الأدب نور العقل
السبت 14 ذو القعدة 1436//29 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ محمد كامل السيد رباح
الأدب نور العقل
عناصر الخطبة:
♦ فضل الأدب
♦ تعريف الأدب
♦ الآيات الواردة في الأدب
♦ الأحاديث الواردة في الأدب
♦ أنواع الأدب
♦ المثل التطبيقي في الأدب من حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
♦ من فوائد الالتزام بالأدب
الحمد لله رب العالمين ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد.
عند الحديث عن الأدب والذوق لا أدري من أين أبدأ، وكيف أنتهي، فنحن منذ فترة ليست بالقصيرة نعيش أزمة في الآداب العامة والذوق العام، نرى هذه الأزمة في أخلاق الناس في السوق، وآدابها في قيادتهم للسيارة، وذوقهم في تعاملهم مع البيئة في المنتزهات والشواطئ.. وطبيعة تعامل الصغار مع كبار السن.
هناك أزمة في الآداب والذوق العام، والمقصود بالذوق هو كل ما يُستحسن أو يُستقبح دينًا وفطرةً من الأفعال والسلوك والأخلاق.
وأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – معنية بهذا الأمر قبل غيرها من الأمم؛ لأن الأخلاق أساس في مكونات دينها، والقرآن يكرر الثناء على الشيم الطيبة ومكارم الأخلاق التي كان يتحلى بها الأنبياء والصالحون في إشارة للأمة بأن تجعلها عبادة يتقرب بها أفراد الأمة إلى ربهم.
عبادَ الله: إن هذه الكلمة -وهي الأدب- كلمة عظيمة، وهي تعني اجتماع خصال الخير في العبد، إنها – عبادَ الله- تعني جمال العبد في ظاهره وباطنه، جَمَالَه في أخلاقه، في جوارحه، في حركاته وسكناته، في هيئته ومظهره، في قيامه وقعوده، في حِلِّه وترحاله، في معاملته، في جميع شؤونه، الأدب ملازم للمسلم في كل حال، إن كلمة الأدب – عباد الله- تعني زكاء العبد في كل حال وفي كل مجال. بالأدب -عباد الله- تزكو النفوس، وتتهذب الأخلاق، وتطيب القلوب، ويجمل الظاهر والباطن. بالأدب -عباد الله- تبتعد النفوس عن رعوناتها، والقلوب عن شرورها، والأخلاق عن رديئها، وسفسافها.
بالأخلاق والأدب -عباد الله- ترتفع منارات الدين، وتتسع رقعته، ويكثر دخول الناس فيه، وتأمل هذا -رعاك الله- في قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران].
قال عبد الله إبن مسعود رضي الله عنه: “اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان، خير من بعض العمل”.
وقال عمر رضي الله عنه” تأدّبوا ثم تعلّموا”.
وقال النخعي: كان العلماء إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه (الحديث الشريف والعلم)، نظروا [أوّلا] إلى سمته وصلاته، وإلى حاله.. ثم يأخذون عنه.
وقال البلخي أدب العلم أكثر من العلم.
وقال عبد الله بن المبارك لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزيّن علمه بالأدب.
وقال إبن عبّاس أطلب الأدب [لفوائده التالية]:
1- فإنه زيادة في العقل.
2- ودليل على المروءة.
3- ومؤنس في الوحدة.
4- وصاحب في الغربة.
5- ومال عند القلّة..
وقال الأحنف بن قيس: “الأدب نور العقل، كما أن النار نور البصر”.
وقال ابن حجر: “الأدب (هو) استعمال ما يحمد، قولا وفعلا “
وقال المناوي: “الأدب رياضة النفوس، ومحاسن الأخلاق، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل”.
وقيل هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ. وقال بعضهم:
“الأدب مجالسة الخلق على بساط الصّدق ومطابقة الحقائق وقيل هو الكلام الجميل الّذي يترك في نفس سامعه أو قارئه أثرا قويّا يحمله على استعادته والاستزادة منه والميل إلى محاكاته”.
قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: “علم الأدب هو علم إصلاح اللّسان والخطاب وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العامّ.
وعلى هذا فالأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وبتعبير آخر: الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف مع المستحسنات.
الآيات الواردة في “الأدب”.
الأدب مع اللّه – عزّ وجلّ – والقرآن الكريم:
1- ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].
2- ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
3- ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].
4- ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53].
5- ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 33، 34].
الأدب مع رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم -:
1- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104].
2- ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 62].
3- ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
4- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1].
5- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]
الأدب مع الإنسان:
• ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86].
• ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27].
• ﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28].
الأحاديث الواردة في (الأدب):
1- (عن عقبة بن عامر- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – يقول: “إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يدخل بالسّهم الواحد ثلاثة نفر الجنّة:
صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرّامي به، ومنبله وارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا.
ليس من اللّهو ثلاث: تأديب الرّجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرّمي بعد ما علمه رغبة عنه، فإنّها نعمة تركها أو قال: كفرها”[1].
2- (عن معاذ – رضي اللّه عنه – قال أوصاني رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – بعشر كلمات. قال: “لا تشرك باللّه شيئا وإن قتلت وحرّقت، ولا تعقّنّ والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركنّ صلاة مكتوبة متعمّدا؛ فإنّ من ترك صلاة مكتوبة متعمّدا فقد برئت منه ذمّة اللّه، ولا تشربنّ خمرا، فإنّه رأس كلّ فاحشة، وإيّاك والمعصية، فإنّ بالمعصية حلّ سخط اللّه- عزّ وجلّ-، وإيّاك والفرار من الزّحف وإن هلك النّاس. وإن أصاب النّاس موتان وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في اللّه”[2].
3- (عن الشّعبيّ أنّ رجلا من أهل خراسان سألة فقال: يا أبا عمرو! إنّ من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرّجل إذا أعتق أمته ثمّ تزوّجها: فهو كالرّاكب بدنته. فقال الشّعبيّ: حدّثني أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه أنّ رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – قال: “ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وأدرك النّبيّ – صلّى اللّه عليه وسلّم – فآمن به واتّبعه وصدّقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ اللّه تعالى وحقّ سيّده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذّاها فأحسن غذاءها، ثمّ أدّبها فأحسن أدبها، ثمّ أعتقها وتزوّجها فله أجران” ثمّ قال الشّعبيّ للخراسانيّ:
خذ هذا الحديث بغير شي ء. فقد كان الرّجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة”[3].
أنواع الأدب:
والأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله سبحانه. وأدب مع رسوله – صلى الله عليه وسلم – وشرعه. وأدب مع خلقه.
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع:
أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.
الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.
الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه
.
وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله. وقال ابن مبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم. وسئل الحسن البصريرحمه الله عن أنفع الأدب؟ فقال: التفقه في الدين. والزهد في الدنيا، والمعرفةبما لله عليك. وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن استعمال الأدب: فإنه يرجع من حيث جاء.
وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله، وخطابهم وسؤالهم. كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام إن كنت قلته فقد علمتهولم يقل: لم أقله. وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب. ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره. فقال: تعلم ما في نفسيثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه، فقال ولا أعلم ما في نفسكثم أثنى على ربه. ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها. فقال إنك أنت علام الغيوبثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به – وهو محض التوحيد – فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكمثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم. وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم. فقال: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم. فقال: وأنت على كل شيء شهيدثم قال: إن تعذبهم فإنهم عبادكوهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام. أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم. وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك. فإذا عذبتهم – مع كونهم عبيدك – فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له – لم تعذبهم. لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته. فلماذا يعذب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؟ لولا فرط عتوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.
وقد تقدم قوله: إنك أنت علام الغيوبأي هم عبادك. وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم. فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه. فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه. فليس في هذا استعطاف لهم، كما يظنه الجهال. ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة، كما تظنه القدرية. وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.
ثم قال: ﴿ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] ولم يقل: الغفور الرحيم [ص: 359] وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى. فإنه قاله في وقتغضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار. فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة. بل مقام براءة منهم. فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم. فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم.
والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم. ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه. ولجهله بمقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم. وهو العزيز الحكيم. وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب.
وكذلك قول إبراهيم الخليل – صلى الله عليه وسلم -: الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفينولم يقل: وإذا أمرضني. حفظا للأدب مع الله.
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة فأردت أن أعيبها. ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها. وقال في الغلامين: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما.
وكذلك قول مؤمني الجن: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرضولم يقولوا: أراده بهم. ثم قالوا: أم أراد بهم ربهم رشدا.
وألطف من هذا قول موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقيرولم يقل: أطعمني.
الادب مع رسول الله:
عباد الله: وأما الأدب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه يكون بمعرفة قدره -عليه الصلاة والسلام-، ومعرفة مكانته، وأنه رسول من عند الله، وأنه – صلى الله عليه وسلم – بلغ الناس دين الله على أتم وجه وأحسن حال، ومن الأدب مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، بل عين الأدب معه: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر و الأدب مع رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – يعني كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقّي خبره بالقبول والتّصديق.
