون، وهذا الوعد حقٌ والله! ﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) ﴾ ، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) ﴾ .

إنَّ الجنَّة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتز وقصرٌ مَشِيد، ونهر مطلد وفاكهةٌ كثيرةٌ نضيجةٌ، وزوجة حسناء جميلة، وحللٌ كثيرة في مقامٍ أبدا، في حبرة ونضرة، في دور عالية بهية، نُزع من قلوبهم الشحناء والبغضاء وساوس الصدر﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) ﴾ .

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسَلَّم -: قال الله تعالى: ” أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَالا عَيْنٌ رَأَتْ،وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ،وَلا خَطَرَعَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) ﴾ ” رواه البخاري ومسلم.

جناتُ عدنٍ غرفاتها من أصناف الجوهر كله، وخيامها من اللؤلؤ الصافي على شواطئ أنهارها البهيجة، عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تُرْبَتُهَا، واللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لَبِنَاتُهَا، غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية تجري من تحتها الأنهار.

وإن أردت المزيد فاسمع ما يلقاه المؤمنون العاملون الوَجِلُون الذين يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما، ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ .

نعيمُ البدن بالجنان والأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقُرَّة العين بالخلود والدوام، عيشٌ ونعيمٌ أبد الآباد، ﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) ﴾ .

وإن سألت عن الأزواج فالحور العين خيراتٌ حسان جمعن جمال الباطن والظاهر، ﴿ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) ﴾ عُرُبًا متحببات لأزواجهن أبكارا، ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) ﴾ لو اطَّلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا وعطرًا، ولطمس نورها وضياؤها ضياء الشمس، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويجزي الله المؤمنات بإنشائهن على أجمل خلقة، ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ﴾ يجمع الله شملهم ويؤانسهم بأهليهم﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24) ﴾ ، ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) ﴾ .

سرورٌ دائم وبقاءٌ أبدي ونظرةٌ وسعادة﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (29) ﴾ .

اقرأ أيضا  الثبات عند الأزمات وجمع الكلمة

هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه كما تُرى الشمس في الظهيرة والقمرُ ليلة البدر، كما تواترَ عن الصادق المصدوق النقلُ فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد – رضي الله عنهم أجمعين -.

فاستمع يوم ينادي المنادي: “يا أهل الجنة إنَّ ربكم تبارك وتعالى يَسْتَزِيرَكُم، فحيَّ على زيارته، فيقولون سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مُبَادِرِين، فإذا بالنجائبِ قد أُعدَّت لهم، فيستوون على ظهورها مُسْرِعِين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأَفْيَحِ الذي جُعِلَ لهم مَوْعِدًا وجُمعوا هناك، فلم يُغَادر الداعي منهم أحدًا.
أَمَر الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت له منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك، وليس فيهم دني، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقِّل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم، فلا تُردُّ التحية بأحسن من قولهم: “اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام”، فيتجلَّى لهم الربُّ تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟! فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن: قد رضينا، فارضَ عنَّا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الرب جل وعلا الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره وينسون كل نعيم عاينوه، ولولا أن الله سبحانه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في هذا المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته بالدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي، فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه”.

اللهمَّ إنَّا نسألك لذَّةَ النظرِ إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلَّة، اللهمَّ بارك لنا في القرآن والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبــــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــــــــــــــــــــة

الحمد لله جعل جنَّات الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، ونوَّع لهم الأعمال الصالحات؛ ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلاً، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وضرب مدة الحياة الفانية دونها أجلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا غنى لنا طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع لنا في الجنة إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، وخليله ومصطفاه، صلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، أيها المسلمون:
فتلك عبارات ليست إلا إشارات، وإلا فإن الحقائق أعظم والله تعالى أكرم، فهل من مشمرٍ إلى الجنَّة؟! قولوا: نحن المشمِّرون إنَّ شاء الله، فهي والله الحياة! ألا فبؤسًا لمن آثر الحياة الدنيا عليها، فَبَاع جنَّة الخلد بعيشٍ زائل، إنَّ أضحك قليلا أبكى كثيرًا، وإن سرَّ يومًا أحزن شهورًا، أَوَّلُه مخاوف وآخِرُه مَتَالِف، بؤسًا لقومٍ نعيمٌ في الدنيا كأنَّما خُلقوا لها! وسلكوا في تحصيلها كل طريق من حلال أو حرام كأنَّما خُلِّدوا لها! بؤسًا لقومٍ نسوا الآخرة وأهملوها، وتركوا أوامر الله وأضاعوها، غدًا يُقال لهم:﴿ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ (14) ﴾ .

فيا عجبًا ممن آثر الفاني على الباقي! وإنما يظهر الغبن الفاحش يوم القيامة حين تظهر الحسرة والندامة إذا حُشر المتقون إلى الرحمن وفدا، وسيق المجرمون إلى جهنم وردا، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد، ليعلمن أهل الموقف من أولى بالإكرام من بين العباد، فلو رأيت المؤمنين المكرمين، ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ﴾ .

اقرأ أيضا  واجبنا نحو القرآن الكريم

وبعد، يا عباد الله:
فها أنتم في زمن الحرث والعمل والكنز والأمل، وإنما الدنيا صبر ساعة ثم إلى الله المنقلب، فأَرُوا الله من أَنفسِكُم خيرا، ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) ﴾ فالله تعالى يناديكم: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ (25) ﴾ فهَلُمُّوا إلى الجنَّة والرضوان، وكونوا كمن وصف الرحمن: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ﴾ .

وإنَّ في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلَّى بالليل والناس نيام.

وها هو شهر رمضان موسم التوبة والإنابة، وموطن الدعاء والإجابة، شهر الصلاة والصيام والصدقة وصلة الأرحام، تزودوا من الصالحات واستكثروا من الحسنات إلى أن يُقال لكم غدًا في الدار الآخرة: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ﴾ .

قدِّموا لأنفسكم، فإن في الناس الفقراء والمساكين، وأصحاب الديون العاجزين والغارمين، واليتامى والأيامى، ومن غيَّبَتهُم السجون، وأُسَرِ السجناء ومن يتكففون العيش ومن يتعففون، كلهم بحاجة إلى صدقاتكم وزكواتكم.

وفي البلاد لجانٌ وطنيةٌ لرعاية السجناء والمُفْرَج عنهم، ورعاية أُسَرِهِم، تقوم بحاجاتهم، وصَدَرَت الفتوى بصرف الزكاة لهم فأعينوهم، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) ﴾ . فاللهمَّ اجعلنا من أهل الجنَّة.

هذا وصلُّوا وسلموا على خير البريَّة وأزكى البشرية رسول الله محمد بن عبدالله، اللهمَّ صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، اللهمَّ أوردنا حوضه، واحشرنا في زمرته، وارزقنا مرافقته في الجنَّة.

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.

اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهمَّ وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهمَّ أصلح بطانته واصرف عنه بطانة السوء يا رب العالمين. اللهمَّ وفقه ونائبه وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد.

اللهمَّ انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهمَّ انصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهمَّ أصلح أحوال المسلمين، اللهمَّ آمنهم وأرخص أسعارهم واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهمَّ فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّث كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.

اللهمَّ إنَّا نسألك رضاك والجنَّة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهمَّ اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ﴾ .

اللهمَّ تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وصالح أعمالنا.

﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) ﴾ .

اللهمَّ ما سألناك في هذا الشهر الكريم من مسألة صالحة فاجعل أوفر الحظ والنصيب منها لنا ولوالدينا ووالديهم وأزواجنا وذرياتنا، ومن أوصانا بالدعاء ومن أحبنا فيك وأحببناه فيك، ومن له حقٌ علينا.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أن التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: المصدر: منبر الجمعـــــــــــــــــة من الحــــــــــــــرم المكـــــــــــي

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.