ويقول ابن القيم: “وأما الأدب مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب معه كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المُرْسِل بالعبادة والخضوع، والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المُرْسِل، وتوحيد متابعة الرسول فلا يُحاكم إلى غيره..”.
ثالثا: الأدب مع الخلق:
وأمّا الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم- على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكلّ مرتبة أدب.والمراتب فيها أدب خاصّ. فمع الوالدين: أدب خاصّ للأب منهما أدب هو أخصّ به، ومع العالم: أدب آخر، ومع السّلطان: أدب يليق به وله ومع الأقران أدب يليق بهم. ومع الأجانب: أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه. ومع الضّيف: أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكلّ حال أدب: فللأكل آداب. وللشّراب آداب. وللرّكوب والدّخول والخروج والسّفر والإقامة والنّوم آداب. وللتّبوّل آداب. وللكلام آداب.
وللسّكون والاستماع آداب.
فما أجملَ -عبادَ الله- أدبَ الشريعة!! وما أجملَ أدبَ المؤمن مع ربه وخالقه وسيده ومولاه!! وما أجملَ أدبَ المؤمن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالتقيد بسنته ولزوم هديه -عليه الصلاة والسلام-!! وما أجمل لزوم آداب الشريعة مع عباد الله -جل وعلا- بمعاملة كل منهم بالمعاملة اللائقة المناسبة!! والضابط في ذلك أن تأتي للناس بالشيء الذي تحب أن يؤتى إليك، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
المثل التطبيقي من حياة النبي – صلّى اللّه عليه وسلّم – في (الأدب):
• (عن سهل بن سعد – رضي اللّه عنه – “أنّ رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – أتي بشراب فشرب منه- وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ- فقال للغلام:
“أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟” فقال الغلام: واللّه يا رسول اللّه لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال: فتلّه” رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – في يده)[4].
• (عن أنس بن مالك – رضي اللّه عنه – قال: “إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – والعبد، ويجيب إذا دعي”.
(وفي رواية) قال: “كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – فتنطلق به حيث شاءت”[5].
• (عن أبي فراس قال: خطبنا عمر ابن الخطّاب – رضي اللّه عنه – قال: “إنّي لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم [6]، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إليّ أقصّه منه” قال عمرو بن العاص:
“لو أنّ رجلا أدّب بعض رعيّته أتقصّه منه [7]؟”. قال:
“إي [8] والّذي نفسي بيده أقصّه، وقد رأيت رسول للّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – أقصّ من نفسه[9].
• (عن عبد اللّه بن بشر – رضي اللّه عنهما – قال: كان رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول “السّلام عليكم، السّلام عليكم”، وذلك أنّ الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور[10].
• (عن حنظلة بن حذيم- رضي اللّه عنه- قال: “كان رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – يعجبه أن يدعو الرّجل بأحبّ أسمائه إليه وأحبّ كناه”[11].
• (عن أنس بن مالك – رضي اللّه عنه – قال: “ما رأيت رجلا التقم أذن رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – فينحّي رأسه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينحّي رأسه، وما رأيت رجلا أخذ بيده فترك يده، حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده”.
وفي رواية التّرمذيّ قال: “كان النّبيّ – صلّى اللّه عليه وسلّم – إذا استقبله الرّجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتّى يكون الرّجل الّذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتّى يكون الرّجل هو يصرفه، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له”[12].
• (عن أبي هريرة – رضي اللّه عنه – قال: ما عاب النّبيّ – صلّى اللّه عليه وسلّم – طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه”[13].
من فوائد الالتزام بالأدب:
مع أنواع الأدب الّتي ذكرت في مقدّمة هذه الصّفة، ومع تقدير أنّ الأدب هو الدّين كلّه، فإنّ الالتزام بالأدب يحقّق فوائد عديدة للإنسان المسلم كما يلي:
1- يصفّي سلوك الفرد ممّا يشينه وينتقصه.
2- يجعل النّاس يتحلّون بالمحامد والمكارم ويبتعدون عن المناقص.
3- يجعل الإنسان يحترز عن الخطأ ويتحرّى الصّواب.
4- يهذّب الأخلاق ويصلح العادات.
5- يجعل الإنسان يلتزم بالمنهج الإلهيّ في الأرض ممّا يصلح أحواله.
6- والالتزام بالأدب مع اللّه يحقّق التّقوى في قلب الإنسان.
7- والالتزام بالأدب مع رسول اللّه يحقّق التّسليم والانقياد للطّاعة فيما أمر ونهى.
8- والالتزام بأدب الشّريعة يؤدّي بالإنسان إلى القيام بأركان المنهج الإلهيّ.
9- والالتزام بأدب السّياسة، يؤدّي بالإنسان إلى القيام بواجباته في حياته كلّ بما يستحقّه، وفي هذا ضمان لحسن سير الحياة.
10- يحقّق الالتزام بالأدب توجّها نفسيّا وأثرا قويّا يحمل الإنسان على الاستزادة من الالتزام بضمان الأدب.
11- يحقّق الالتزام بالأدب قاعدة اجتماعيّة قويّة تتيح مناخا ملائما للحياة الصّالحة.
12- يحقّق الالتزام بالأدب تحرّيا للخير، ودعوة إلى القيم الرّفيعة تمنع انفلات الإنسان وهبوطه إلى الأدنى، أو ارتكاب الأفعال الهابطة، بل تدعوه إلى التّسامي وقمع الشّهوات.
13- يحقّق الالتزام بالأدب وحدة، دائمة، وانسجاما في الإنسان وسلوكه الفرديّ والاجتماعيّ.
14- يحقّق الالتزام بالأدب الوحدة في أدب التّلقّي والتّعلّم.
15- يحقّق الالتزام بالأدب الإيجابيّة في الحياة، وإتاحة الفرصة للإبداع والابتكار، والحيويّة في السّلوك.
عباد الله: اتقوا الله تعالى، ثم اعلموا -رعاكم الله- أن الأدب والخلق منة الله -جل وعلا- على من يشاء من عباده، كما قال أحد التابعين: إن هذه الأخلاق وهائب؛ فإذا أحب الله عبده وهبه منها. ولهذا -عباد الله- من أراد لنفسه أن يكون متحليًا بالأدب، متخلقًا بأخلاق الإسلام، فعليه أن يقبل على الله -جل وعلا- إقبالاً صادقًا مُلِحًّا عليه بالدعاء، صادقًا في الرجاء، مؤملاً من الله -جل وعلا-؛ فهو لا يخيب عبدًا دعاه، ولا يرد عبدًا ناداه.
وقد جاءت السنة -عباد الله – بأدعية عظيمة، أرشد إليها الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وهي من الوسائل المباركة، والأسباب النافعة لاكتساب الآداب، ومنها ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- في دعائه حيث قال: “اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء”. وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: “اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في دعائه: “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت”. فبالمحافظة على هذه الأدعية المباركة، ومع الأخذ بالأسباب النافعة والوسائل الشرعية المحمودة، يرتفع أدب الإنسان، ويزين خلقه، وتطيب معاملته، والتوفيق بيد الله وحده.
والله من وراء القصد
________________________________________
[1] أبو داود (2513) واللفظ له، والترمذي (1637) وقال الترمذي ومحقق جامع الأصول (5/ 43- 44): حديث حسن، والنسائي (6/ 28) ومعنى قوله: رغبة عنه أي كراهية له.
[2] أحمد (5/ 238) واللفظ له، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 215) وقال: رجال أحمد ثقات، إلا أن عبد الرحمن بن جبير لم يسمع من معاذ، ورواه الطبراني في الكبير وأخرجه المنذري في الترغيب (1/ 383) وقال نحو قول الهيثمي، والألباني مختصرا في صحيح الجامع (3/ 157) من حديث أبي الدرداء.
[3] البخاري- الفتح 6 (3011)، مسلم (154) واللفظ له..
[4] البخاري- الفتح 10 (5620) واللفظ له مسلم (2030).
[5] البخاري- الفتح 10 (6072).
[6] البشرة: هي ظاهر الجلد، ويجمع على أبشار.
[7] أي إذا كان التأديب بغير حق فإني آخذ له بالقصاص منه.
[8] قوله: إي … إلخ معناه: نعم والذي نفسي … إلخ. قصّ من نفسه: أي مكّن من آذاه من أن ينزل بالنبي مثل الذي أنزله به.
[9] أبو داود رقم (4537) 4/ 181.
[10] أبو داود (5186) واللفظ له، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول (6/ 584) وقال محققه: إسناده حسن.
[11] الهيثمي في المجمع (8/ 56) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[12] أبو داود (4794)، وقال الألباني في صحيح أبي داود (3/ 910): حسن وهو في الصحيحة برقم (2485)، والترمذي (2490) وقال محقق جامع الأصول (11/ 250) وهو حديث حسن.
[13] البخاري- الفتح 9 (5409) واللفظ له، مسلم (2064).
الألوكة